ليز كروسي
قبل نحو أربعة مليارات سنة، تعرَّض الجزء الداخلي من النظام الشمسي لقصف نيزكي عنيف، ومازال سطح القمر يقدم لنا أدلة القصف الذي تواصل مدة 200 مليون سنة. وسواء نظرت إليه من خلال منظار فلكي، أو إلى صورته في كتاب، أو مباشرة بعينيك المجردتين، فسيعرض لك القمر الدليل على ماضيه العنيف. وتملأ فوهات الاصطدامات النيزكية و«بحار» الحمم سطح قمرنا الأليف. إنها معالم تقدم ما لا يحصى من دلائل تشير إلى أيام القمر الأولى، وبقية كواكب النظام الشمسي الداخلية ــ بما فيها الأرض.
أزالت العوامل الجيولوجية والجوية المختلفة لكوكبنا معظم الأدلة التي تشير إلى حقبة تشكله، لذا يتطلع العلماء إلى القمر كي يعرفوا أكثر عن تاريخ الأرض- فقمرها يعتبر مختبراً طبيعياً قريباً ومثالياً بصفاته. وعندما يقوم العلماء بربط الاكتشافات والمعلومات التي قدمتها الصخور القمرية – من عينات جمعها رواد القمر، وأخرى سقطت على الأرض- بالأرصاد التي قدمتها المسابير القمرية، فهم يرون دلائل تشير إلى اقتحام موجة من الصخور منطقة الكواكب الداخلية في النظام الشمسي بعد عدة مئات من ملايين السنين من نشوئه وقصفها لها. ويدعو العلماء هذه الحقبة باسم حقبة القصف النيزكي العنيف المتأخر Late Heavy Bombardment (LHB).
النشوء وسط الفوضى
بدأ النظام الشمسي مسيرته بصورة «قرص كوكبي أولي» من غاز وغبار يحيط بالشمس. وكانت هذه مرحلة خطرة في تطور منطقة جوار الأرض لوجود الكثير من الصخور الشاردة – الكبيرة والصغيرة – تنتقل في مدارات لا انتظام لها. بدأت الكواكب تشكلها من التحام هذه المادة الصخرية قبل نحو 4.6 مليار سنة. وبعد مضي 100 مليون سنة تقريباً اندفعت صخرة ضخمة بحجم كوكب المريخ، كانت لا تزال تطوف في أنحاء النظام الشمسي، لتضرب الأرض الفتية وتطلق في الفضاء حطاماً صخرياً سيلتحم في آخر الأمر ليصنع قمراً للأرض.
ووفقاً لنظريات تشكل الكواكب قديماً، انحسر عدد الأجسام الصخرية التي تدعى بالكويكبات الأولية الصغيرة planetesimals، وذلك بعد مضي مدة راوحت بين عشرات ومئات الملايين من السنين من نشوء النظام الشمسي. وما حدث لتلك الأجسام هو إما الاندماج بالكواكب الأخرى، أو التفتت والتحول إلى غبار بفعل الاصطدامات العديدة.
اعتقد العلماء أنه بحصولهم على عينات صخرية من أكبر الفوهات النيزكية على سطح القمر، فسيرون أن تاريخها القديم يعود إلى زمن تشكل القمر وبعده قليلاً.
ولكن عندما أعادت ست بعثات أبولو ما مجموعه 382 كغ من صخور وحجارة القمر كانت هناك مفاجأة لهم؛ فبعد تحليل هذه العينات وعناصرها ومقارنة تلك المقادير بعينات حديثة، وجدوا أن معظم مادة هذه العينات يرجع إلى ما بين 4 و3.85 مليار سنة، أي بعد تشكل القمر بمدة مئات الملايين من السنين. وتمثلت الصعوبة في إيجاد صخور يزيد عمرها عن 4 مليارات سنة، ولم يكن ذلك بالأمر السار للباحثين.
ويفترض العلماء أن عينات أبولو أشارت إلى أن موجة القصف النيزكي المفاجئة أزالت تقريباً كامل المادة الأقدم عمراً منها، لتترك وراءها سطحاً قمرياً أعيد رسم ملامحه قبل نحو 3.85 مليار سنة، أطلق العلماء على هذه الحقبة تسمية الكارثة القمرية، لكنها أخذت لاحقاً تسمية حقبة القصف العنيف المتأخر.
