د. عمّار العاني
تراكمت المعرفة الإنسانية وبخاصة العلمية على مدى أكثر من عشرة ألفيات، هو تقريباً عمر التدوين المعروف. وبينما كان الدافع الأساسي لهذا التراكم هو تلبية حاجات البشر وتحسين ظروف معيشتهم، كانت الوسيلة لتحقيقه – ولا تزال – هي تلك القدرة الفريدة للكائن البشري على طرح الأسئلة، إنه “السؤال” الذي يدفعنا دائماً في هذه المغامرة المعرفية.
“كيف” يمكننا التحكم فيما تنتجه التربة توقيتاً ومحصولاً هو أصل الثورة الزراعية الأولى، “لماذا” تساعد عشبة معينة على تخفيف آلام معينة هو بداية علم الطبابة، “أين” هو اتجاه الشمال في القبة السماوية أطلقه علم الفلك، مئات الأسئلة دفعت بعلوم اللغة والهندسة والفلسفة وحتى الأساطير، أسئلة من نوع كيف وأين ولماذا ومتى…
وعلى الرغم من الفتوحات المذهلة التي قدمتها الإجابات المتراكمة، تبقى هذه الأسئلة قاصرة في جوهرها، فهي تعتمد في نهاية المطاف على ما تقدمه الطبيعة من معلومات لحواسنا المختلفة لتبدأ بعدها عملية التحليل والإدراك، وهذا المنهج قاصر حتماً كما جادل أفلاطون في كتاب (الجمهورية) عندما شبه الشرط الإنساني بسكان كهف محاطين بجدرانه الصماء من كل الجهات ما عدا فتحة صغيرة تتسرب منها بعض الخيالات والأصوات والروائح، وهم مطالبون ببناء تصور عن شكل العالم الحقيقي خارج الكهف انطلاقاً فقط من هذه المعلومات والانعكاسات. وأفلاطون يقترح بأننا نطرح الأسئلة أصلاً بسبب عجز أساسي في إدراك مطلق ولحظي للحقيقة الكاملة، ولأننا لا نملك سوى شذرات متفرقة تجمعها حواسنا وخبراتنا عن واقع هو بعيد عن الفهم وخارج كهفنا البشري (الشكل 1).
عندما حاول أفلاطون نفسه الإجابة عن سؤال “ما هي مكونات المادة؟”، ذهب إلى اعتبار العناصر الأساسية هي الهواء والنار ولها نزعة للارتقاء نحو السماء، والماء والتراب حيث النزعة للاستقرار في الأرض. ومن المفارقة أن يقع أفلاطون هنا في ذات المطب الذي وصّفه سابقاً، فيكون أسير التفسيرات الحسيّة القاصرة.
وبخلاف نمط الأسئلة السابقة، استطاع العقل البشري في مناسبات قليلة طرح سؤال من نوع آخر تماماً، سؤال أكثر تحرراً من معظم القيود، وهو :”ماذا لو…؟”.
ماذا لو كانت الشمس في المركز؟ ماذا لو كان للعدد -١ جذر تربيعي؟ ماذا لو كان الزمن نسبيا؟…
لم تُطرح هذه الأسئلة كقفزة في فراغ بالطبع، بل كان لها ما يبررها في كل مرة، لكن ذلك لا يلغي تميّزها النوعي، فسؤال “ماذا لو؟” يستحضر مهارة من نوع آخر تماماً، فهو يتطلب الكثير من الخيال بدل التحليل، والربط العقلي المنطقي بدل التفسير الحسي، إنه يتطلب ابتكارَ واقع بديل صاف محصّن عن تلوث الحواس، واقع لا يخضع إلا لصرامة المنطق وفعالية البرهان، وفي كل مرة كان تراكم المعرفة الحسية يصل إلى طريق مسدود، كان هذا السؤال ينقل البشرية إلى بداية طريق جديد كلياً.
