د. أحمد منصور الزهيري
بعد أن شهد العالم ملايين السنين من التطور البيولوجي، أجرى العالم غريغور مندل تجاربه الشهيرة في القرن الثامن عشر على نبات البازلاء (البسلة) ، واكتشف خلالها وجود صفات تورث كوحدات، وعلى سبيل المثال فإن أزهار البازلاء إما أن تكون بنفسجية أو بيضاء ولا تكون خليطاً من اللونين أبدا. وأُطلق على تلك الوحدات الوراثية مسمى جينات (مورثات)، في حين أطلق على مندل مسمى مكتشف علم الوراثة بسبب تجاربه الدقيقة في هذا المجال.
الجينوم والجسم البشري
يتكون الإنسان من نحو 50 بليون خلية، وتحتوي كل خلية منها على مجموعة كبيرة من الجينات التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء وتسمى الجينوم. و المادة الوراثية التي تكوِّن الجينوم تتكون من أربعة أحرف، سواء في البازلاء أو الإنسان أو أي كائن آخر، وهذه الأحرف هي (A,C,T,G). وفي الإنسان هناك ثلاثة بلايين حرف من هذه الأحرف داخل الجينوم الواحد، مما يدل على مدى التعقيد الذي يملكه جسمه.
بعد اكتشافات العالم مندل، سعى العديد من العلماء لحل لغز الجينوم ودراسته بالتفصيل، فاكتشف العلماء واطسون وكريك وفرانكلين الحلزون المزدوج للدنا (DNA)، ثم جرى اكتشاف أكواد ونشاط الدنا وكيفية حدوث الطفرات، وعرفوا مدى تعقيد الجينومات في تركيبها ونشاطها.
ثم جاء مشروع الجينوم البشري في نهاية القرن العشرين، الذي كان إنجازا عظيما بعد معرفة تركيب ثلاثة بلايين قاعدة المكونة للجينوم البشري. واعتقد الناس أنه بمعرفة مشروع الجينوم البشري ستنتهي معاناة البشر من الأمراض، كما أعلن بعض السياسيين. لكن معرفة الأكواد المكونة للجينوم البشري فقط لم تكن كافية، بل كان واجبا أيضا معرفة ودراسة الكيفية التي تفسر وتترجم بها هذه الأكواد لتكون خلايا متباينة في البشر المختلفين، ومن ثم يكون لكل إنسان قصة حياة مختلفة.
وبدراسة هذه الاختلافات بين الجينومات المختلفة نستطيع فهم ومتابعة الجينات وكيفية استجابتها أو مقاومتها للأمراض، وفهم التفاصيل الدقيقة للأفراد. كما تم اختراع أجهزة حديثة لحل شيفرات الجينومات وسلسلتها.
مشروع عملاق
بعد عشر سنوات من دراسة الجينوم البشري وسلسلته بالكامل، جاء المشروع العملاق المسمى موسوعة عناصر المادة الوراثية “إنكود“ (ENCODE). ويعتمد هذا المشروع على دراسة وفهم الاختلافات البشرية من حيث تركيب الجينوم ونشاطه، على أن تشمل الدراسة مناطق الـدنا الخامل الذي كان يعتقد عدم وجود نشاط له وكذا عدم أهميته من قبل. إن اكتشاف الأمراض البشرية أمر معقد؛ لأن الجينوم البشري معقد جدا . لذا فإن مشروع (إنكود) طور فهمنا وإدراكنا للاختلافات البشرية وأصولها وكيفية حدوث الأمراض الوراثية (مثل السرطان والقلب)، مما يسهل عملية اكتشاف علاج لها في المستقبل. وفي النهاية، فإن اختلافنا وتركيبنا وتنوعنا وتطورنا هي قصة حياة لنا جميعا على الكرة الأرضية يجب دراستها وفهمها جيدا.
كيف نفهم مشروع الإنكود؟
يقول الدكتور ريتشارد ماير (رئيس ومدير شركة هدسون ألفا) عن مشروع الإنكود إنه عندما بدأ أبحاثه في مجال التقانة الحيوية (بيوتكنولوجي) كان هناك عدد صغير معروف من عوامل النسخ، أي قبل نحو 35 عاما من بداية ظهور مشروع الإنكود. وبدراسة هذه العوامل أمكن معرفة الكيفية التي استطاعت بها الخلايا والفيروسات استخدام هذه البروتينات للتحكم في وظائفها.
