د. أبو بكر خالد سعد الله
يعتبر عامة الناس الأهرام مجسمات ضخمة صُنفت عالميا من بين عجائب الدنيا السبع. ويعلم هؤلاء أن تاريخها يرجع إلى نحو 45 قرنا، وأن أبرزها ثلاثة أهرامات موجودة في منطقة الجيزة بجوار القاهرة. والواقع أنه لا يوجد ثلاثة أهرامات فحسب، بل ثمة ما لا يقل عن 37 هرما تقع بين القاهرة والفيوم المصرية! غير أن هذه المجسمات ليست بنفس الحجم والشكل والعمر والكمال.
ويتساءل المرء عن سبب تشييد الأهرام في عهد الفراعنة؟ والجواب هو أنها ترمز بضخامتها إلى عظمة الفراعنة وتمثل مقابر لملوكهم. وأكبرها هو هرم خوفو الذي بني قبل 45 قرنا ويبلغ علوه 146.7 متر ومحيط قاعدته 230 مترا. ويقدر بعض علماء الآثار أن بناءه تطلب نحو 20 ألف عامل خلال 20 سنة. ومصر ليست الوحيدة التي شيّدت فيها أهرامات، فقد حذا حذوها آخرون ولاسيما في المكسيك والبيرو بدءا من القرن السادس عشر الميلادي.
أما الباحثون في علم الآثار وعلوم أخرى فلا يهتمون كثيرا بالجانب السياحي بل ينصب انشغالهم على عنصر يكاد يكون الوحيد: كيف بُنيت الأهرامات، وكيف نقل قدماء المصريين الحجارة والصخور بتلك الكمية، وهي بوزن إجمالي يُقدّر بنحو 4.7 مليون طن، خلال بناء هرم خوفو وحده؟
كيف جُلبت حجارة بناء الهرم؟
في أواخر سبتمبر 2017، عثرت فرقة من علماء الآثار المصرية على مجموعة من ورق البردي فيها شهادة فريدة من نوعها كتبها أحد المشرفين على ورشة إنجاز أحد الأهرامات. وكان كاتب الوثيقة يرأس نحو 40 عاملا، وقد شرح فيها طريقة جلب الصخور التي اقتطعوها من حي طرّة، الواقع جنوب القاهرة على ضفاف النيل، ويبعد نحو 15 كلم عن الجيزة. كما جُلبت الصخور -حسب هذه الوثيقة- من أسوان (الواقعة على بعد 800 كلم جنوب القاهرة). كان جلْب الصخور يتم باستعمال مياه نهر النيل، ثم عبر قنوات اصطناعية حُفرت خصيصا لنقل تلك الحجارة المكوّنة من الغارنيت والكلس ويصل وزن كل منها إلى 30 طنا.
لقد قضى الباحث الفرنسي بيير تالي Pierre Tallet، الذي ترأس الجمعية الفرنسية للآثار المصرية حتى نهاية 2017، أربع سنوات لقراءة نص هذه الوثيقة واستخراج معانيها. يبقى السؤال: هل ينبغي أن نصدق كل ما جاء في هذه الشهادة؟! لا يزال التدقيق في هذه المعلومات جاريا.
ويرى بعض العلماء أن المصريين صنعوا وصقلوا الحجارة في المكان ذاته الذي يجب أن تكون فيه انطلاقا من مواد مطحونة، في حين يرى آخرون أنها جلبت من مكان بعيد.
الفضاء الخالي
بدأ الاهتمام بباطن الأهرامات منذ عهد المأمون (القرن التاسع الميلادي) حيث تبيّن آنذاك أنه ليست هناك كنوز بالداخل، وأن ثمة غرفة للملك في الأعلى وأخرى للملكة في الأسفل، وكذا بعض الممرات. وفي 13 أكتوبر عام 2016 تم اكتشاف فضاءين ضيقين جديدين طولهما بضعة أمتار.
أما في 2 نوفمبر 2017 فاكتشف فريق دولي فضاء خاليا طوله 30 مترا داخل هرم خوفو. ووصف أحد المشرفين على المشروع سعة هذه الفجوة وشكلها بحجم طائرة حمولتها 200 مسافر في قلب الهرم! وكان الفريق قد شرع في عمله عام 2015 مستعملا تقنيات عالية الجودة غير باضعة (أي إنها لا تقوم بالحفر أو الهدم أو الردم) تسمح برؤية الفجوات الواقعة وراء الجدران في باطن الهرم.