أدلة في متناول اليد
لكن هذا الرأي لم يكن محل اتفاق بين جميع العلماء، إذ أشار بعضهم إلى أن جميع العينات القمرية تلك إنما استحصلت من مواقع متجاورة على السطح المقابل لنا من القمر، وهو ما يعني أنها ربما نتجت من ضربة نيزكية واحدة. وبذلك يجب على العلماء الحصول على عينات أخرى من مواقع أخرى متنوعة ومتباعدة على سطح القمر.
من جهة أخرى، افترض العلماء أن الحجارة النيزكية القمرية التي وجدت في عدة أمكنة على الأرض تمثل عينات أكثر عشوائية من تلك التي جمعها رواد بعثات أبولو لأن الاصطدامات النيزكية يمكن أن تحدث على أي مكان على القمر. لكنهم فوجئوا بعد تحليلها بأن عمرها كان أيضاً أقل من 4 مليارات سنة.
وظلت التساؤلات قائمة: من أين جاءت تلك المادة الصادمة؟ وهل استطاعت أجسام صخرية أخرى تجنب عملية تطور كواكب النظام الشمسي؟ وما الذي أحدث الاضطراب في مدارات الكويكبات وحركها صوب الجزء الداخلي من النظام الشمسي لتقصف كواكبه؟
نظرة في السيليكون
في مسعى لحل اللغز، تقدم فريق علمي فرنسي في عام 2005 بفرضية تقدم رؤية عميقة في آلية تطور كواكب النظام الشمسي الداخلية. افترضت الدراسة أن الكواكب الخارجية (المشتري، زحل، أورانوس، ونبتون) نشأت على الأرجح قرب بعضها، وعلى مسافة أقرب إلى الشمس مما هي الآن، راوحت بين 5 و 17 وحدة فلكية، بعد تبدد القرص الكواكبي البدائي. وبعيداً وراءها، امتد قرص من أجسام صخرية صغيرة إلى مسافة 35 وحدة فلكية.
وبحسب الدراسة ــ تسمى الآن بنموذج نظرية مدينة نيس Nice model ــ فقد تذبذبت مدارات هذه الكواكب ببطء مع مرور الزمن. فانتظم كوكبا المشتري وزحل، بعد عدة مئات من ملايين السنين، في مدارين يتجاوبان بدور قدره 2:1 (أي إن المشتري ينجز دورتين حول الشمس مقابل دورة واحدة لزحل). أدى تعاظم المفعول الثقالي الكلي إلى تباعد مدارات المشتري وزحل وأورانوس ونبتون عن بعضها. تسببت حركات التقارب والتباعد هذه بشد مدارات الأجسام الصغيرة الموجودة في طريق الكواكب المذكورة. وهكذا انتقل كوكبا أورانوس ونبتون إلى قرص الكويكبات الأولية وهما يبعثران أجسامه الصخرية الصغيرة في كل مكان. وهكذا قدمت هذه النظرية تفسيراً لاضطراب حركة الأجسام الصخرية الصغيرة وتوجهها صوب القسم الداخلي من النظام الشمسي.
كما أنها توافقت مع مشاهدات أخرى حديثة، ونجحت في تقديم رؤية عميقة ومهمة إلى ما حدث في حقبة فتوة جوارنا الفضائي. وقد اكتشف فريق علمي أدلة تدعم حقبة البعثرة في نظرية (نيس). ففي وقت مبكر من عام 2012، قدم الفريق تحليلاً لخصائص فوهات نيزكية قمرية. فباستخدام أداة تعمل على مسبار LRO المداري حول القمر (لونار ريكونيسانس أوربتر Lunar Reconnaissance Orbiter (LRO)، هي المركبة التي أطلقتها ناسا إلى القمر بتاريخ 18 يونيو 2009، لدراسة الإشعاعات على سطحه، ومواقع الموارد المحتملة، وتحديد مواقع هبوط مستقبلية محتملة لبعثات مأهولة إليه)؛ درسوا منطقة فوهة نكتاريس Nectaris Basin وبعض مقذوفاتها. اختاروا هذه الفوهة لأنها حديثة العمر نسبياً ولأن الباحثين يستخدمونها كمقياس لحساب زمن نهاية حقبة القصف النيزكي العنيف المتأخر. ووجدت الدراسة أنَّ الفوهات القريبة من حوض نكتاريس هي أكبر حجماً بنسبة %30 تقريباً من الفوهات في مناطق أخرى أقدم عمراً. وقد عزوا زيادة الحجم هذه إلى مقذوفات أسرع حركة؛ إذ يمكن لتغير كبير في النظام الشمسي – شيء من قبيل إعادة تعيين مدارات الكواكب العملاقة – أن يزيد من سرعة حركة أجسامه الأصغر حجماً.
