توصف الميتوكوندريا (المتقدرات) Mitochondria في كثير من الأحيان بأنها “محطة توليد الطاقة في الخلية”. وبينما توفر هذه العضيات الشبيهة بحبة الفول مصدراً أساسياً للطاقة الخلوية، فإنها تؤدي أيضاً مجموعة واسعة من الأنشطة الأيضية الأخرى. وحالياً، تأمل الدكتورة نور الصبيح، الأستاذة المساعدة في جامعة الكويت وزميلة لوريال – اليونسكو للنساء في مجال العلوم، تسليط الضوء على الآليات التي يساهم بها وجود خلل في الميتوكوندريا في الإصابة بداء السكري من النمط الثاني ومجموعة من الأمراض الأخرى.
أكملت الصبيح درجة الدكتوراه في عام 2018، وفي نوفمبر من عام 2019 حصلت على زمالة بقيمة 20 ألف يورو من برنامج لوريال – اليونسكو للنساء في مجال العلوم عن أبحاثها المتعلقة بالميتوكوندريا والسكري.
حددت الصبيح وزملاؤها مُركَّباً بروتينياً معيناً كمصدر لتسرب بروتون الميتوكوندريا Mitochondrial proton leak الذي يسمح للعضِية بتحفيز إفراز الأنسولين. وهذا يعني أن ما يُطلق إشارة إنتاج الأنسولين في هذه الحالة هي مجموعة فرعية من الأحماض الدهنية، وليس الغلوكوز.
ينتشر داء السكري من النمط الثاني بشكل خاص في الكويت، وتشير أحدث التقديرات إلى أن نحو 40 % من السكان إما مصابون بالسكري أو ما قبل السكري . وفيما كانت الصبيح تستعد للشروع في تدريبها لنيل درجة الدكتوراه في جامعة بوسطن Boston University في عام 2012، سعت جِدياً إلى البحث عن مختبر يركز على هذه الحالة. وقادها ذلك إلى فريق مختبر أوراين شيريهاي Orian Shirihai الذي كان يتبع نهجاً غير تقليدي في أبحاث داء السكري، مع التركيز بشكل خاص على دور الميتوكوندريا.
جهود مركزة
قالت الصبيح: “كان مشروعنا يتطلع بشكل أساسي إلى محاولة تحليل الآليات التي قد تساهم في فرط الأنسولين Hyperinsulinemia في حالة ما قبل داء السكري”. ويشير هذا إلى الحالة التي تفرز فيها خلايا جزيرة البنكرياس بيتا Pancreatic beta islet مستويات مفرطة من هذا الهرمون في الدورة الدموية. يعتقد الباحثون في مجال داء السكري بشكل عام أن هذا يحدث نتيجة فقدان الأنسجة، أنسجة الكبد والعضلات، القدرة على الاستجابة لهذا الهرمون – وهي حالة تعرف بمقاومة الأنسولين Insulin resistance. تؤدي مقاومة الأنسولين هذه إلى عدم القدرة على إزالة الغلوكوز الزائد من مجرى الدم، مما قد يؤدي بدوره إلى زيادة إفراز الأنسولين وفرط الأنسولين.
كان فريق شيريهاي يستكشف نموذجاً بديلاً لتطور داء السكري، يسبق فيه فرط الأنسولين مقاومة الأنسولين، بدلاً من حدوث العكس. هناك بالفعل أدلة على وجود مثل هذه الآلية؛ فعلى سبيل المثال، يمكن لحيوانات المختبر المصابة بالسمنة أو التي اتبعت نظاماً غذائياً مُشبعاً High-Fed-Diet الاستمرار في إفراز الأنسولين حتى عند تعرضها لتركيزات منخفضة جداً من الغلوكوز. وعلى الرغم من عدم اتضاح الأساس لمثل إفراز الأنسولين هذا، بدا أن الميتوكوندريا تضطلع بدور فيه. قالت الصبيح: “إن الميتوكوندريا تقيس بشكل أساسي مقدار العناصر الغذائية التي تتعرض لها خلية بيتا”. عندما تكون مستويات الغلوكوز عالية، تستقلب الميتوكوندريا هذا السكر وتنتج مُركب أدينوسين ثلاثي الفوسفات (اختصاراً: المُركب ATP)، الذي يُزوِّد الخلية بالطاقة. وتحفِّز هذه العملية أيضاً إفراز الأنسولين.
ومع ذلك، فإن الميتوكوندريا عرضة أيضاً لعملية تعرف بـ ‘تسرب البروتون’ Proton leak، التي يمكن أن تسمح للميتوكوندريا بتحفيز إفراز الأنسولين حتى في غياب الغلوكوز نسبياً. في هذا السيناريو، يبدأ إنتاج الأنسولين بدلاً من ذلك من مجموعة فرعية معينة من الأحماض الدهنية بدلاً من الغلوكوز. وبدعم من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، تمكنت الصبيح من المساعدة على الكشف عن المكونات الرئيسية لهذه العملية وتسليط الضوء على الكيفية التي تساهم بها في فرط الأنسولين وتطور داء السكري. وفي ورقة بحثية نشرت في ديسمبر الماضي في مجلة ديابيتس Diabetes، وصفت النتائج التي توصلت إليها مع زميلها في مختبر شيريهاي إيفان تاديو Evan Taddeo بصفتهما مديري المشروع، وزملائهما المتعاونين معهما.
