Eng. Mohammed Alhassan
يشكل الأمن الغذائي هاجسا مستمرا لجميع الدول الساعية إلى الحفاظ على الاستقرار، وتوفير معيشة كريمة لأبنائها، وتيسير سبل الحياة في مجتمعاتها، وتجنب فقدان الأطعمة الضرورية لشعوبها، والحد من تفاقم المشكلات الصحية الناجمة عنها.
ويرتبط الأمن الغذائي ارتباطا وثيقا بأمن الشعوب واستقرارها ورفاهيتها، وبمشكلة الهجرة من أريافها إلى المدن الرئيسية فيها، أو إلى بلدان أخرى، كما يرتبط بحسن الإدارة والتخطيط والتنظيم في الجهات المسؤولة عن هذا المجال، إضافة إلى عوامل المناخ والتعليم والتكنولوجيا والمعرفة.
ووفق مؤتمر القمة العالمي للأغذية، الذي عقد في عام 1996، فإن الأمن الغذائي يتحقق عندما يتمتع البشر كافة في جميع الأوقات بفرص الحصول، من الناحيتين المادية والاقتصادية، على أغذية كافية وسليمة ومغذية تلبي حاجاتهم التغذوية وتناسب أذواقهم الغذائية كي يعيشوا حياة موفورة النشاط والصحة.
وهذا التعريف للأمن الغذائي يشير إلى نطاق واسع من العوامل التي ينبغي توفرها للشخص كي يتمتع بالأمن الغذائي. كوجود إنتاج محلي أو استيراد أو كليهما، وتمكُّن الأسر من الحصول على الأغذية، ما يعني ضرورة وصولها ماديا إلى الأسواق وقدرة المستهلكين المالية على تحمل تكاليف شراء الأغذية. و يعني التعريف أيضا أن يستهلك الأفراد الغذاء بكمية كافية ونوعية مناسبة، وأن يتمتعوا بالصحة الكافية للاستفادة من الطعام.
تقرير مشترك
ويسلط تقرير أممي حديث الضوء على مشكلات الأمن الغذائي في الوطن العربي، والحالة السائدة للأغذية والزراعة فيه. وأعد التقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، والمكتب الإقليمي للشرق الأدنى وشمال أفريقيا التابع لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو).
ومن المأمول أن يعزز هذا التقرير حوارا قائما على الأدلة عن السياسات المتعلقة بالأمن الغذائي والتنمية المستدامة في المنطقة العربية، ليس فقط بين صناع القرار الملتزمين باستمرار رفاهية السكان العرب، بل أيضا بين عامة الجمهور بما في ذلك المجتمع المدني ووسائل الإعلام.
ويقسم التقرير إلى جزأين يحتوي أولهما على لمحة عامة عن الأمن الغذائي في المنطقة العربية، بما في ذلك توفر الأغذية وإمكانية الحصول عليها والاستفادة منها، في حين يتضمن الجزء الثاني تحليلا معمقا لموضوعات مختارة منها الزراعة المحلية، والتجارة الدولية للأغذية، وفقد الأغذية وهدرها، والآفاق المستقبلية.
وقال وكيل الأمين العام والأمين التنفيذي للجنة (الإسكوا) محمد الحكيم في تقديمه للتقرير إن الأمن الغذائي ظل يشغل موقعا متقدما في جدول أعمال بلدان المنطقة، وأسفر ذلك عن تحقيق 14 بلدا عربيا لهدف الجوع من الأهداف الإنمائية للألفية، الذي ينص على خفض انتشار الجوع إلى النصف خلال الفترة 1990 – 2015. واستمرت زيادة نصيب الفرد من الإنتاج الغذائي وتناقص سوء التغذية في البلدان غير المتأثرة بالنزاعات. ونجحت عدة بلدان في المنطقة في وضع الزراعة على مسار التحول الهيكلي، محققة نتائج إيجابية من حيث الصادرات الغذائية والحد من الفقر.
