داود سليمان الشراد
تقتل الأمراض التي ينقلها البعوض ملايين الأشخاص سنوياً، وتسبب المعاناة لأعداد أكبر كثيراً، ففي عام 2012 تم تسجيل نحو 207 ملايين حالة ملاريا، وبلغت الوفيات بين هذه الحالات نحو 267 ألف وفاة، ويعد حمى الضنك (مرض فيروسي استوائي) السبب الرئيسي للمرض، والوفاة في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، ويصاب بعدواها سنوياً 100 مليون شخص، وهناك نحو 200 ألف حالة إصابة بالحمى الصفراء (مرض يسببه فيروس استوائي) سنوياً، تؤدي إلى نحو 30 ألف وفاة في أنحاء العالم.
وتهدد الملاريا (البرداء) أيضاً أكثر من ثلث سكان العالم، حيث تقتل طفلاً في كل من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كل 30 ثانية – بحسب المعهد الوطني الأمريكي للصحة – ومعظم الضحايا يكونون من الأطفال دون الخامسة في إفريقيا جنوب الصحراء.
وتسبب الملاريا دورات من الحمى والرعشة، وتترافق مع تدمير كرات الدم الحمراء المصابة بالطفيل، ويمكن أن يتسبب المرض في مضاعفات خطرة تهدد الحياة، مثل الإصابة بفقر الدم الحاد والملاريا الدماغية.
اكتشف الطبيب العسكري لافيران (1845 – 1922) الطفيلي المسبب لمرض الملاريا في 6 نوفمبر 1880، في المستشفى العسكري بالجزائر، ونال في عام 1907 جائزة نوبل على ذلك.
ولا يتطلب الأمر أكثر من لسعة واحدة من بعوضة حاملة للمرض لنقل عدوى منهكة أو مهلكة، والبعوض يتناسل ويتكاثر بسرعة مذهلة. ولأنه لا يوجد لقاحات، أو علاجات دوائية لأمراض مثل: حمى الضنك وغيره، وبسبب صعوبة التوصل إلى علاجات لأمراض مثل الملاريا في العديد من المناطق المعرضة للخطر، فإنَّ الحاجة ماسَّة إلى ابتكار أساليب أكثر فعالية للسيطرة على تجمعات البعوض.
حشرة معروفة
البعوضة Mosquitos حشرة صغيرة دقيقة (4 – 10 مم)، لها لون رمادي داكن، وجسم نحيل مغطى بحراشف، وأرجلها طويلة رفيعة. والبعوض معروف جيداً للبشر في كل الأصقاع والبيئات، ومنها المناطق القطبية، لكنه يكثر، من حيث عدد الأجناس والأنواع، في المناطق الاستوائية. وينقل إلى الإنسان الكثير من الأمراض. وعرف منه حتى اليوم أكثر من 2000 نوع.
وتنقل هذه الحشرة بعض أسوأ الأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان على السواء. فهناك أنواع محددة منها تحمل طفيليات تسبب أمراضاً خطرة. والبعوضة عندما تلسع، تخلف العديد من الجراثيم في موضع اللسع. لكن هناك أنواعاً عديدة لا تحمل أمراضاً، مع أن لها لسعات مؤلمة. ويعيش الكثير منها الحامل لمسببات الأمراض في المناطق الحارة الرطبة القريبة من الاستواء.
الحذر من الإناث
تقوم أنثى البعوض فقط بعملية اللسع، وذلك حين تغرز في فريستها ستة أجزاء شبيهة بالإبر تعرف بالقليمات، وتوجد وسط الخرطوم، وتغطي الشفة السفلى تلك القليمات. وعند غرس القليمات في الجلد، تنحني الشفة السفلى وتنزلق لأعلى مبتعدة عن المسار، ثم ينساب اللعاب داخل الجسم، عبر قنوات تكونها القليمات، ويكبح اللعاب تجلط الدم، مما يسهل امتصاصه. ولدى معظم البشر حساسية ضد اللعاب. ونتيجة لذلك، تنشأ دمامل مثيرة للحك، وحينما تمتص البعوضة كفايتها من الدم، تسحب القليمات ببطء وتتفاوت كميات الدم الممتصة من بعوضة إلى أخرى، فقد يمتص بعضها ما يفوق وزنها مرة ونصف المرة في كل مرة يلسع فيها.