ماذا لو سبقت الريشة الحجر؟
في مطلع القرن السابع عشر، أجرى غاليليو عدة تجارب على حركة النواس، ليكتشف أن دور (تواتر) الحركة مرتبط بطول الذراع تحديداً، وأن كتلة الثقل ليس لها تأثير على “السقوط” المتكرر للنواس. لقد فرضت المعادلات الرياضياتية على غاليليو واقعاً غريباً، تسقط فيه الأشياء بالسرعة نفسها بغض النظر عن وزنها، لكن كل الخبرات الإنسانية والحسية ترفض غريزياً هذا المبدأ، فمن الصعب حتى في زمننا الحالي أن يقبل “العقل” أن الريشة تسقط بسرعة كرة مدفع حديدية (الشكل 2). والواقع أن هذا الرفض لا ينبع أبداً من العقل وإنما من الخبرة والعادة، فنحن نولد ونعيش ونموت في رحم هواء ذي كثافة عالية، يقاوم سقوط الريشة أضعاف مقاومته للكرة الحديدية بسبب سطحها الواسع بالنسبة لوزنها، وهنا يأتي السؤال: ماذا لو تركنا الريشة والكرة تسقطان في الخواء؟ أي في مكان مفرغ من الهواء.
احتاج هذا السؤال إلى أربعة قرون قبل أن تتمكن وكالة الفضاء الأمريكية من بناء حجرة ضخمة مفرغة بشكل شبه تام من الهواء، فتؤكد بالتجربة أن غاليليو كان على حق! لكن لو طُرح السؤال كالآتي: لماذا تسقط الريشة ببطء؟ لبقيت الإجابات تحوم في فلك الخبرات المحسوسة فتقترح حلولاً أفلاطونية تبدأ بطبيعة الريشة الميّالة للطيران وقد تنتهي بأساطير عن أجنحة الملائكة. وحده سؤال “ماذا لو؟” هو المهرب المنطقي من تأثيرات المحسوس إلى نقاء الجدل العقلي والمعادلة الرياضياتية.
أعطني (سين) وسأعطيك (عين)
قدم لنا عبقري آخر هو رينيه ديكارت عبارته الشهيرة “أنا أشك إذن أنا موجود”. ويمكن سبر هذه العبارة في سياق طرحنا، لأن الشك يسكن في جوهر السؤال السابق، فهو في العمق يقرّ بأن المعلوم والمرئي والمسموع ليس مقدساً، إن “ماذا لو؟” تنسف من حيث المبدأ ما هو مُدرك لتبحث في احتمالات ما هو مُفترض، وهذا منتهى الشك.
لقد كان معروفاً في زمن ديكارت، ومنذ قرون طويلة، أن الأعداد الطبيعية تنتظم في ترتيب صارم، فالعدد أربعة يسبقه الثلاثة ويليه الخمسة مما يشكل خطاً مستمراً اصطُلح على تسميته خط الأعداد (number line)، وبهذا المفهوم لا يكون علم الحساب سوى الحركة على هذا الخط، فتأخذنا عملية الجمع عدة خطوات إلى الأمام في حين يحركنا الطرح باتجاه معاكس، وقد يأخذنا بعيداً عن نقطة البداية (العدد واحد) وعن كل ما هو مُدرك، لنخوض في مجاهل عالم افتراضي تماماً هو الأعداد السالبة، ناهيك عن مرورنا في برزخ عجيب بين العالم “الطبيعي” و “السالب” وهو العدد صفر بالطبع.
كذلك يمكن اعتبار عملية الجداء (الضرب) بمثابة تضخيم أو تكبير لعدد ما بمقدار عدد آخر، وهذه العملية ليست مجرد جمع متكرر كما اعتادت المقررات المدرسية على تبسيطه؛ ذلك أن عكس الجداء هو ليس طرح متكرر، وإنما تقسيم، أي عملية تصغير تأخذنا إلى كائنات مجهرية مدهشة هي الكسور، تعيش بين الأعداد الصحيحة في عوالم متناهية في الصغر لا يمكن لأي عملية طرح أخذنا إليها.
