د. سارة لكحيلي
دكتورة متخصصة في علم الأعصاب والصحة النفسية، أستاذة في المدرسة العليا لعلم النفس بالدار البيضاء (المغرب)
يعتبر اضطراب قلق الانفصال Separation anxiety disorder أحد أكثر أنواع اضطرابات القلق شيوعًا بين الأطفال، إذ يتميز بالخوف المفرط من الانفصال عن أحد مُقدِّمي الرعاية الأساسية (الوالدين، الأجداد، الإخوة، الأقارب…) أو المنزل، متجاوزا في شدته المستوى الطبيعي للقلق المرتبط بالمراحل المختلفة لنمو الطفل.
وقد أثار مفهوم التعلق اهتمام العديد من الباحثين والمهتمين بنمو الطفل وتنشئته الاجتماعية. فوفقا لعلماء علم النفس، فإن نظرية التعلّق Attachment Theory تفسر تأثير علاقة الطفل بوالديه في نموه العاطفي والنفسي. فالتعلّق هو مجموعة من المشاعر والروابط العاطفية التي تجمع الطفل بأحد مقدمي الرعاية الأساسيين الذين يمنح وجودهم الأمان، فيما يتسبّب غيابهم بالخوف والقلق والارتباك المفرط. يبدأ التعلّق من الشهور الأولى من عمر الطفل ما بين 6 و24 شهرًا، وهي مرحلة أساسية من مراحل التطور النفسي العاطفي والمعرفي للطفل يتمكن خلالها من اكتساب القدرات اللغوية وفهم العالم من خلال الحواس. يشكل القلق من الانفصال خلال تلك الفترة سلوكا طبيعيا يتجلى في بكاء الطفل وحزنه كلما لاحظ غياب مُقدِّم الرعاية الأساسيّ، فاختفاء الشخص أوالشيء من مجال إدراك حواسّ الطفل يعني أنه لم يعد موجودا. لكن قلق الانفصال الطبيعي يبدأ بالتلاشي تدريجياً مع التقدّم في العمر وتطور الحركة عند الطفل، حيث يصبح أكثر استقلالية واعتمادا على نفسه، وأكثر فهما لمبدأ ديمومة الكائنات أو الأشياء الموجودة خارج نطاق الرؤية، مما يغذي شعور الإحساس بالأمان لديه، فيعلم مثلا أن والديه لا يزالان موجودين حتى لو لم يعد يراهما ويوقن أنهما سيعودان.
الصورة المرضية
شُخص اضطراب قلق الانفصال المرضي للمرة الأولى سنة 1956، وصُنف لاحقًا كاضطراب مرضي يختلف في أعراضه وتشخيصه عن رهاب المدرسة. ويتميز هذا الاضطراب بالخوف المفرط والمستمر عند الأطفال المنفصلين عن مُقدِّم الرعاية الأساسيّ. كما يمكن لأعراض القلق أن تستمر إلى مرحلة البلوغ إن لم تعالج، فكلما استمر الاضطراب أصبح أكثر شدَّةً وتأثيرا.
ويعاني الطفل المصاب باضطراب قلق الانفصال ضيقا وخوفا مستمرين من حدث الانفصال، ورفض الذهاب إلى المدرسة أو المشاركة في أي نشاط يتطلب الابتعاد عن والديه أو مقدم الرعاية الأساسي، كما يعاني حالة من الرعب والخوف من أن يصاب الشخص المقرب إليه بمكروه.
وغالبًا ما تكون لحظة انفصال الطفل عن الشخص الذي يرتبط به مصحوبة بالبكاء الشديد والغضب، إضافة إلى نوبات هلع شديد عند الابتعاد عن من يألفهم. كما يظهر القلق في صورة شكاوى عضوية كصداع الرأس، أو آلام بالبطن، أو شعور بالغثيان أو القيء، وتصبح لحظة مؤلمة لكل من الطفل ووالديه معرقلة لأدائهم لمهامهم. ويمكن تشخيص القلق من الانفصال على أنه اضطراب مرضي إذا استمرت هذه الأعراض لمدة شهر على الأقل، وكانت شدة القلق تفوق المستويات الطبيعية وتعطل النمو الاجتماعي الطبيعي للطفل.
وخلافا لبقية الأطفال الذين يتكيفون سريعا مع نظام المدرسة، فإن الطفل الذي يعاني اضطرابَ قلق الانفصال غالبًا ما يواجه صعوبات أكبر في ﺍﻟﻘﺩﺭﺓ ﻋلى الاندماج مع المحيط المدرسي، ويشعر بالحزن المستمر والضعف، ويميل إلى العزلة والبكاء معظم الوقت، كما يميل إلى التشبث بوالديه طوال الوقت بالمنزل، إضافة إلى صعوبات في النوم مصحوبة بكوابيس مزعجة غالبًا ما يكون محتواها مرتبطا بموضوع الانفصال، مثلا يستيقظ الطفل مرارا للتحقق من أن والديه ما زالا موجودين.
كما يؤدي ذلك إلى سهولة تأثر الطفل بأقل المؤثرات نظرا لحساسيته الزائدة، فسرعان ما يخاف ويهاب المواقف التي قد يتحملها غيره من الأطفال غير القلقين، ويتجنب القيام بأي نشاط جديد يستوجب الانفصال عن الأشخاص الذين يحبهم ويرتبط بهم، مما يؤثر سلبا في استقلالية الطفل ويحد من أنشطته المدرسية أو اليومية.
