د. طارق البكري
مخلفات هائمة على وجهها تدور في كل مكان في الفضاء الكبير حول الأرض، و تصل إلى آخر نقطة بلغها الإنسان، تاركة بصمات تشير إلى اختراقه حجب الفضاء، سابحة على شكل نفايات، أو بالأحرى ملوثات، لم يعرفها الفضاء قبل اختراق الإنسان حدود الأرض جوَّاباً في الفضاء الرحب.
المخلفات الفضائية space junk، عبارة عن نفايات ناتجة من بقايا الأقمار الصنعية السابحة في مدارات حول كواكب النظام الشمسي، وتشمل الأقمار المعطلة أو أجزاء من الصواريخ الفضائية. وقد تكون هذه المخلفات صغيرة الحجم جداً، ومن ذلك قشرة صبغ تطلى بها المركبات الفضائية.
ويؤكد العلماء أنَّ غلاف الأرض الجوي بات مزدحماً بمخلفات الأقمار الصنعية المعطلة أو المنتهي أجلها، أو من الصواريخ الحاملة للوقود والمنفصلة خلال مراحل الإطلاق، أو من مكونات الأقمار نفسها التي يصطدم بعضها ببعض بسبب انحرافها عن مدارها.
ويدرك الباحثون في علم الفضاء الأثر الكبير لهذه البقايا المتشظية، مهما تناهى حجمها في الصغر، ولو كانت بحجم رأس دبوس أو مجرد قشرة صبغ، فقوة التصادم، مع بعضها أو بأي جسم آخر – وقد يكون مركبة فضائية مأهولة – تحدث انفجاراً هائلاً أو صدمة عنيفة، أو على الأقل خرقاً في الجسم الذي تصطدم به، فإذا حدثَ تصادم بين جسمين ينطلقان بسرعة كونية هائلة فإنَّ القوة تكون مضاعفة. ويرى بعض الباحثين أن سقوط جزء من تلك الشظايا بحجم مكعب «سكر» على الأرض يمكن أن يحدث انفجاراً بحجم قنبلة يدوية، فكيف إذا كان بحجم صاروخ فضائي كبير، أو ربما بحجم قمر صنعي.
تهديد الأجسام السابحة
وعلى الرغم من خطورة احتمال سقوط المخلفات الفضائية على الأرض، فإنه يمثل برأي المتخصصين الاحتمال الأضعف لأسباب عدة، فمكمن الخطورة الحقيقية لا يتمثل في سقوط المخلفات الفضائية على الأرض، بل في انتشارها بسبب سرعة دورانها الكبير في مسارات عشوائية حول الأرض، بحرية كاملة، دون أي سيطرة عليها. ولا يخفى أيضاً احتمال تهديدها المحطة الفضائية الدولية، والأقمار الصنعية الحالية، لاسيما أن توالي الاصطدام يؤدي إلى اصطدامات مستجدة، فتصبح هذه النفايات مثل كتلة الثلج، وهو ما يؤدي إلى تكوين سحابة ضخمة من النفايات والمخلفات الفضائية ستجعل الوصول إلى الفضاء القريب حول مدار الأرض شديد الصعوبة لارتفاع نسبة الخطر، كما سيشكل ذلك خطراً على الأقمار الصنعية وهذا ما سيحرم البشرية من مزاياها ويضطرها للبحث عن وسائل تقنية أخرى للبث والاستقبال.
وقد أدرك العالم هذه الأخطار، وشكل لجنة دولية للتنسيق بين وكالات الفضاء بشأن هذه المخلفات. ولايزال العالم يبحث عن حل ناجع يزيل المخلفات الفضائية المنتشرة حالياً في الفضاء المحيط بالأرض. وتقدر المصادر تكلفة إزالة الأقمار الصنعية الخاملة أو التي انتهت مهمتها بقيمة تفوق بكثير احتمال تسببها في تدمير قمر صنعي آخر. لكن هذه التكلفة لا تعد شيئاً إذا ما قيست باحتمال فقدان البشرية القدرة على الاستفادة من الفضاء في مجال الاتصالات. وهناك عدد من الوسائل المقترحة منها استخدام شبكات معدنية فضائية لكنس الفضاء، و استخدام أشعة الليزر لإخراج المخلفات من مدارها.