على أن الانتقال من الحساب إلى الجبر هو بمثابة خروج القطار عن السكة، فالجبر يدرس العلاقات (المعادلات) بين الأعداد وليس مجرد التنزه على هذا الخط ذهاباً وإياباً، تكبيراً أو تصغيراً.
إن معادلة مثل (Υ2-5) تعني في جوهرها أن هناك علاقة بين (2 و -1) تشابه العلاقة بين (3 و 4) و (5 و 20)، فالعدد الثاني من كل زوج هو نتيجة تطبيق المعادلة على العدد الأول. وبينما يبدو الحساب وكأننا نرتب سكان قرية في صف طويل حسب العمر من الرضيع الصغير إلى الشيخ العجوز (خط الأعداد)، يسبر الجبر مختلف أنواع العلاقات بينهم، فيتحدث عن الزواج والأبوّة والأخوّة والجيرة وشراكات العمل وعداوات الثأر…، كل معادلة هي علاقة تُزاوِج بين بعض الأعداد دون غيرها، فإذا كانت المعادلة هي (يكبره بثلاث سنوات) سيكون لكل شخص نسميه، شخص آخر أو أكثر (أو لا أحد) يرتبط معه بالعلاقة المطروحة، وتغيير المعادلة يغيّر الاصطفافات جذرياً.
الجبر وإرباك الأعداد
لقد أربك الجبر الناس لقرون طويلة، فهم تعوّدوا أن الأعداد تصطف بترتيب محدد، هذا الترتيب هو الجزء الحسي الغريزي في التعامل البشري اليومي مع الأعداد، فعندما يحصي راعٍ القطيع الذي يدخل الحظيرة، أو يدفع زبون ثمن سلعة بأوراق من فئة عشرة وخمسة وواحد، فهو ينتقل على خط الأعداد صعوداً أو هبوطاً بخطوات قابلة للإدراك، أما أن ينطلق من عدد ليستقر في آخر قد يكون قبله أو بعده، قريب أو بعيد! فهذا قفز فوضوي يُفقد الخط شكله نهائياً ومعه الحدس البشري البسيط (الشكل 3).
درس ديكارت هذا القصور في الإدراك الإنساني، حيث لم تسعف أسئلة كيف وماذا ولماذا في تكوين فهم عميق لهذه المعادلات، ومثل كل العباقرة في لحظة الابتكار، لجأ إلى السؤال الآتي: ماذا لو كان لدينا خطّا أعداد بدل واحد؟
افترض ديكارت وجود نسخة أخرى من الأعداد تصطف على محور آخر يعامد الأول فتخلق مساحة رسم هندسية تدعى اليوم جملة إحداثيات ديكارتية، وإذ بالمعادلات الصماء تتجسد في أشكال رائعة ومفهومة (الشكل 4)، مؤسساً بذلك علماً جديداً كلياً هو الهندسة التحليلية❋، وبناءً على هذا المزيج المبتكر من الجبر والهندسة أمكنه القول بثقة: أعطني (سين) وسأعطيك (عين).
قد تبدو هذه الفكرة اليوم منطقية ومفيدة، لكن علينا أن نتذكر أنها مبنية على افتراض غير معقول، فديكارت يطلب منا قبول نسختين من كل عدد، من كل شخص في القرية، حيث تصطف كل نسخة في خط، الأول للمدخلات (الآباء مثلاً)، والثاني للنتائج (الأبناء)، اثنان من ابراهيم واثنان من اسماعيل إلخ، ليس توأماً ولا مستنسخاً، فتلك تبقى علاقات، وإنما شبح مطابق للأصل لا يمكن تمييزه عنه، بل إنه أصل آخر، إنها قفزة بسيطة ولكن مذهلة في الخيال، نسفت نهائياً جدار الكهف حتى نتمكن من “رؤية” الكائنات الرياضياتية بكل رونقها وزهوها.