أقرب إلى الأرض
لكن؛ هل من شواهد أرضية مماثلة تشير إلى ماض عنيف لكوكبنا؟
تكبر الأرض القمر كتلةً بقدر كبير، وكذلك سطحها، لذا يقدر العلماء عدد الأجسام التي ضربت كوكبنا في حقبة القصف النيزكي العنيف المتأخر بنحو 10 مرات من عدد تلك التي ضربت القمر. وبينما أدت فعاليات الغلاف الجوي للأرض وآلياتها الجيولوجية إلى محو معظم أدلتها السطحية، فإن بعضها ربما مازال حاضراً تحت سطحها.
وتؤدي الاصطدامات النيزكية مع الأرض إلى إنتاج قطيرات مليمترية الحجم تدعى الكريّات spherules نتجت من تكثف غبار ودخان الانفجار.
تنهمر هذه الكريّات لاحقاً على السطح، وتبقى منها طبقة رقيقة في الصخور. وباستخدام طرق التأريخ الإشعاعي يمكن معرفة توافق عمر هذه الطبقة مع زمن حقبة القصف النيزكي. يعرف العلماء 14 موقعاً من هذه الطبقات في أنحاء الأرض، ولكن دون أن يرقى زمن أي منها إلى حقبة الكارثة القمرية المفترضة. وهناك 4 منها ترجع زمناً إلى حقبة تمتد بين 3.47 و 3.24 مليار سنة، وهو ما ربما يشير إلى انخفاض تدريجي في عدد الاصطدامات. قاد هذا العلماء إلى إدراك وجود نهاية مطوّلة لحقبة الاصطدامات في النظام الشمسي. كما أن دراساتهم الحديثة لهذه الكريات تقدم إطار عمل أفضل لتفسير دينامية تلك الاصطدامات.
حالة العلم
يدرك العلماء أنَّ عدم اكتشافهم عينات نيزكية قمرية بعمر يفوق 4 مليارات سنة لا يعني عدم حدوث قصف نيزكي قبل ذلك الزمن؛ إذ يمكن للاصطدامات الحديثة أن تزيل آثار القديمة. ويعتقد مزيد من الباحثين أن حقبة القصف دامت وقتاً أطول ــ ربما حتى 600 مليون سنة بدلاً من حقبة الـ 100 مليون سنة الوجيزة (بالمقاييس الفلكية). فطرح بعضهم رؤية تتفرع من نظرية نيس تقدم سجل قصف ينحسر بتدرج أكثر. وهكذا نرى أن الأسئلة مازالت قائمة حتى بعد مرور 40 سنة على إنهاء رواد أبولو جمعهم العينات القمرية الأولى؛ وكذلك هي جهود العلماء لحل لغز تضارب أعمار الفوهات النيزكية على القمر. لكن هل امتدت فترة القصف النيزكي طوال 100 مليون سنة فقط أم أنها كانت أطول زمناً بكثير؟ وهل حدثت نتيجة تغير مدارات الكواكب العملاقة؟ وهل كان هناك انحسار تدريجي في عدد الأجسام الصادمة؟
يدرك العلماء الآن أن ما لديهم من معلومات من بعثات أبولو هو قدر ضئيل، وهم بحاجة إلى عينات من مناطق أخرى على القمر للإجابة عن الأسئلة المتبقية. وسيكون حوض فوهة آيتكن Aitken Basin في منطقة القطب الجنوبي للقمر هدفاً لبعثة مستقبلية لجلب عينات منه. وبذا ربما نعرف عمر أقدم الفوهات القمرية، ونرسم صورة دقيقة لحقبة القصف النيزكي، وما إذا كانت هي الكارثة التي افترضها كثير من العلماء.