وهذا الفراغ المكتشف فراغ مغلق ولم يتم فتحه قط منذ بناء الهرم. وعندما ظهر هذا الاكتشاف أصبح عدد الباحثين الذين يشتغلون حول الهرم لمعرفة ما في باطنه نحو 50 باحثا. ومن شأن هذه الأبحاث أن تكشف عن البنى الداخلية غير المعروفة لدى المختصين.
ولا يمكن استعمال الأشعة السينية لإظهار ما بداخل كائن بضخامة الهرم خوفو، لذا لجأ الباحثون إلى الأشعة الكونية، وهي جسيمات ذات طاقة عالية تقصف الأجواء الخارجية فتتسبب في بث حزم من الجسيمات. ومن بين هذه الجسيمات تلك التي تسمى «ميونات» muons أو «إلكترونات ثقيلة»، وهي قادرة على اختراق مئات الأمتار من الصخور قبل توقفها.
لم يتمكن الفريق من معرفة الهدف من ترك هذا الفراغ داخل الهرم، كما لم يتم تحديد شكله الهندسي الدقيق، فربما يمثل غرفًا متلاصقة. لذا نجد في هذا الموضوع الكثير من الفرضيات. وما هو مؤكد أنه من الصعب بلوغ هذا الفضاء، وبناء على ذلك فكر الباحثون في تصنيع روبوتات قادرة على الولوج داخل الهرم والكشف عما في باطنه.
وهذه الروبوتات ستكون روبوتات تسير على أربع قوائم لا يتجاوز طولها 40 سم ووزنها 50 غراما. ويفكر المصممون في جعلها قادرة على الطيران والولوج في ثقب قطره 3.6 سم. وعليها أن تلتقط صورا وتستكشف «الفجوة الكبيرة» (وهو الفضاء الذي تم اكتشافه حديثا).
رؤية جون بيير هودين
تعددت النظريات حول الكيفية التي بُنيت بها الأهرام. فإضافة إلى ما ذكرنا آنفا، نجد من ادعى أن ثمة من أتى من خارج الأرض وساعد على البناء! ومنهم من رأى أن المصريين استعملوا مجاري المياه الاصطناعية واختلاف مستوياتها بالنسبة لوجه الأرض لنقل الحجارة، ومنهم من اعتقد أن البنائين استخدموا نوعا من الرافعات بعدد كبير. وثمة عدد كبير واثقون من استعمال أرصفة خارجية مائلة طولها يزيد عن 1.5 كيلومتر، وترتفع عن وجه الأرض بعلو 146 مترا.
كان الوالد هنري هودين Henri Houdin للولد جون بيير هودين Jean-Pierre Houdin، مهندسا مقيما مع أسرته في ساحل العاج منذ عام 1950. وعند استقلال ذلك البلد الأفريقي رحلت الأسرة إلى باريس عام 1962. وكان الولد والوالد مهتميْن بالآثار والهندسة المعمارية بحكم تخصصهما وهوايتهما.
كان الاعتقاد السائد في الآراء التي نظّرت لكيفية بناء الأهرام، وبوجه خاص الهرم خوفو، أنها شُيدت من الخارج. وفي عام 1999 عاكس الأب هنري هودين هذا الرأي، وأكد أن مواد البناء أتت من الخارج إلى داخل الهرم، وأن البناء تم من الداخل وذلك عبر «رصيف» شُيّد لهذا الغرض. وتلك هي الطريقة الوحيدة في نظره لبناء الهرم حتى قمته.
استعمل هودين رادارات للتصوير الحراري وأجهزة قياس حقل الجاذبية وأحدث المسابير. وقد صار للباحث تصور دقيق لكيفية البناء. فإن صدقت هذه النظرية فإنه يكون قد حل لغزا طال أمده. ومن المعلوم أن عدة هيئات عملت على مشروع هودين منها، المجمّع الصناعي الفرنسي «داسو» Dassault وجامعة لافال Laval الكندية وخبراء مصريون. هدفهم جميعا كان استغلال كل الوسائل التي يتيحها العلم والتكنولوجيا لكشف لغز بناء الأهرام.