السؤال الأخير
لم تكن قفزات الوعي والفهم العلمي التي تنتجها أسئلة “ماذا لو؟” سهلة دائماً على الجمهور العريض، فهي تطالبنا بالتخلي عن كل خبراتنا الحسية وتجاربنا الواقعية لنثق فقط بقدرتنا على تخيل واقع بديل لا نعيش فيه وإنما يعيش هو داخل عقولنا وتحكمه فقط قوانين المنطق والربط والتجريد. وعلى الرغم من مرور عقود وقرون على بعض هذه القفزات فإنها بقيت في حيّز اللامعقول، فسؤال آينشتاين الاستثنائي: “ماذا لو كان الزمن يتباطأ مع تزايد السرعة حتى يتوقف تماماً؟” مرّ عليه أكثر من قرن وتم إثباته بالتجربة أكثر من مرّة دون أن يفقد غموضه وبعده عن خبراتنا اليومية، وكذلك سؤال “ماذا لو كانت الحياة سلسلة تطورية متّصلة بدأت بخلية وحيدة وانتهت بإنسان عاقل مروراً بالتفاح والقردة؟”.
بالطبع؛ لم تكن هذه الأسئلة والافتراضات تصيب الحقيقة دائماً، فعلينا ألا ننسى مثلاً “ماذا لو كانت الأرض محمولة على قرني ثور؟” أو “ماذا لو كانت القدرة على الإبصار ناتجة عن أشعة تطلقها العين؟”، إن تاريخ العلم مزدحم بفرضيات ثبت بطلانها، لكن ذلك لا يلغي أهمية تقديم الفرضيات، فبينما تُراكم الأسئلة العادية المعرفة بالملاحظة والمراقبة والتحليل والتفسير والربط، يصل هذا التراكم الكمي بين حين وآخر إلى أقصاه، ويصبح المطلوب تغييرا نوعيا في الطرح وهذه هي بالضبط وظيفة الفرضية أو ما سبق أن سميناه “ماذا لو؟”، أما ما يحول فرضية ما إلى نظرية مثبتة، فكان ولا يزال هو آلة العقل التي يصعب خداعها، إنه المنطق ولغته الأم: الرياضيات.
يقف العلم اليوم على حدود جديدة للمعرفة، ويجد نفسه مرة أخرى مضطراً لطرح فرضيات خارجة عن كل ما هو مألوف أو محسوس، “ماذا لو كان 95 في المئة مما حولنا مكوّنا من طاقة ومادة مظلمة لا ندركها؟”، “ماذا لو كان كوننا واحدا من عدّة أكوان موازية؟”، “ماذا لو أن هناك معادلة رياضية تفسر كل شيء؟”…
قد تنتهي معظم هذه الفرضيات إلى هزليات في كتب التاريخ، لكن بعضها بالتأكيد سيغير يوماً ما مفاهيمنا الراسخة وثقتنا بحواسنا، ونذكر مثلاً مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ، وهو ليس فكرة فلسفية كما يبدو للوهلة الأولى، وإنما مبدأ نابع عن فهم صارم وتجريدي لإحدى معادلات الفيزياء الكمومية المُثبتة :
حتى آينشتاين ذاته لم يستطع قبول عواقب هذه المعادلة على فهمنا للواقع عندما علّق: “الإله لا يلعب النرد”، لكنها الرياضيات مرة أخرى تفرض علينا اللامعقول، “ماذا لو كانت الطبيعة غير قابلة للقياس والتحديد”، وبعبارة أخرى، ماذا لو كان ما يحدث ليس حتمياً ولكن مجرد احتمال كبير جداً، فالتفاحة تسقط مليارات المرات لمجرد المصادفة الساحقة، وحتى هايزنبرغ نفسه لم يخبرنا متى وكيف وماذا نفعل في تلك المرة التي احتمالها “شبه” معدوم.. عندما لا تسقط التفاحة.