أجناس البعوض
ثمة أجناس عدة للبعوض أهمها:
1 – Anopheles أو بعوض الملاريا (البرداء) لنقله طفيل هذا المرض بين البشر، وهو شائع في الدول الدافئة. يمتاز بأجنحته المنقطة وبوقفته المائلة عند الراحة. وتلدغ الأنثى الإنسان، وتمتص مع دمه الحيوانات المتطفلة البوغية الأولية (المتصورة)، وهي أحد الأجناس المسببة للمرض. وحينما تحط على جسم الإنسان، تفرز عليه من لعابها لترطب الجلد. ويحدث هذا اللعاب في الوقت ذاته حساسية تدعو للحكة في ذلك الموضع، مما يجلب مزيداً من الدم تمهيداً لامتصاصه بأجزاء الفم الثاقبة الماصة. فإذا ما انتقلت الأنثى الحاملة (الناقلة) للعامل الممرض إلى إنسان سليم ولدغته فإنها تنقل إليه الحيوانات البوغية المسببة للملاريا.وهناك أنواع كثيرة (30 – 40 نوعاً) من هذا البعوض ينقل الملاريا.
2 – البعوضة الصغيرة Culex أو البعوض العادي: يتضمن عدداً من الأنواع، ويوجد عادة في المناطق الباردة، ولا ينقل الملاريا لكنه ينقل عدة أنواع من الطفيليات. وهو يفضل المياه الراكدة والملوثة. ويضم هذا الجنس عدة أنواع، أهمها: البعوض المتعب C.fatigans، والبعوض الماص C.pipiens، وهما ينقلان داء الخيطيات Filariasis (أو داء الفيل Elephantiasis)، كما ينقلان مرض التهاب الدماغ، والنخاع الشوكي الخيلي.
3 – جنس الزاعجة Aedes التي تستوطن المناطق الاستوائية، وتتميز بوجود حلقات من الحراشف البيضاء على أرجلها. وكذلك وجود بقع بيضاء على شكل القيثارة على الصدر. وفي عام 1881 أكتشف أن هذا البعوض ينقل مرض الحمى الصفراء.
وكما هي الحال في الأمراض الأخرى التي ينقلها البعوض تعتمد الإجراءات الأولية للوقاية على تجنب التعرض للسلع. ولتحقيق هذا الهدف تلجأ السلطات الصحية إلى التخلص من المياه الراكدة، حيث يتكاثر البعوض، ورشها بالمبيدات، وغيرها من وسائل المكافحة البسيطة؛ أي إنها تعتمد على أسلوب الاحتواء عوضاً عن أسلوب المواجهة.
تطور الأبحاث
تعتمد الطريقة السائدة للحد من أعداد الحشرات ما يسمى (تقنية الحشرات العقيمة) على استخدام الإشعاع لتعقيم الذكور، التي يتم إطلاقها إلى المناطق الموبوءة لكي تتزاوج، لكن هذا الأسلوب المطبق منذ منتصف القرن الماضي لم يكن فعالاً مع البعوض نظراً لضعفه.
وتوصل العلماء في منتصف عام 2014 إلى طريقة لتعديل مورثات البعوض وراثياً، بحيث لا تنتج سوى الذكور، ما يفتح باباً جديداً لمكافحة مرض الملاريا والقضاء عليه في نهاية المطاف.
ولكبح جماح تهديدات البعوض، فإن التجارب تتواصل عالمياً، ولعل منها العمل على تعطيل عمل نمو طفيل المرض في البعوضة الناقلة. كما أن هناك تجارب على إدخال مورثات جيدة تدفع البعوض لمهاجمة الحيوانات فقط من دون الإنسان. ولعل الهدف النهائي يكمن في إنتاج بعوضة معدلة وراثياً، لا يمكنها نقل المرض للإنسان، إلا أن تحقيق ذلك قد يتطلب نحو 6 سنوات على الأقل. >