أمواج الجاذبية… اكتشاف القرن
د. فخري حسن
نشر العالم الشهير ألبرت آينشتاين (1879 – 1955) نظرية النسبية العامة عام 1916 أي قبل قرن من الزمان. وقد خضعت النظرية خلال تلك الفترة الطويلة لكثير من النقاش والاختبار والبحث العلمي. واعتمد آينشتاين في البناء الرياضي للنظرية على مبدأ بسيط يعرف بمبدأ التناظر Equivalence Principle . وينص المبدأ بصورته البسيطة على أنه لا يمكن التمييز والتفريق بين الظواهر الفيزيائية الناتجة عن المجال الجاذبي وتلك الناتجة عن الحركة المتسارعة. ولتوضيح المبدأ نقول إن وقوفنا على الأرض يسبب ضغطاً على سطحها بسبب وزننا، وتؤثر الأرض في أجسامنا بقوة رد فعل عمودي، تنتج قوة الوزن ورد الفعل بسبب الجاذبية الأرضية، وإذا تحركنا بصاروخ بتسارع مناسب فإنَّ رد فعل عمودياً يؤثر في أجسامنا بسبب الحركة المتسارعة، ولا يمكن التفريق والتمييز بين رد الفعل في الحالين.
أظهرت النظرية النسبية العامَّة أنَّ وجود الكتل في الفضاء (لاسيما الضخمة منها) يؤدي إلى وجود مجال جاذبي يحيط بها، يعمل إذا ما كان كبيراً على انحناء أو تقوس نسيج مكان/زمان (fabric spacetime). إن هذا النسيج خطي أو مستو على أرضنا لأن قوة جاذبيتها ضعيفة، ولذلك فإننا نقول إن الضوء يسير حسب هذا النسيج في خطوط مستقيمة، وعلى العكس من ذلك فإنَّ مجال الجذب لبعض الأجرام السماوية (مثل الشمس) كبير مما يؤدي إلى انحاء أو تقوس النسيج، ويسير الضوء خلال هذا النسيج في خطوط منحنية. ويمكن القول إن الضوء انكسر أو انحرف عن مساره المستقيم الأصلي.
طبق آينشتاين النظرية النسبية العامة على نشوء الكون وتطوره، وظهر من معادلات دراسته أنَّ الكونَ يزداد اتساعاً مع الزمن (يتوسع) ، لكنه لم يصدق النتيجة التي لا تتفق مع الحدس إذ إن الكون يبدو مستقراً. وأضاف حداً إلى المعادلة ليتعادل مع توسع الكون ويبدو الكون ساكناً أو مستقراً. ثم اكتشف الفلكي الأمريكي هابل أن الكون يتوسع فعلاً فيما يعرف بقانون هابل. وقد ندم آينشتاين ندماً شديداً على إضافة الحد إلى المعادلة، وكان بإمكانه اكتشاف توسع الكون نظرياً قبل دراسة هابل التجريبية ليحقق إنجازاً عظيماً.
الجاذبية عند نيوتن وآينشتاين
يمكن استخدام قوانين نيوتن لدراسة الحركة في حالة الجاذبية الضعيفة مثل جاذبية الأرض، وإذا استخدمنا هذه القوانين في مجال كبير للجاذبية (قرب الشمس مثلاً)، فإنها تفشل ولا تعطي أجوبة صحيحة. وقد نجحت قوانين نيوتن في تفسير حركة كواكب المجموعة الشمسية باستثناء كوكب عطارد القريب من الشمس؛ لأن قوة جاذبية الشمس عند هذا الكوكب كبيرة مما أدى إلى فشل تلك القوانين. وفي المقابل حققت النظرية النسبية أول نجاح لها بتفسيرها لحركة هذا الكوكب بدقة. وإضافة إلى تفسيرها لحركة كوكب عطارد فقد تنبأت النظرية النسبية بظواهر طبيعية لم تكن معروفة في ذلك الوقت، لكن التجارب والأبحاث العلمية بيَّنت صحتها في السنوات التالية.
انحناء مسار الفوتون
أظهرت الإشعاعات النظرية النسبية العامة أن مسار فوتونات الضوء أو الإشعاعات الكهرمغنطيسية ينحرف أو ينكسر عند مروره بالقرب من مجال جاذبي قوي. وكان الفلكي البريطاني آرثر إدينكتون (1882 – 1944) أوَّل منْ حاولَ فحص واختبار هذه النتيجة للنظرية النسبية بعد نشرها بثلاث سنوات أي عام 1919.
وقد لاحظ أنَّ الكسوف الكلي للشمس الذي حدث في إفريقيا مناسب لدراسة مسار فوتون قادم من نجم بعيد عند اقترابه من الشمس؛ ذلك لأن القمر يحجب فوتونات الشمس عن الوصول للأرض في هذه الحالة. وقد وجد أن موضع النجم تبعاً للفوتونات القريبة من الشمس انزاح قليلاً عن مكانه الحقيقي. فاستنتج من ذلك أن مسار الفوتون القريب من الشمس انحرف أو انكسر كما تنبأت النظرية النسبية.
