رجب سعد السيد
بعد أن أتاحت النمذجة modelling آفاقا واعدة للعلماء في جميع المجالات، ومنحتهم فرصا متميزة للغوص في أعماق عدد من الميادين التي كانت عصية على الفهم والإدراك، لجأ علماء المياه إلى الاستعانة بهذه التقنية الواعدة، والاستفادة من المزايا الكثيرة التي توفرها لهم في فهم حركة المحيطات والأنهار، ومقاربات الشأن المائي.
ولعل من أشهر علماء المياه الذين أفادوا من النمذجة الدكتور آريين هويكسترا، الباحث في جامعة تفينتي بهولندا، الذي يقود فريقاً من المشتغلين بالنمذجة التي كان لها إسهامها الفائق الأهمية في تعاطي المعنيين بعلم السوائل (الهيدروليك) ومختلف المقاربات المعنية بالمياه.
المياه الزرقاء والخضراء
على مدار سنوات طويلة عكف آريين وفريقه على النظر في مستويات استهلاك المياه، والتجارة، في 140 بلدا، مركزا على الدول الصناعية ودول مجموعة البريكس (البرازيل-روسيا-الهند-الصين –جنوب أفريقيا)، ونحو ثلثي الدول النامية. وكان الفريق قد بدأ عمله في بداية هذا العقد، فاستقى أرقامه من فترة نهاية القرن الماضي، ووضعها في تساوقٍ مع رقم تقريبي لتعداد سكان العالم، هو ستة بلايين نسمة. ومن بين أكبر ما استحدثه في عمله استعانتُه بقواعد بيانات الإنتاج والتجارة للإحاطة بالمياه الخضراء، فضلاً عن الزرقاء.
والمياه الزرقاء هي ما تراه أعيننا من مياه عذبة تجري على سطح كرتنا الأرضية، من أنهار وأمطار ومياه الخزانات الجوفية؛ أما الخضراء فهي تلك المتخللة لحبيبات التربة، وتستبعد في معظم الأحيان من الدراسات، لكونها غير مرئية من وجهة النظر الاقتصادية، بالرغم من ضرورتها الحيوية لتسيير الحياة في العالم وإنتاج أقواتنا. ومشكلتها هي أنه لا يضخها أحد، أو يسوقها، أو ينقلها من مكان إلى آخر، مما جعلها تستقر في الأذهان كسلعة عامة، أو على نحو أسوا يتم تجاهلها كليا. فإن كان قد تسنى للاقتصاديين أن يغضوا الطرف عن أحد العوامل الحاسمة بالنسبة للحياة البشرية والأمن القومي، لا لشيء إلا لعجزهم عن طريقة لإلصاق بطاقة سعر عليه، فلعل ذلك يدعو إلى التأكيد على بعض ما نحتفظ به لهم من أحكام مسبقة وفيرة، متصلة بحكمتهم!
وفي عام 2000 جاءت نمذجيات آريين لتكون أول من يأخذ المياه الخضراء في الاعتبار، ويتوصل إلى شيء أقرب ما يكون إلى الصورة الدقيقة لاستخدامنا الطبيعي للمياه عالمياً، حيث حددت حساباتها لحجمها بـ 7500 كم3 في السنة، وهو رقم ضخم جدا يصعب معه معرفة ماذا نفعل به!.
وعندما يتجاوزُ حجمُ الشيء حداً معيناً، نصابُ بما يمكن اعتباره نوعا من العمى التطوري، فنحن لم يكن يهمنا في الأساس أن نرى الغابات، وإنما أشجارها. كما أننا مخلوقات صغيرة الحجم، بطيئة الحركة، نعايش على سطح الكوكب الحيتان الزرق، والفيلة الأفريقية، وجبالاً شاهقة الارتفاع، ناهيك عن أنهار عملاقة.
خيرات الأنهار
لنلق نظرة على نهر الأمازون، المعروف لدى معظمنا بأنه أكبر أنهار العالم، وتقدَّرُ تدفقات مياهه بثمانية آلاف كيلومتر مكعب في السنة، أي إننا نستخدم أمازوناً في السنة الواحدة، تقريباً. وليكن واضحاً أن الأمازون ليس مجرد أكبر نهر بالعالم، وإنما هو الأكبر بفارق كبير؛ فهو أكبر بمقدار خمس مرات، من حيث حجم تدفقاته، من أقرب منافسيه، نهر الكونغو في أفريقيا، ورفيقه الأمريكي الجنوبي نهر أورينوكو، وبمقدار ثماني مرات من أحجام تدفقات نهر الغانج الهندي، ونهر يانغتسي في الصين، وبمقدار عشر مرات من عجوز الجنوب: نهر المسيسيبي. أما نهر النيل، فتشير إليه معظم التقديرات على أنه أطول أنهار العالم، لكنه يقل عن الأمازون من حيث حجم تدفقات المياه فيه، إذ لا يتعدى حجم تدفقاته مئة كيلومتر مكعب في السنة.
ومما يثير الاهتمام أن نظرة سريعة إلى تدفقات المياه تخبرنا بأمر آخر عن علاقة الإنسان بالمياه العذبة التي لا ينال الزمن من أهميتها؛ فنحن البشر لا نميل إلى أي شيء ضخم جداً؛ ومن المعروف أنه لا يوجد جسر واحد على امتداد نهر الأمازون؛ ولا يعتقدنَّ أحدٌ أن سبب ذلك لصعوبة في إقامة الجسور هناك، مع الاعتراف بأن مهمة إقامة جسر ستكتنفها صعوبة مؤكدة في كثير من المناطق؛ لكن السبب يتمثل في انتفاء الحاجة لجسور على الأمازون، وذلك لعدم وجود مراكز حضرية رئيسية حقيقية على امتداد حوض النهر؛ فذلك ما كان عليه حال الإنسان من تراجع عن الإقامة بجانب الأنهار العملاقة في العالم، مع قليل من الاستثناءات، سواء في العصور القديمة أو حاليا. لقد كان ميلنا الغريزي على الدوام في اتجاه الأنهار التي يقل حجم تدفقات مياهها عن حد 100 كم3 بالسنة. واجتذبت هذه (الأسماك الصغيرة) مستوطنات البشر، ودعمت الجانب الأكبر من أعظم المدن التي عرفها تاريخ البشرية.