ويلاحظ أنَّ معظم الأجسام التائهة في الفضاء تحوم على بعد يراوح بين 800 و1500 كم من الأرض، وهذا المدار يعتبر الأهم للأقمار الصنعية والمحطات الفضائية. وقد أخذت نفايات الفضاء تلقى اهتماماً واسعاً من المؤسسات التي تعنى بالفضاء، كالإدارة الوطنية للملاحة الفضائية والفضاء (ناسا)، لقدرة هذه «الفضلات» على التسبب بأضرار فادحة في هيكل المركبات الفضائية والأقمار الصنعية. فمعظم هذه الفضلات تسير بسرعة 8 كم/ثانية (نحو 28800 كم/ساعة). وبهذه السرعة يمكن لهذه الفضلات مهما صغر حجمها أن تخترق هيكل المركبات الفضائية، وأن تشكل خطراً على حياة رواد الفضاء.
فجسم من المخلفات بحجم كرة التنس يسير بهذه السرعة يحمل قدرة تفجيرية توازي 25 إصبعاً من الديناميت. كما يقدر أن لجسم بحجم حبة البازلاء يسير بهذه السرعة قوة اصطدام تعادل جسما وزنه 181 كيلوغراما (400 رطل) يسير بسرعة 100 كم/ساعة.
ويقدر أن هناك نحو 5.5 مليون كيلوغرام من المخلفات في مدار الأرض، منها نحو مليون جسم أكبر من مليمتر واحد، و300 ألف جسم أكبر من سنتيمتر واحد، و13 ألف جسم أكبر من كرة التنس. وتتوقع (ناسا) ازدياد أعداد الأجسام الفضائية في مدار الأرض المنخفض بواقع %75 خلال المئتيّ سنة المقبلة إذا لم تتبع إجراءات معينة للحد من المخلفات الفضائية.
أهم حوادث مخلفات الفضاء
ولعل أحد أهم الحوادث التي أدت إلى تكوُّن العديد من المخلفات ما حصل في 11 يناير سنة 2007 عندما اختبرت الصين صواريخ مضادة للأقمار الصنعية. وتم إطلاق صاروخ يعمل بالوقود الصلب من قاعدة (زيجانغ) ليصيب أحد الأقمار الصنعية الصينية. وكان القمر المصاب يدور في مدار قطبي، وهو متخصص في الأرصاد الجوية. والصاروخ المضاد للأقمار الصنعية لم يكن مجهزاً برأس متفجر بل قام بتدمير القمر عن طريق الاصطدام فقط. ومع هذا فقد نتج عن الانفجار ما بين 2300 و 2500 جسم (أصغرها بحجم كرة التنس)، ما يجعل هذا الاصطدام الحدث الأكبر في تكوين المخلفات الفضائية.
ويختلف هذا الحدث عن الاختبارات التي أجرتها كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق إبان الحرب الباردة، حيث تم تجربة أكثر من 20 صاروخاً مضاداً للأقمار الصنعية.
ويكمن الاختلاف في أنَّ معظم التجارب التي تمت بين عامي 1968 و1986 كانت لأقمار في مدار منخفض، والمخلفات التي نتجت عن الانفجار سرعان ما احترقت في الغلاف الجوي للأرض، في حين أن التجربة الصينية تمت على ارتفاع 550 كم عن سطح الأرض، والمخلفات التي نتجت عنها انتشرت على مسافة تراوح بين 200 كم و 3850 كم، ما قد يؤثر على معظم الأقمار الموجودة في مدار الأرض المنخفض.
وفي شهر يونيو 2007، أدى هذا الكم من المخلفات إلى تغيير مسار القمر الصنعي للمركبة الفضائية (تيرّا) Terra المتخصصة في دراسة المناخ لتجنب الاصطدام المحتمل بالمخلفات الناتجة عن التجربة الصينية، لتكون المرة الأولى التي تضطر فيها (ناسا) لتغيير مسار مركبة أو قمر صنعي.
وقد يعتبر هذا الحدث هو الأكبر في تكوين المخلفات الفضائية ولكن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق هما المسببان الأكبر للمخلفات الفضائية على مدى أكثر من 50 عاماً منذ التجربة الفضائية الأولى. علماً أنه مع ازدياد أعداد المخلفات الفضائية باتت تلك المخلفات تهدد سلامة المركبات والأقمار الفضائية وبخاصة محطة الفضاء الدولية. ففي 12 مارس 2009 تم إخلاء المحطة الدولية إثر اقتراب جسم فضائي بصورة خطرة منها، وقدر طول الجسم بثلث بوصة. لكن على الرغم من ذلك، كان لهذا الجسم قدرة تخريبية كبيرة ربما تهدد مستقبل المحطة الدولية التي تقدر قيمتها بنحو 100 مليار دولار.