أما المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) غرازيانو دا سيلفا فقال في مقدمته إن الأمن الغذائي لا يزال مصدر قلق مستقبلي كبيرا في المنطقة، فلاتزال الإنتاجية المادية والاقتصادية للموارد الطبيعية منخفضة نسبيا، ولاتزال المنطقة تتأثر – إلى حد كبير- بتقلبات أسواق الأغذية العالمية. وتشير التوقعات البديلة إلى مستقبل أفضل بعض الشيء للإنتاج المحلي، لكن المنطقة ستظل تعتمد في تلبية حاجاتها على واردات الأغذية، ما قد يثير تحديات متزايدة لأقل البلدان نموا.
منظور شامل للأمن الغذائي
يتضمن التقرير في جزئه الأول الذي حمل عنوان (الأمن الغذائي في المنطقة العربية من منظور شامل) أربع قضايا رئيسية أولاها (ازدياد اعتماد السكان المتنامي على الواردات). وفي هذا الموضوع يذكر التقرير أن كمية الأغذية المستهلكة على المستوى الوطني تعتمد كثيرا على التوزيع الديمغرافي، وأن بلدان المنطقة العربية تشهد فترة من التحول الديمغرافي يتصف بارتفاع معدل النمو السكاني والتوسع العمراني المتزايد. فقد ازداد عدد سكان المنطقة بين عامي 1950 و2010 بنحو خمسة أضعاف، لكن المحدد الأساسي الثاني للاستهلاك الغذائي، أي متوسط استهلاك الفرد، لم يتغير بالقدر الكبير نفسه. أما من حيث العمراني، فسيكون نحو 90 % من الزيادة في سكان المنطقة في السنوات المقبلة في المدن، لتصل نسبة من يعيشون في المدن إلى نحو 70 %.
وتسد الواردات الفجوة الآخذة في الاتساع بين الإنتاج والاستهلاك. وحيث يمكن تحمل تكلفة الواردات، على أساس صادرات السلع والخدمات، يكون توفر الأغذية على المستوى الوطني مأمونا، لكن عوائد الصادرات في بعض البلدان العربية لا تكفي لسد حاجتها من واردات الأغذية، لذا فإن هذه البلدان معرضة بدرجة كبيرة لخطر نقص الإمدادات الغذائية العالمية، وبالتالي لصدمات الأسعار.
وفي القضية الثانية يتطرق التقرير إلى موضوع (الحصول على الغذاء) باعتباره يمثل تحديا اقتصاديا، وذلك حتى في البلدان التي يستقر فيها توفر الأغذية على المستوى الوطني.
وتتطرق القضية الثالثة إلى موضوع (نقص التغذية والمغذيات الدقيقة ووجود البدانة)، مشيرا إلى المشكلات الناجمة عن نقص التغذية في بعض الدول العربية لاسيما اليمن والصومال وسوريا، وإلى وجود بدانة في الوقت نفسه لدى نحو ربع السكان في المنطقة العربية. أما القضية الرابعة فهي دور كل من النزاعات المسلحة وتغير المناخ في تفاقم تحديات الأمن الغذائي. فالنزاعات تحول دون وصول الإنتاج الغذائي إلى الأسواق المحلية و الدولية، فيزداد الفقر والخطر على إمدادات الأغذية والمياه، ويصُعب الحصول على الرعاية الصحية. كما أن المنطقة تعاني جفافا شديدا بسبب تغير المناخ مما يزيد من ضغوط التحديات القائمة المتعلقة بندرة المياه وانخفاض إنتاجية التربة.
قضايا مختارة
في الجزء الثاني يتناول التقرير عددا من القضايا المهمة المتعلقة بالأمن الغذائي، وأولاها (دور الزراعة المحلية) إذ يشير إلى إسهام هذه الزراعة بنسبة %7 فقط من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة العربية، ومع ذلك فدورها رئيسي في تحقيق الأمن الغذائي، إذ يعتبر الإنتاج المحلي الواسع النطاق للأغذية ضمانة أساسية للاستقرار.