نهر الدانوب
لننتقل إلى أوروبا حيث الدانوب هو أضخم أنهارها. إنه نهرٌ جميل مهيب غني بتاريخه، غير أن ذلك لا يغني عن حقيقة أنه في فريق الصغار على الصعيد العالمي، فمن السهولة بمكان أن يتلاشى في الأمازون الذي يكبره بنحو 33 ضعفاً. وعلى أي حال، فإن حوض الدانوب ليس الأكثر ازدحاماً بالسكان في أوروبا، فالثابت في التاريخ أن التجمعات السكانية الأكبر كانت تجتذبها تلك الأنهار التي تعتبر قليلة التدفق السنوي لكن يُعوَّل عليها، مثل الراين واللوار والرون، ولا يزيد تدفق كل منها عن 6كم3 بالسنة، أو أنها كانت تتجه إلى الأنهار الصغيرة مثل السين، أو الصغيرة جداً، مثل التايمز، بتدفقها الذي لا يتجاوز كيلومترين مكعبين في السنة.
ولنتحول الآن لنطرح هذين الرقمين في تراصفٍ قوي: الأمازون بمعدل تدفقه السنوي البالغ نحو 8000 كم3، والتايمز بما له من كيلومترين مكعبين؛ واعقد هذين الرقمين في عقلك، تحت مظلة من رقم ثالث، هو استهلاكنا العالمي من المياه، البالغ 7500كم3، في السنة.
ليس ذلك من قبيل ممارسة الرياء بإبراز ضخامة الأمازون، لكنه أمر ضروري لتفهم أن هذه الموارد المائية متجددة لأقصى حد، ومن الوارد أن تجف أنهارٌ، حتى تلك التي تتمتع بقيمة اقتصادية كبيرة في آسيا والشرق الأوسط؛ في حين تلحق عمليات تحويل المجرى، والاستخدام غير الرشيد، أضراراً لا تبرأ بأنهار المناطق شبه القاحلة، وها هي أنهار كولورادو والنيل والسند والنهر الأصفر يجتاحها الجفاف، والمستغرب أن الحصول على إحصائيات عن التدفقات في هذه الأنهار صعب جدا، ولأسباب غير معلومة عمدت الاتجاهات المختلفة في السياسات والاقتصاديات والجغرافيا إلى افتراض أهمية وقيمة أطوال لأنهار وأحجام لأحواض مياه، من دون بذل جهد ووقت كافيين لنشر معلومات عن تدفق النهر؛ وهذا هو عين التهور، فلا يوجد رقم آخر له قيمة تفيد على نحو أكبر في تفهم حجم المياه المتاحة لاقتصاد معين، إذ لا تزال هذه الأرقام طي الكتمان لدى علماء المياه.
استخدامات المياه الخضراء
توصلت حسابات آريين وفريقه إلى أن نحو %5 منها تذهبُ إلى الاستخدامات البلدية، و%16 تأخذها الصناعة، والمتبقي، وهو يقارب %80، يستخدمُ في زراعة المحاصيل وتربية الماشية من أجل الغذاء، ولإنتاج ألياف مثل القطن. ولا يستخدم للأغراض المنزلية، في كل أنحاء العالم، سوى المياه الزرقاء التي تمثل أيضاً معظم ما تستخدمه الصناعة؛ أما في الزراعة، فالمهيمن هو المياه الخضراء التي لا يُعرف لها قياسٌ حتى الآن، وتُقدَّر بنحو %70 من المياه المستخدمة في هذا القطاع.
لقد فتحت لنا هذه النمذجيات نافذة لنرى منها تدفقات المياه الافتراضية (أي المياه المدمجة في المحاصيل الزراعية والسلع المصنَّعة)، لنتعرف على شبكة مصدِّرِيها ومُستوردِيها؛ والأهم من ذلك أنها توضح لنا كيفية اتكال الاقتصاديات الوطنية على نظام التجارة العالمي لتضمن مياهها وغذاءها.
وتأتي الدول الصناعية في مقدمة تجار المياه الافتراضية من حيث الأحجام النظرية، وهي تضع ثرواتها لتحريك هذه التجارة، ليتسنى لها التمويه على أي انعدام كامن للأمن المائي لديها. وتشارك دول البريكس في هذه التجارة، غير أن نظام التجارة الدولية لا يوفر خدماته للجميع، فدول الاقتصادات النامية لها مشاركة هامشية، حتى تلك التي تتمتع بينها بتعداد كبير للسكان، مثل بنغلاديش، تبذل جهداً كبيراً للمشاركة في تجارة السلع الغذائية. وتكشف الأرقام الخاصة بنصيب الفرد من تلك التجارة عن تباين مذهل على الصعيد العالمي، حيث تضع الدول الغنية ودول مجموعة البريكس أنفسها بين من يحققون الأمن الغذائي والمائي عن طريق التجارة، في حين تترك الدول الأفقر متخلفةَ في الوراء، كما هو الحال في مجالات أخرى كثيرة.