الأمن الغذائي العربي تحت المجهر التحديات والتوقعات
م. محمد البسام
على الرغم مما تمتلكه الدول العربية من خيرات وفيرة من حيث الأراضي الزراعية والمياه والقوى البشرية، وما تتميز به من موقع جغرافي يساهم في تنويع نشاطاتها الزراعية ومشروعاتها الخاصة بالثروة الحيوانية والسمكية، فإنَّ الإفادة من كل الإمكانات وتسخير كل الثروات لخدمة الأمن الغذائي العربي لم يكن بالصورة المنشودة حتى الآن، ولم يلب الطموحات. ويؤكد ذلك الأرقام التي تنشرها منظمات وهيئات إقليمية وعربية ودولية، تظهر الأخطار الكبيرة التي يتعرض لها الأمن الغذائي العربي، والمستقبل الضبابي الذي ينتظره، والتحديات الصعبة التي ستواجهها المجتمعات العربية في مجال الثروات الزراعية والحيوانية والسمكية والمائية إن لم تتخذ الإجراءات الضرورية العاجلة.
ومن أحدث الإحصاءات في هذا الشأن ما جاء في تقرير (الأمن الغذائي.. التحديات والتوقعات) الذي أصدره (المنتدى العربي للبيئة والتنمية)، ونشره في مؤتمره الذي عقده في الأردن في نوفمبر الماضي -كانت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي أحد الرعاة الرئيسيين له- ضمن تقاريره السنوية التي تستهدف ترسيخ الاعتماد على العلم في السياسات البيئية واتخاذ القرارات لتنمية الوطن العربي.
وتضمن التقرير ستة فصول تطرق الدكتور عبدالكريم صادق في أولها إلى (وضع الأمن الغذائي والموارد الزراعية)، وناقش الدكتور محمود الصلح في الثاني (دور العلم والتكنولوجيا في تعزيز الأمن الغذائي)، وبحث الفصل الثالث الذي أعده كل من كامل شديد وأحمد مزيد وذيب عويس و مارتن فان جينكل في (مساهمة الزراعة البعلية وصغار المزارعين في الاكتفاء الغذائي)، في حين جاء الفصل الرابع الذي أعده كل من نديم خوري وفيديل بيرينغيرو بعنوان (تطوير سلاسل الغذاء)، وتطرق الدكتور أيمن أبو حديد في الفصل الخامس إلى (أثر تغير المناخ على الأمن الغذائي)، فيما تطرق الفصل السادس والأخير الذي أعده الدكتور شادي حمادة إلى (الثروة الحيوانية والأمن الغذائي).
واحتوى التقرير على ثلاثة ملحقات أعد الدكتور حافظ غانم أولها بعنوان (تقلب أسعار الغذاء وتداعياته على الأمن الغذائي العربي)، وتطرق الدكتور طارق الزدجالي في الثاني إلى (تنمية الثروة السمكية في الوطن العربي)، في حين ناقش الدكتور وليد الزباري في الثالث موضوع (تجارة المياه الافتراضية كأداة للسياسات تسهم في تحقيق الأمن الغذائي في بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية).
وشارك في إنجاز التقرير الذي أشرف على تحريره الدكتور صادق والدكتور الصلح، إضافة إلى الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية نجيب صعب مجموعة من الخبراء ينتمون إلى مختلف مناطق الوطن العربي، وجاء ثمرة عمل جماعي تعاوني، تم تحقيقه بالاشتراك مع منظمات وهيئات إقليمية ودولية وجامعات ومراكز أبحاث، وساهم فيه أكثر من 200 باحث واختصاصي.
الاكتفاء الغذائي الذاتي
تواجه البلدان العربية في مسعاها إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي الغذائي تحديات جدية ناتجة عن مجموعة من العوامل المقيِّدة، تشمل الجفاف، ومحدودية الأراضي للزراعة، وندرة الموارد المائية، وتداعيات تغير المناخ. وساهمت السياسات غير الملائمة والاستثمار الضئيل في العلوم والتكنولوجيا والتنمية الزراعية في تدهور الموارد الزراعية، إلى جانب الاستخدام غير الكفء لها وإنتاجيتها المتدنية. ويمثّل النمو السكاني، والطلب المتزايد على الغذاء، وتدهور الموارد الطبيعية، وتحويل الأراضي الزراعية إلى الاستخدام الحضري، تحديات إضافية أمام تحسين مستوى الأمن الغذائي في المنطقة العربية. ويبرز العجز الغذائي من خلال نسبة الاكتفاء الذاتي البالغة نحو %46 للحبوب، و%37 للسكر، و%54 للدهون والزيوت، أي إن العجز يصل إلى نحو نصف الحاجة من المواد الغذائية الأساسية.
