بقلم جهاد سمرة
الفائز بجائزة الكويت في مجال التراث العلمي العربي والإسلامي لعام 2020 التي تمنحها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ( كيفاس) أكمل الدين إحسان أوغلو مرجع مُعترف به في التراث العربي والإسلامي، وباحث ومؤلف غزير الإنتاج تمتد مساهماته وحياته المهنية على مدار أربعة عقود. وقد شغل خارج الأوساط الأكاديمية منصب الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي بين عامي 2005 و2014، إضافة إلى توليه مناصب أكاديمية وفخرية وفي مؤسسات أخرى مرموقة.
ولد إحسان أوغلو في القاهرة عام 1943 بعد أفول الإمبراطورية العثمانية وتراجع التأثيرات السياسية والثقافية التركية في العالم العربي. ومع ذلك، ربما كان لهذا دور في إثارة اهتمامه بتطوير العديد من مجالات الدراسة في التاريخ العلمي الإسلامي والتراث الذي أُهمل سابقًا. كان اهتمام إحسان أوغلو في البداية علميًا بطبيعته، فقد درس العلوم في جامعة عين شمس بمصر، ثم أكمل درجة الماجستير في الكيمياء بجامعة الأزهر في عام 1970 قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء العضوية من جامعة أنقرة في عام 1974. لكن شغفه الحقيقي كان بمجالات التاريخ والسياسة والعلوم والأدب، وهذا جعله في موضع فريد لتقديم مساهمات قيمة في ربط هذه المجالات الأكاديمية بعضها ببعض. تضمنت أعماله تأليف 18 مجلدا عن العلوم والأدب العثماني تغطي علم الفلك والرياضيات والموسيقى والطب، من بين أمور أخرى، إضافة إلى العديد من المنشورات الأخرى.
وقد تكون أهم مساهمة قدمها إحسان أوغلو هي توسيع وتعميق دراسة تاريخ التراث العلمي الإسلامي، خاصة خلال العهد العثماني. حتى سبعينات القرن العشرين، كانت معظم الأعمال الأكاديمية البحثية تركز فقط على العصر الذهبي للعلوم الإسلامية، وهي الفترة التي انتهت في القرن الثاني عشر. ولكن كان لإحسان أوغلو دور فعال في إحياء وتوسيع مجال الدراسة هذا على مستويات متعددة. في البداية، أثار الاهتمام باستكشاف الإنجازات العلمية الإسلامية خلال الفترة العثمانية، وهي إنجازات لم يُسلط الضوء تقريبًا عليها قبل ذلك. إضافة إلى ذلك، كان من بين رواد العلم الذين أبرزوا الأعمال العلمية المنجزة خلال الفترة العثمانية بغير اللغة العربية، وتحديداً بالتركية والفارسية. يُنسب إلى إحسان أوغلو أيضًا ريادة وتطوير مجالين علميين: الأول هو دراسة تاريخ المؤسسات العلمية الإسلامية ودورها وتطورها، والثاني هو دراسة ديناميات نقل المعرفة بين الشرق والغرب، وتحديداً الطريقة التي نُقلت وفقها المعرفة الإسلامية إلى الغرب في فترة العصور الوسطى، والكيفية التي تبنى بها العلماء المسلمون مثل هذا النقل للمعرفة لاحقًا خلال العصر العثماني الحديث، من أجل تحقيق التقدم العلمي والتنمية الاقتصادية.
في عمله المرموق، دار الفنون: أول جامعة حديثة في العالم الإسلامي The House of Sciences: The First Modern University in the Muslim World يتتبع إحسان أوغلو بدقة عملية التقدم العلمي ونقل العلوم عبر القرون ضمن سياق سياسي ديناميكي ومعقد. ومن القضايا اللافتة التي أثارها في هذا الكتاب هي ما تتميز به المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي عن تلك الموجودة في الغرب. فعلى الرغم من تشارك ’المدرسة’ بعض أوجه التشابه الهيكلية والمناهج الدراسية مع جامعات العصور الوسطى في أوروبا، كما يجادل، فإنها كانت في الواقع مؤسسة إسلامية فريدة بحد ذاتها. بل إنه يجادل ويبيِّن أن تطور المؤسسات التعليمية الحديثة في أوروبا تأثر إلى حد كبير بنقل المعرفة العلمية من الشرق الإسلامي إلى الغرب المسيحي خلال القرون الوسطى.
يناقش إحسان أوغلو أيضًا التحديات الثقافية والسياسية وغيرها التي واجهت التحول من نظام التعليم التقليدي الذي كان قائمًا على ’المدرسة’ التقليدية إلى نظام حديث قائم على دارالفنون (دار العلوم) والذي جاء استجابة لظهور الجامعات الحديثة في الغرب.
كتب أوغلو في كتابه الشهير دار الفنون: أول جامعة حديثة في العالم الإسلامي: “نتيجة للحروب الطويلة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي انتهت بهزائم مُني بها الأتراك، بدأ العثمانيون يدرسون خصومهم بتأنٍ وتابعوا باهتمام أكبر الميزات التي ضمنت التفوق الأوروبي، بما في ذلك التطورات الجديدة في التعلم والتعليم”.
بينما تركزت معظم أعمال إحسان أوغلو على تاريخ العلوم والمؤسسات العلمية وتطورها في العالم الإسلامي، فقد اهتم أيضًا بمعالجة القضايا التي تواجه الإسلام والدول الإسلامية في الوقت الراهن، مثل عقبات التقدم التي تواجه الدول الإسلامية، والمسألة الملحة المتعلقة بالإسلاموفوبيا، والكيفية التي يمكن بها تحويلها من قضية شائكة إلى فرصة للتعاون مع الدول غير الإسلامية.
أمضى إحسان أوغلو عقودًا من حياته في القراءة والكتابة عن علماء المسلمين الأوائل واللاحقين، لكن ربما كانت مساهمته الأبرز الطريقة التي تبنى بها نهجهم متعدد التخصصات في الوصول إلى المعرفة. على هذا النحو، كان عالمًا ومؤرخًا وعالم اجتماع وباحثًا أدبيًا في الوقت نفسه. هذا النهج هو الذي مكنه من إعادة اكتشاف التاريخ المتواري للعلوم الإسلامية، ومن أن يكون رائدًا في تسليط الضوء على تحولها إلى نظام علمي حديث حاليا.