بيَّنت الصبيح وزملاؤها أن إفراز الأنسولين في جزر البنكرياس المستزرعة تعزَّز عن طريق زيادة مستوى تسرب البروتون، حتى عندما ظلت مستويات الغلوكوز منخفضة وذات تركيزات ‘غير محفِّزة’ على إنتاج الأنسولين. واستهدفوا على وجه التحديد مركباً بروتينياً يسمى مسام انتقال نفاذية الميتوكوندريا Mitochondrial permeability transition pore (اختصاراً: المركب mPTP)، وهو قناة في غشاء العضية، كمحرك رئيسي لتسرب البروتون في هذا الســـياق. ومـــن المعـــروف أن بروتـــيناً آخـــر يعـــرف بالسَيكــلوفيلين دي Cyclophilin D يُنظِّم نشاط مركب mPTP، ووجد الباحثون علاقة واضحة بين اتباع نظام غذائي غني بالدهون والتعبير عن السيكلوفيلين دي، وإنتاج الأنسولين المستقل عن الغلوكوز. وقالت الصبيح: “إن الجزر المأخوذة من فئران سمينة أو حيوانات قُدّم لها نظام غذائي غني بالدهون لديها بالفعل تعبير أعلى من السَيكلوفلين دي”. وأضافت :”نعتقد أنه نظراً لأن لديها تعبيراً أعلى من السَيكلوفيلين دي، فقد صارت هذه الحيوانات حالياً أكثر حساسية للأحماض الدهنية وهذا يسمح بتسرب أعلى للبروتون”. وهذا قد يؤجج فرط الأنسولين حتى في غياب مقاومة الأنسولين وارتفاع مستويات الغلوكوز في الدم.
والمُلفت في الأمر أن الفريق حصل على نتائج مماثلة مع جزر البنكرياس البشرية المستزرعة، مما يشير إلى أنه قد تكون هناك آلية مماثلة في من هم في مرحلة ما قبل داء السكري. ويستكشف مختبر شيريهاي، ومقره في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، إمكانية تطوير أدوية تستهدف هذا المسار الميتوكوندري كوسيلة إما لمنع ظهور داء السكري أو السيطرة عليه. وتعتقد الصبيح أن هذا قد يكون بديلاً واعداً لاستراتيجيات العلاج التقليدية. وقالت: “تدفع معظم الأدوية الموجودة في السوق خلايا بيتا إلى بذل جهد أعلى وإنتاج مزيد من الأنسولين وهذا يؤدي في نهاية المطاف إلى فشل خلايا بيتا”. وأضافت أن “ما نظهره هو أنه ربما يمكنك تقليل عبء العمل عن خلية بيتا تحت ظروف لا تؤدي إلى تنشيط الغلوكوز … والسماح للخلايا فقط بإفراز الأنسولين عند الحاجة إليه بالفعل”. وهذا قد يحسِّن المحافظة على الوظيفة طويلة الأمد لهذه الخلايا الأساسية وكذلك على بقائها.
وبصفتها حالياً عضوة في هيئة التدريس في جامعة الكويت، تهدف الصبيح إلى التعمق في دراسة هذا المحرك الغامض لداء السكري. وقالت: “لقد حددنا مركب mPTP كمصدر لتسرب البروتون من الميتوكوندريا. … لكننا لا نفهم تماماً آلية حدوث ذلك، ولا نعرف كل شيء عن الخلل في الميتوكوندريا أثناء تقدم داء السكري”.
وهي متحمسة أيضاً لأن تكون جزءاً مما يجري على نطاق واسع من إعادة النظر في مساهمات الميتوكوندريا في صحة الإنسان. وقالت: “إنها ليست مجرد بنى ساكنة في الخلية. إننا نرى حالياً أن لها مزيداً من التأثير في الشيخوخة والعديد من الأمراض المزمنة. لديها تأثير في السرطان والسكري والسمنة وأمراض القلب والأوعية الدموية ومرض ألزهايمر”.
في الوقت الحالي، سيواصل فريقها التركيز بشكل أساسي على داء السكري – وهي حالة ترى أنها تستدعي ضرورة وضع استراتيجيات جديدة للعلاج والوقاية. ومع ذلك، يجب أن يكون بالإمكان تطبيق مجموعة أدوات التقنيات العلمية التي جمعها فريقها لمعالجة هذه الحالة على نطاق واسع على مجموعة من الاضطرابات الأخرى المتصلة بالميتوكوندريا، وهي ترى فرصاً كبيرة لتوسيع جهودها البحثية في المستقبل. قالت الصبيح: “إن الميتوكوندريا ضرورية جداً لأي خلية. لذا يمكنك دائماً الاستفادة من نتائج هذا العمل في نماذج أو أمراض أخرى”.