ويذكر الملخص التنفيذي للتقرير أنَّ الغذاء والماء يرتبطان في شكل غير قابل للفكاك؛ فالمنطقة العربية تواجه معضلة ندرة المياه، التي تعكسها الحصة السنوية للفرد من الموارد المتجددة والبالغة أقل من 850 متراً مكعباً، مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يفوق 6000 متر مكعّب. ويخفي هذا المتوسط الإقليمي المستويات المتفاوتة في شكل كبير بين البلدان، التي تُصنَّف 13 منها في فئة الندرة الشديدة للمياه، بحصة سنوية للفرد تقل عن 500 متر مكعّب. والوضع مقلق جداً في ستة من هذه البلدان، حيث تبلغ المياه المتجددة المتوافرة 100 متر مكعّب سنوياً للفرد.
هدر المياه
ويبرز هدر المياه في المنطقة العربية من خلال استخدام نحو %85 من إجمالي السحوبات المائية لأغراض القطاع الزراعي، المتسم بتدني كفاءة الري وإنتاجية المحاصيل. وتتعرض الموارد المائية النادرة، بما فيها المياه الجوفية غير المتجددة، إلى ضغوط هائلة، كما يتبيّن من المعدلات العالية للسحوبات المائية لأغراض زراعية، بمتوسط يساوي %630 من إجمالي المياه المتجددة في بلدان مجلس التعاون الخليجي، ويصل إلى
%2460 في الكويت.
وترى منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن البلدان تكون في وضع حرج إذا استخدمت أكثر من %40 من مواردها المائية المتجددة للزراعة، ويمكن اعتبارها تعاني إجهاداً مائياً إذا استخرجت أكثر من %20 من هذه الموارد. ووفق هذا التعريف، يمكن تصنيف 19 بلداً عربياً في حال من الإجهاد المائي، لأن معدلات السحب الحالية من مواردها المائية المتجددة لأغراض زراعية تفوق بأشواط الحدود المقبولة.
ويمكن تحسين وضع الأمن الغذائي في البلدان العربية من خلال الإنتاج المحلي، في ضوء الأراضي الزراعية المحدودة، والموارد المائية التي تعاني الاستنزاف والتراجع، ناهيك عن افتقار القدرة الحيوية للموارد الزراعية، مهمة صعبة.
لكن ثمة إمكانات جديرة بالاعتبار متوافرة على صعيد تحسين نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي، من خلال تبني السياسات السليمة والتقنيات الزراعية المحسَّنة، وخلق سلسلة متكاملة للقيمة الغذائية تستطيع ضمان الأمن الغذائي استناداً إلى أسس توافر الغذاء وسهولة مناله واستخدامه واستقراره.
ويتطلب تحسين ذلك الجانب من الأمن الغذائي المتعلق بالاكتفاء الذاتي مقاربة إقليمية متكاملة وشاملة للجميع، تقرّ بالعلاقة المتلازمة بين الغذاء والماء والطاقة، ونموذجاً جديداً للاستدامة الزراعية يعتمد على اعتبارات اقتصادية واجتماعية وبيئية.
خيارات ضرورية
ومن ضمن هذا الإطار، يمكن تحديد عدد من الخيارات لتحسين نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي، خصوصاً من خلال الاستخدام الفاعل للموارد الزراعية المتوافرة، إضافة إلى موارد الثروتين الحيوانية والسمكية. وتشمل هذه الخيارات ما يأتي:
– تحسين كفاءة الري: ويُعتبَر إنتاج مزيد من المحاصيل الزراعية بمياه أقل خياراً أهمية كبرى في تعزيز الأمن الغذائي للبلدان التي تعاني ندرة في المياه. وهو يعتمد على اختيار النوع الصحيح من القنوات لنقل المياه إلى الحقول، واعتماد وسائل أكثر فاعلية للري مثل الرش أو التنقيط، والزراعة في مساكب عريضة مرتفعة، ومستوى التنظيم والانضباط لدى المزارعين، ويقل متوسط كفاءة الري في 19 بلداً عربياً عن %46، ويُقدَّر أن رفع هذا الرقم إلى %70 كفيل بتوفير 50 مليار متر مكعب من المياه سنوياً. وفيما يُقدَّر أن الري المطلوب لكل طن من الحبوب يبلغ 1500 متر مكعب، يمكن للكمية الموفرة من المياه أن تكفي لإنتاج أكثر من 30 مليون طن من الحبوب، أو %45 من واردات الحبوب بقيمة 11.25 مليار دولار وفق أسعار عام 2011.
– تعزيز إنتاجية المحاصيل: إن إنتاجية الحبوب في المنطقة العربية متدنية إجمالاً، خصوصاً بالنسبة إلى الحبوب الرئيسية، إذ تبلغ نحو 1133 كيلوغراماً للهكتار في خمسة من البلدان الرئيسية في إنتاج الحبوب وهي الجزائر والمغرب والعراق والسودان وسوريا، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ نحو 3619 كيلوغراماً للهكتار.
– تحسين إنتاجية المياه: إضافة إلى زيادة كفاءة الري، يمكن رفع إنتاجية المياه على أي من الصعيدين الاقتصادي أو العملي، من خلال تخصيص المياه لمحاصيل أعلى قيمة أو إنتاج محاصيل أكثر في مقابل كمية المياه نفسها. ويعتمد انتقاء خيار من الاثنين على الأهمية التي توليها البلاد لقيمة المحاصيل أو كميتها في السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي الأوسع.