أسباب اضطراب قلق الانفصال
هنالك مجموعة من العوامل البيولوجية والوراثية والاجتماعية التي قد تجعل الطفل أكثر عرضة لاضطراب القلق. ويعتبر العامل الوراثي أحد أهم العوامل المسؤولة عن القلق. فحسب دراسة علمية حديثة أجريت في جامعة جونز هوبكنز، فإن 80% من الأطفال الذين يعانون اضطرابَ القلق لهم آباء يعانون أحد اضطرابات القلق. ويعتقد الأطباء أن هذه النتائج تعزز فرضية انتقال اضطراب القلق من الوالدين إلى الأبناء في صورة وراثية. إضافة إلى العوامل الوراثية يشير الباحثون إلى أن سلوكيات القلق المفرط للآباء قد تؤثر بشكل كبير ومباشر في سلوكيات الأطفال. غير أن ما يتوارثه الطفل من والديه هو الاستعداد المرضي والقابلية لظهور الاضطراب، ويبقى ظهور المرض أو غيابه مرتبطا بباقي العوامل النفسية والاجتماعية.
ويرى الباحثون أن سلوك الحماية والسيطرة المفرطة المرتبط باضطراب القلق لدى الوالدين يحد من قدرة الطفل على اكتساب المهارات الاجتماعية؛ إذ إن القلق غير المبرر والخوف المبالغ فيه على الأبناء الذي يعانيه الوالدان القلقان ينعكس على العلاقة بالأطفال الذين ينشؤون في بيئة تسرف في الرعاية والاهتمام. فالتحكم الزائد في الطفل وتصرفاته يؤدي إلى انعدام الثقة لديه ويزعزع من شعور الطفل بالأمان، فيصبح فريسة للقلق والخوف المفرط كلما واجه ضغطا أو تجربة جديدة. كما تشير الدراسات إلى أن ضغوط الحياة، كمرض شخص عزيز أو وفاته أو فقدان حيوان أليف، قد تسهم في ظهور أعراض اضطراب قلق الانفصال لدى الأطفال.
الطرق العلاجية
يوصي العديد من الأطباء بأهمية العلاج المبكر؛ إذ إن اضطرابات القلق قد تستمر حتى مرحلة المراهقة والبلوغ، وربما تتطور إلى نوبات اكتئاب لاحقا إن لم تعالج مبكرا. وأظهرت العديد من الأبحاث فعالية العلاج السلوكي المعرفي كطريقة علاجية تساعد على التخلص من اضطراب قلق الانفصال.
ويركز هذا الأسلوب العلاجي على ثلاثة أبعاد: المعرفي والعاطفي والسلوكي، ويستهدف الأفكار السلبية المرضية والأعراض الجسدية المتعلقة بالقلق إضافة إلى سلوك التجنب المصاحب للقلق. فتجنب الشخص للمواقف التي تولد الخوف ينتج عنه إحساس مؤقت بالراحة وانخفاض للقلق، لكنها نتيجة مؤقتة غالبا ما تزيد من شدة القلق، إذ إن المصاب باضطراب القلق غالبا ما يبالغ في تقدير درجة الخطر وحجم العواقب المترتبة عن الانفصال، في حين أن المواجهة التدريجية لمسببات اضطراب القلق حسب نموذج باترسون تسمح للجسم بالتكيف مع الموقف وتجعل المريض قادرا على التحكم والسيطرة على القلق بنجاح أكبر.
ويعتمد نجاح العلاج على تعريض المريض لمسبب القلق (الانفصال عن الوالدين مثلا) لمدة طويلة ومتكررة دون السماح له باستخدام أي نوع من استراتيجيات التجنب، حتى يتم التخلص من الخوف. يبدأ المعالج النفسي بتعريض الطفل لمواقف بسيطة تسمح له بمواجهة خوفه ضمن بيئة آمنة، كاللعب معه داخل غرفة خاصة في حين توجد الأم في غرفة مجاورة، على أن يتم الرفع تدريجيا من مستوى صعوبة الحصص. يسبب هذا الموقف زيادة مؤقتة في مستوى القلق لدى الطفل لكنه يتيح له إمكانية فهم طبيعة العناصر الفسيولوجية المرتبطة بالقلق فيتعرف على أعراضه ويتعلم كيفية التحكم في انفعالاته ومواجهة مخاوفه بشأن الانفصال والتخلص من أعراض القلق من خلال تقنية الاسترخاء وتمارين التنفس العميق.
ويتيح التعرض المتكرر للموقف نفسه للطفل التكيف فسيولوجيا، إذ إن نشاط الجهاز العصبي شبه السيمباثاوي يخفض من الاستجابة البيولوجية للخوف لدى تعرض المريض لمسبب القلق، فيتكيف الجسم مع الموقف المثير للقلق، ويقلل تدريجيًا من حدة الأعراض الجسدية المصاحبة له. ويسمح هذا الأسلوب العلاجي بتغيير التقديرات المعرفية الخاطئة أو المبالغ فيها والأفكار السلبية حول ما قد يترتب عليه التعرض للمواقف التي كانت تثير مخاوفه. وبالنسبة لبعض حالات القلق الشديد، يمكن للمعالج دمج العلاج المعرفي السلوكي بأحد الأدوية الخاصة التي تصحح مستويات إفراز السيروتونين على مستوى الدماغ وتقلل من شدة أعراض القلق.