وتعتبر التصادمات بين مخلفات الأقمار الفضائية مصدرا آخر للمخلفات؛ فقد حذر تقرير لوكالة ناسا عام 1991، من خطر التصادم المتسلسل للأقمار الصنعية، حيث تؤدي المخلفات الناتجة عن تصادم جسمين فضائيين من المخلفات ذات الأقمار الصنعية إلى تصادم أعداد أكبر من الأجسام الفضائية. ولعل ما حذر منه التقرير حصل في العاشر من فبراير عام 2009 حيث اصطدم قمران صنعيان أحدهما أمريكي والآخر روسي، ونتج عن هذا التصادم ما بين 500 و600 جسم
لا يتعدى حجم بعضها 10 سنتيمترات. وبعد هذه الحادثة قامت ناسا بقياس احتمالات حدوث حادث خطير لإطلاق المكوك الفضائي، فوجدت أن هناك احتمالاً لحدوث حادث خطير لكل 318 عملية إطلاق مكوكية. ويعتقد أن بعض هذه المخلفات الناتجة عن الاصطدام قد تبقى في مدار الأرض مدة 10 آلاف عام.
أشهر حوادث المخلفات الفضائية
يقدّر العلماء أنه خلال العقود الأربعة الماضية دخل جسم واحد من المخلفات الفضائية المجال الجوي للأرض يومياً. ومعظم هذه الأجسام صغيرة ولا تسبب ضرراً. لكن بعضها قد ينجو من الاحتكاك بالغلاف الجوي ويصل إلى سطح الأرض. وفيما يلي أشهر الأحداث المتعلقة بدخول المخلفات الفضائية للمجال الجوي وبلوغها لسطح الأرض:
< أسوأها كان في شهر يوليو 1979 عندما دخلت المحطة الأمريكية سكاي لاب المجال الجوي للأرض قبل الموعد المحدد لها. وقد سقطت أجزاء المحطة التي تزن 78 طنا على مناطق متفرقة من أستراليا.
< في 22 مارس 2007 مرَّ جزء من حطام قمر صنعي روسي كان يستخدم لأغراض تجسسية قرب طائرة الإيرباص إيه 340 التابعة لشركة خطوط الطيران التشيليّة في رحلتها من سانتياغو في تشيلي إلى أوكلاند بنيوزيلندا وعلى متنها 270 راكبا خلال طيرانها عبر المحيط الهادي.
< حتى الآن سجلت إصابة واحدة بسبب المخلفات الفضائية حيث أصيبت لوتي ويليامس عام 1997 في كتفها بأحد أجزاء خزان وقود مركبة (دلتا- 2) التي أطلقتها القوات الجوية الأمريكية عام 1996.
< من أشهر حوادث التصادم بين الأقمار الصنعية التي خلفت قدراً كبيراً من النفايات الفضائية الاصطدام الذي حدث في 10 فبراير2009 بين إريديام33 وكوزموس2251 فوق شمال سيبيريا، ونتج عن ذلك أكثر من 2000 قطعة من النفايات ومئات الآلاف من الشظايا الصغيرة التي لا يمكن رصدها من الأرض، ونحو %10 في المئة من المخلفات الفضائية التي تراكمت في فضاء الأرض خلال العقود الماضية جاءت من هذا التصادم.
دراسات للتخلص من هذه النفايات
هناك دراسات كثيرة وأفكار عديدة يتم تداولها للتخلص من المخلفات الفضائية، منها دراسة تشير إلى إمكانية إرسال قمر صنعي تكون مهمته إدخال المخلفات الفضائية إلى المجال الجوي للأرض. وبهذه الطريقة يتم التخلص من الجسم الفضائي عن طريق احتراقه من شدة الاحتكاك بالغلاف الجوي.
وتبنى نظرية القمر الصنعي على إبطاء سرعة الجسم الفضائي باستخدام وسائل للربط الكهروديناميكي. كما أن هناك طرقا أخرى يتم دراستها للتخلص من المخلفات الفضائية كاستعمال أشعة الليزر أو وضع مصدات تعمل على تغيير مسار الأجسام الفضائية غير المرغوب فيها بحيث تدخل المجال الجوي للأرض.
وتقوم (ناسا) بتصميم المركبة الفضائية (أوريون) بحيث تكون مزودة بدرع واقية. ويتم اختبار الدرع في مركز جونسون للفضاء التابع لـ(ناسا)، حيث يتم قذف أجسام ذات أحجام مختلفة لتصطدم بالدرع بسرعة تراوح بين 7 و 8 كم/ثانية (25200 – 28800 كم/ساعة). ويتم تحليل المعطيات بواسطة الحاسوب كي يعطي صورة مقربة لما قد يحصل في الفضاء.