ويمكن تعزيز إنتاجية المياه بمزيج من العوامل التي تشمل الممارسات الزراعية المحسّنة، مثل أساليب الري الحديثة، والتصريف المحسّن، والزراعة الحمائية أو الزراعة من دون حراثة، والبذور المحسّنة المتوافرة، والاستخدام الأمثل للأسمدة، والتقنيات المبتكرة لحماية المحاصيل، وخدمات الإرشاد الفاعلة.
– استخدام مياه الصرف المعالَجة: لا تزال مياه الصرف غير مستغلة إلى حد كبير في الاستخدام الزراعي عبر البلدان العربية. فالكمية المعالجة سنوياً من مياه الصرف البلدي تساوي نحو %48 فقط من نحو 14.310 مليون متر مكعب سنوياً، فيما الكمية الباقية تُرمى من دون معالجة. ولا تتجاوز كمية مياه الصرف المعالجة المستخدمة في الري الزراعي %9 من الإجمالي في بلدان مثل مصر والأردن والمغرب وتونس، فيما بلدان مجلس التعاون الخليجي تستخدم نحو %37 من مياه الصرف المعالجة في الزراعة.
– تقليص خسائر ما بعد الحصاد: تُعزى الأسباب الرئيسية لهذه الخسائر إلى وسائل غير مناسبة مستخدمة في حصاد المحاصيل ومعالجتها ونقلها وتخزينها، إلى جانب خدمات لوجستية غير فاعلة على صعيد سلسلة إمدادات الواردات. ويُقدَّر أن الخسائر السنوية للحبوب في البلدان العربية بلغت نحو 6.6 مليون طن في 2012. كذلك تصل خسائر القمح المستورد في بعض البلدان العربية إلى نحو 3.3 مليون طن بسبب خدمات لوجستية غير فاعلة على صعيد الاستيراد. وتبلغ القيمة الإجمالية لخسائر ما بعد الحصاد للحبوب وخسائر واردات القمح إلى نحو 3.7 مليار دولار وفق أسعار 2011، ما يمثل %40 من القمح المنتج في البلدان العربية كلها في حساب القيمة. وهذا يساوي قيمة نحو أربعة أشهر من واردات القمح.
– التعاون الإقليمي: يُعتبر التعاون بين البلدان العربية على أساس الميزات النسبية في الموارد الزراعية والمالية خياراً أساسياً لتعزيز الأمن الغذائي على المستوى الإقليمي.
ويتطلب التعاون ليكون فاعلاً مقاربة تستند إلى مواءمة الاستراتيجيات والسياسات الزراعية الوطنية، وزيادة الاستثمار في العلوم والتقنية والتنمية الزراعية، وتنظيمات وتدابير وحوافز تفضي إلى استخدام فاعل للموارد، وحفظاً للقدرة الحيوية المنتجة للموارد البرية والمائية التي تشكل حجر الزاوية للإنتاج الزراعي على المستويات الوطنية والإقليمية الفرعية والإقليمية.
– تطوير الثروتين الحيوانية والسمكية: تملك البلدان العربية موارد جديرة بالاعتبار على صعيد الثروتين الحيوانية والسمكية. وهي شبه مكتفية ذاتياً علي مستوى الأسماك، لكن نحو %25 من الطلب على اللحوم يُلبى عن طريق الواردات. ويُتوقع أن تزيد هذه النسبة في المستقبل بسبب زيادات السكان والثروة والتحضّر. وتوفر الثروات السمكية في البلدان العربية إمكانات كبيرة، ليس لتلبية الطلب المحلي فحسب بل كذلك للتصدير. وقد بلغت صادرات الأسماك 912.460 طناً بقيمة نحو ثلاثة مليارات دولار عام 2013. لكن يمكن زيادة هذه الصادرات، ويتطلب إطلاق العنان لإمكانات قطاع الثروة السمكية معالجة المشكلات والاختناقات المختلفة التي تواجه تطويره. وتُعتبر الحوكمة المشتركة لمخزونات الثروة السمكية في البلدان العربية حاسمة أيضاً، فالحدود العابرة للبحار تتأثر بسلامة تجمعات مائية كاملة، ولا تقل الأسماك كمصدر للبروتين الغذائي أهمية عن اللحوم. ويجب التشجيع على استهلاك الأسماك للحد من الاستهلاك المفرط للحوم لأسباب اقتصادية وصحية، وكذلك التفكير في تأثير إنتاج الثروة الحيوانية على الموارد المائية النادرة والبيئة.
ويمكن لمفهوم المياه الافتراضية أن يكون أداة مهمة للتعاون في الأمن الغذائي بين المناطق وفق قربها الجغرافي والميزة النسبية في الموارد الزراعية. وهذا قد يعني مثلاً توسيع التعاون بين البلدان العربية والإفريقية، حيث يمكن تعويض محدودية الأراضي وندرة المياه في البلدان العربية بالاستفادة من الميزات النسبية للبلدان الإفريقية على صعيد الموارد الطبيعية والزراعية.