وشعر آينشتاين بسعادة غامرة حيث تصدرت نتيجة التجربة الصفحات الأولى لكثير من الصحف العالمية، مما دفعه لكي يقدم شكره للعلماء الذين أجروا التجربة تحت إشراف إدينكتون. وتأكد انحراف الضوء أو الفوتونات في تجارب كثيرة بلغت دقة بعضها نحو (0.03 %).
تأثير الجاذبية في الفوتون
بينت النظرية النسبية العامة أن مجال قوة الجاذبية يؤثر في تردد الفوتونات حيث يزداد التردد عند اقتراب الفوتون من المجال وينقص في حالة ابتعاده عنه. وتعرف هذه الظاهرة بإزاحة الجاذبية نحو الأحمر Gravitational red shift أو إزاحة آينشتاين قياساً على ظاهرة دوبلر التي تعطي إزاحة نحو الأحمر بسبب الحركة.
وقد أجريت عدة اختبارات لهذه الظاهرة في النصف الأول من القرن الماضي دون الحصول على نتائج واضحة وقوية. ثم أجريت تجارب أخرى أظهرت نتائجها تطابقا بصورة ممتازة مع ما تنبأت به النظرية النسبية.
ويمكن اختبار تغير تردد الفوتون بسبب المجال الجذبي من خلال قياس الزمن، فالتردد هو عدد الذبذبات أو الاهتزازات في الثانية الواحدة. تتحول الذرات بفعل انتقال الإلكترونات بين حالات طاقتها بسرعة كبيرة جداً كنوع من الحركة الاهتزازية، ومن ثم يمكن استخدامها كساعات ذرية لقياس الزمن بدقة متناهية. وتنبأت النظرية النسبية بأن الزمن – وعلى العكس من التردد – يمضي ببطء بوجود مجال جذبي كبير. فساعة ذرية على سطح الأرض (مجال جذب كبير) تقيس فترة زمنية أصغر من تلك التي تقيسها ساعة ذرية في طائرة بعيدة عن مركز الأرض (مجال جذب صغير)، فالزمن يمضي في الحالة الأولى أبطأ من الحالة الثانية.
وقد أجريت تجارب كثيرة باستخدام ساعات ذرية مختلفة، وكذلك على ارتفاعات متعددة، وكانت النتائج تتفق دائماً مع معادلات النظرية النسبية.
التعدس الجذبي
تعمل العدسة الزجاجية في المجهر أو التلسكوب على تكوين صور للأجسام نتيجة لكسر أشعة الضوء التي تمر خلالها، وقد تنبأت النظرية النسبية بكسر شعاع الفوتونات عند مرورها قرب مجال جذبي كبير. ويوجد في الكون نجوم ومجرات عملاقة، مجالها الجذبي كبير جداً، تعمل على كسر شعاع الضوء القادم من نجوم بعيدة مكونة صوراً لهذه النجوم. يطلق على هذه الظاهرة اسم التعدس الجذبي Gravitational lensing .
وقد تم اكتشاف هذه الظاهرة تجريبياً للمرة الأولى عام 1979 عندما اكتشف علماء الفلك نجمين متماثلين تماماً، تفصل بينهما مسافة صغيرة نسبياً، وبين تحليل النتائج وتجارب أخرى كثيرة أنَّ النجمين عبارة عن صورتين لنجم يقع في منتصف المسافة بينهما، ولا يمكن رصده بصورة مباشرة. وقد تكونت الصورتان نتيجة لمرور أشعة الفوتونات قرب جرم سماوي (نجم أو مجرة) عملاق يقع بين النجم البعيد والأرض، وقد ينتج عن التعدس الجذبي أكثر من صورتين في بعض الحالات، ويطلق على الحالة التي تتكون فيها أربع صور للنجم صليب آينشتاين Einstein cross.
وتستخدم ظاهرة التعدس الجذبي بصورة واسعة في علم الفلك لرصد الأجرام السماوية البعيدة جداً مثل الكوازرات quasars، وهي نوع من المجرات النشيطة جداً واللامعة جداً، وتصدر كمية كبيرة من أمواج أو إشعاعات الراديو. ويأمل العلماء استخدام الظاهرة لرصد المادة الداكنة أو المعتمة التي لا تصدر أي نوع من الإشعاع، لكن مجالها الجذبي كبير جداً.