يلاحظ الباحثون أن قدماء المصريين كانوا يعرفون القاعدة الحسابية التي تميّز العلاقة بين حجم جزء الهرم (بدءا من قاعدته) والارتفاع: فإذا بلغنا ثلث الارتفاع فسيكون الحجم (بدءا من القاعدة) حتى ذاك الارتفاع هو ثلثي الحجم الكلي للهرم. ومن ثم فعندما نصل إلى نصف ارتفاع الهرم سنحصل على %85 من الحجم الكلي تقريبا. لذا يقول هودين إنه إذا بلغ الرصيف المائل الداخلي الذي يسمح بتزويد البنائين بمواد البناء منتصف ارتفاع الهرم فلن يبقى من البناء سوى %15 لإتمام تشييد الهرم.
نشير إلى أن هودين ليس الوحيد الذي أتى بفكرة الرصيف الداخلي بل هناك أيضا الإيطالي إيليو ديوميدي Elio Diomedi، وكذا الفرنسي جون روسو Jean Rousseau.
الرصيف الداخلي
غير أن النظرية التي يدافع عنها هودين تطرح تساؤلات لدى الباحثين لم يتم الإجابة عنها حتى الآن، منها أن الرصيف الداخلي لم يتم العثور عليه في هرم خوفو ولا في هرم خفرع . في حين توجد بعض العناصر التي تؤيد نظرية هودين مثل بقايا رصيف داخلي بهرم كان في منطقة سقارة (15 كلم جنوب القاهرة) في معبد الشمس. ويردّ هودين على معارضيه بأن بناء الأهرامات الصغيرة لا تحتاج إلى أرصفة داخلية حيث يمكن الاكتفاء برصيف خارجي.
يلاحظ الباحثون أن المصريين حلوا مشكلة البناء بأرصفة خارجية عندما تعلق الأمر بأهرامات صغيرة وأنهم لجأوا إلى الرصيف الداخلي الحلزوني ليصعد إلى مستويات أعلى بالنسبة للأهرامات الضخمة مثل الهرم خوفو. وحسب نظرية هودين فإن البناء اعتمد على ثلاثة عناصر أساسية هي:
1. استعمال رصيف خارجي مستقيم عمودي على قاعدة الهرم لتشييد ما يصل ارتفاعه إلى 43 مترا في الهرم، وهذا يعادل %65 من حجم الهرم.
2. استعمال رصيف داخلي حلزوني يحاذي من الداخل أوجه الهرم لإنهاء بناء الجزء العلوي حتى قمة الهرم.
3. استعمال الرواق الكبير داخل الهرم لتشكيل نظام يسمح برفع الأثقال لا سيما تلك الخاصة بغرفة الملك الموجودة في الجزء العلوي من الهرم.
كيف اكتشف هودين هذه الطريقة؟ لقد استعمل تقنية النمذجة الثلاثية الأبعاد مستعينا بصانع الطائرت داسو وبالتقنية غير الباضعة، واستخدم أيضا أحدث تكنولوجيات التصوير. وبذلك استطاع تصور تصميم تقنية البناء ومشاهدة مجرياتها مشاهدة افتراضية ليكشف عن خصوصياتها. والجميل في هذه البرمجيات الحاسوبية التي تظهر النمذجة أنه كلما قام الباحث بتغيير طفيف في عامل من عواملها يرى تحوّلات المشهد التي تطرأ بعد ذلك التغيير في عملية البناء. ومن ثم يتعرف الباحث في كل حالة إلى العوائق التي تبرز والكيفية التي يمكن بها تخطيها.
اللجوء إلى الروبوتات
تفحص فريق هودين باطن الأهرامات باستعمال ميزان مصغر للجاذبية والرادارات المطيافية وغيرها. وصنع الفريق روبوتا سمي «دجدي» Djedi. قدم هودين عام 2001 أولى دراساته التي أنجزت بهذه التقنية. وهذا النوع من التقنيات يسمح بتوفير معلومات حول الموقع ما لم يتجاوز سمك الجدار 5 أمتار.
تسمح التكنولوجيات المستعملة في الأجهزة المصغرة لقياس الجاذبية بتحديد شدة القوة المولدة في مختلف أمكنة الهرم. ومن ثمّ يتم تحديد الكتل واحتمال وجود الفراغات والغرف والأروقة. ويسمح التحليل المطيافي بالتأكد مجددا من بعض البيانات. كما أن هناك تطويرا لتقنية التحليل بالأشعة تحت الحمراء الحرارية.
يتضح مما تقدم أن الأهرامات لا تؤدي فحسب دورا سياحيا منقطع النظير في العالم, بل لا تزالت تُعَدّ مصدر إلهام حاسمًا للباحثين ودافعا قويا إلى تطوير أجهزة تكنولوجية عالية الجودة في مجال الاستكشاف المتعدد الأشكال.