والزراعة ركيزة أساسية في الحصول على الأغذية لأن نحو 40 % من السكان يعتمدون في معيشتهم على الزراعة. ويتوقف الإنتاج الزراعي المحلي على مساحة الأراضي المزروعة من جهة، وعلى الإنتاجية من جهة أخرى. فبينما كانت زيادة الإنتاجية الزراعية القوة الدافعة الرئيسية لزيادة الإنتاج في معظم مناطق العالم، فليس الحال كذلك في المنطقة العربية، فقد تأتى ثلث زيادات الإنتاج في المنطقة من التحسينات في الإنتاجية على مدار السنوات العشرين الماضية، مقابل %95 من الزيادة في الإنتاج على الصعيد العالمي.
التجارة الموثوقة
ويتطرق التقرير إلى دور التجارة الموثوقة في الأمن الغذائي للمنطقة، ويُظهِر أنه على الرغم من أن بعض البلدان العربية يصدر بعض السلع الغذائية، فإن الموازين التجارية تظل سلبية على جميع السلع الأساسية وفي جميع الدول العربية. وعلى سبيل المثال فقد تزايدت الواردات من المنتجات الغذائية والحيوانية باطراد منذ العقد الأول للقرن الحالي، لتصل إلى أكثر من 90 بليون دولار في عام 2013. وتحتل الحبوب حتى الآن المركز الأول في سلة الأغذية المستوردة، مع عجز تجاري تجاوزت قيمته 30 بليون دولار في السنوات الأخيرة. وليس العجز في ميزان تجارة الأغذية في حد ذاته مشكلة للأمن الغذائي على المستوى الوطني، بل المؤشر الأهم في تقييم القدرة على الاستمرار في الحصول على الواردات الغذائية هو نسبة ما ينفق عليها من مجموع عوائد تصدير السلع؛ فهذه النسبة تقيس مدى القدرة على تحمل تكاليف الأغذية في بلد ما. فعندما تمثل الواردات الغذائية نسبة صغيرة وثابتة من عوائد تصدير السلع في بلد ما، يكون ذلك البلد قادرا على تحمل تكلفة هذه الواردات الغذائية، أما عندما تمثل الواردات الغذائية نسبة كبيرة ومتقلبة من عوائد التصدير، فعلى ذلك البلد أن يشعر بالقلق إزاء قدرته على تحمل تكلفة تلك الواردات. وعلى صعيد العالم ككل، يبلغ متوسط تلك النسبة أقل من %5، في حين راوح المتوسط في المنطقة العربية عند نسبة %7 في السنوات الأخيرة.
خيارات سياساتية لتعزيز الأمن الغذائي
ويناقش التقرير قضية (محاكاة الآفاق المستقبلية للأمن الغذائي في المنطقة) ليقترح بناء على ذلك خيارات سياساتية لتعزيز الأمن الغذائي، ومنها على سبيل المثال تحديد سبيل المضي قدما لتوفير الغذاء بين الاعتماد على الإنتاج المحلي أو على الواردات الغذائية، إذ ينطوي كل من الخيارين على أخطار معينة. وضرورة الاعتماد على نهج ملائمة في استدامة الإنتاج المحلي بين نظم الزراعة البعلية والزراعة المروية. وكيفية إدارة الانكشاف على الأخطار المقترنة بالاعتماد الشديد على الواردات الغذائية، كتسوية الأسعار بمرور الوقت، والحصول على أفضل الأسعار عن طريق تنويع الشركاء التجاريين، وتحسين البنية الأساسية وإدارة سلاسل الإمداد للاستيراد والاستثمار في الإنتاج في البلدان الأخرى.
ويدعو التقرير إلى الاهتمام ببرامج الحماية الاجتماعية الكفؤة للفقراء في الريف والمدن، وتوفير التعليم والحوافز لتحفيز التحول إلى أنماط حياة ونظم غذائية صحية بهدف الحد من مشكلات سوء التغذية والبدانة في المنطقة. كما أن إمكان الحصول على الرعاية الصحية والمياه والصرف الصحي أمور أساسية لتحسين الوضع التغذوي. وبينما أن البقاء على مسار “بقاء الأمور على حالها” قد ُيفضي إلى مستقبل سيىء جدا، فهناك فرص لتعزيز الأمن الغذائي في جميع أنحاء المنطقة العربية.