أمواج الجاذبية
نعرف جميعاً التناظر والتشابه الكبير بين أقدم قوتين في الطبيعة عرفهما الإنسان وهما قوة الجاذبية والقوة الكهرمغنطيسية (القوة الكهربائية). وتعتمد القوة الأولى على كتل الأجسام والثانية على الشحنات الكهربائية، وتتناسبان تناسباً عكسياً مع مربع البعد بين الأجسام أو الشحنات. وينتج عن الحركة الاهتزازية للشحنات الكهربائية (أو الأجسام المشحونة مثل الإلكترونات) أمواج كهرمغنطيسية نستخدمها بصورة واسعة في حياتنا اليومية، وعلى الخصوص في الاتصالات.
وقد تنبأت النظرية النسبية العامة بأن الحركة الاهتزازية للكتل ينتج عنها أيضاً أمواج سميت بأمواج الجاذبية. ومثل هذه الأمواج غير معروفة عملياً في الطبيعة، وقد يعود ذلك إلى ضعف الأمواج نتيجة لضعف قوة الجاذبية. وحاول العلماء خلال قرن من الزمان الكشف عملياً عن هذه الأمواج بصورة مباشرة دون نتيجة حتى نهاية العام 2015. ومع ذلك فهنالك دلائل تجريبية على وجود هذه الأمواج. أمكن الحصول على هذه الإشارات والدلائل من دراسة حركة النجوم الثنائية .
وكان أحد النجمين في دراسة أجراها تيلور وهلس Taylor and Hulse عام 1974 نجماً نيوترونياً، ويتكون هذا النجم من نيوترونات، ويمتاز بكثافة عالية جداً تماثل كثافة نواة الذرة. ويدور النجم النيوتروني حول نفسه بسرعة كبيرة جداً ويصدر أمواجاً كهرمغنطيسية بصورة غاية في الدقة، ويمكن اعتباره كساعة كونية دقيقة. وقد اكتشف هذا النوع من النجوم عام 1967، واعتقد في البداية أن النبضات التي تصدر عنه عبارة عن رسائل من حضارات كونية أخرى.
وحسب النظرية النسبية العامة فإن النجم يعتبر مصدراً لأمواج الجاذبية أيضاً، ويؤدي صدور أمواج الجاذبية من النجم إلى نقصان في طاقته وكذلك في زمنه الدوري أو زمن نبضاته التي يرسلها. وقد بينت الدراسة أن نبضاته أو زمنه الدوري قد نقص بمقدار 75 ملي ثانية في العام. وهذه النتيجة مساوية لتلك المحسوبة من معادلات النظرية النسبية العامة. واعتبر ذلك دليلاً تجريبياً غير مباشر على وجود أمواج الجاذبية، وحصل كل من تيلور وهلس على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1993 على تلك الدراسة المهمة.
ويوجد في الوقت الحاضر كواشف ضخمة حساسة جداً للأمواج للكشف عن هذه الأمواج بصورة مباشرة. وتعتبر كواشف Ligo التي تستخدم أشعة الليزر والموجودة في الولايات المتحدة أكثر هذه الكواشف تطوراً وحساسية. ويشارك في مشروع Ligo أكثر من ألف عالم، معظمهم من الولايات المتحدة، ويشرف على أبحاث كواشف Ligo التي مولتها مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية NSF علماء من معهدي كاليفورنيا للتقانة وماساتشوستس للتقانة .
وأعلن البروفيسور ديفيد رايتز من معهد كاليفورنيا للتقانة في 11 فبراير 2016 اكتشاف أمواج الجاذبية بصورة تجريبية مباشرة. وتم تسجيل الأمواج في كل من كاشف Ligo في واشنطن وآخر مشابه تماماً في لويزيانا.
ونتجت الأمواج عن دوران فجوة سوداء (ثقب أسود) كتلتها تساوي 36 كتلة شمس، وأخرى كتلتها 29 كتلة شمس، إحداهما حول الأخرى، ثم تصادمتا بصورة عنيفة جداً واندمجتا في فجوة واحدة.
وحدث التصادم على بعد 1.3 مليار سنة ضوئية من الأرض قبل نحو 1.3 مليار سنة، ووصلت الأمواج التي تسير بسرعة الضوء الى الأرض هذه الأيام. واعتبر بعض العلماء هذا الاكتشاف المهم مشابهاً لاكتشاف الفيزيائي الألماني هيرتز الأمواج الكهرمغنطيسية عام 1888 التي تنبأ بها العالم الاسكتلندي ماكسويل قبل ذلك بسنوات.
ويأمل العلماء أن يكون الكشف عن هذه الأمواج بعد قرن من الدراسة والبحث العلمي بداية جادة لدراسة أكثر عمقاً لنشأة الكون وتطوره، ويعتقد أنَّ الاكتشاف سيساعد على معرفتنا لمعدل توسع الكون لتحديد مصيره، كما يتوقع العلماء أن يسلط الاكتشاف الضوء على الفجوات السوداء والنجوم النيوترونية التي لا نعرف الكثير عنها.