إن مشروع الجينوم البشري أتاح للعلماء نظرة عامة إلى التركيب الكلي للجينوم البشري، فأصبحنا نعلم مكان وجود جميع الجينات داخل الجينوم، والتي تشفر إلى نحو 23 ألف بروتين مختلف. لكن من خلال مشروع الإنكود تم معرفة المناطق المختلفة داخل الجينوم التي تتحد معها عوامل النسخ المختلفة للتحكم في النسخ الجيني في جميع مناطق الجينوم. وقد اشترك في هذا العمل آلاف العلماء من جميع أنحاء العالم، وجرى فيه استخدام أجهزة وتقنيات متقدمة. ولقد وصف أحد الباحثين مشروع الإنكود بأنه مشروع لوضع موسوعة تعريفية لعناصر الدنا التي تتحكم في تعبير الجينات الوراثية في ظروف مختلفة، ومن ثم فإنها تتحكم في عمل الجينوم.
كتاب ونصوص وحروف
ولفهم ذلك، يمكننا أن نتخيل وجود كتاب يحتوي على نص من حروف متداخلة، لا يوجد بينها فواصل أو مسافات أوعلامات تنصيص أو تشكيل، ومن ثم فإننا لن نستطيع قراءته أو فهم محتواه. لكن إذا أضفنا هذه الفواصل والمسافات والعلامات فستعطي معنى لهذا النص. فمن مجموعة حروف لم يكن لها أي معنى في البداية يمكن إنجاز نص أدبي رائع. وبشكل مشابه، فإن مشروع الإنكود يعطي معنى وتفسيرا للمعلومات الناتجة من مشروع الجينوم البشري، وذلك عن طريق فهم المعاني البيولوجية الموجودة في مادتنا الوراثية. إن الجينوم البشري يحتوي على نحو 3.2 بليون حرف، وقد استطاع مشروع الجينوم البشري التعرف على أمكنة نحو 20 ألف جين وكيفية التعبير عنها .لكن هذه الجينات لا تمثل إلا قدرا قليلا من المحتوى الكلي للجينوم، ومن ثم فإن المحتوى الوظيفي لمعظم الجينوم مازال لغزا ويحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة.
إن مشروع الإنكود هو النظير البيولوجي لإضافة الفواصل والمسافات وعلامات التنصيص والتشكيل إلى النص الجينومي. فهو يتكون من مجموعة من التجارب التي تحدد وتفسر الكثير من المعلومات الجينومية. فمثلا، تحديد المناطق التي يتحدد بها عوامل النسخ الجيني، والتي تحدد نشاط الجين أو حتى تحديد نشاط الميثلة (إضافة مجموعة ميثيل كيميائية) إلى المادة الوراثية والتي تغير شكل الدنا وتضيف معلومات مهمة للأجهزة الخلوية. وكل من اتحاد عوامل النسخ أو نشاط الميثلة يؤثر تأثيرا كبيرا في النشاط الجيني والمحتوى البروتيني الذي ينتجه، مما يؤثر على نشاط الخلية المعنية والخلايا المجاورة.
وقد أجريت نحو 1649 تجربة علمية في هذا المشروع، أوضحت الكثير من أمكنة العوامل الجينومية. وبمجرد وضع هذه المعلومات على قواعد البيانات العالمية سنجد أن العلماء في كل المجالات يمكنهم أن يحصلوا على صورة واضحة لجينومنا. إن مشروع الإنكود يوضح لنا الكيفية التي يتم بها تنظيم العمل داخل الجينوم مما يتيح لنا فهما أكبر لمقاومة الأمراض مثلا.
وتنظيم عمل تعبير الجينات في الخلايا هو الذي يحدد نوع الخلايا وطبيعة العمل فيها. وعلى الرغم من وجود الجينات نفسها في كل أنواع الخلايا، فإن بعضا منها فقط هو الذي يعمل داخل نوع معين، وهنالك جينات أخرى تعمل في نوع آخر.
أهمية مشروع (الإنكود)
إن الهدف الأساسي من مشروع الإنكود هو التعرف على الوظائف الحقيقية للعناصر الجينومية المختلفة، وتلك العناصر تشمل الجينات التي تشفر إلى بروتينات أو لا تشفر، أو العناصر المتحكمة والمنظمة لعمل الجينات في الجينوم. وهنالك بعض العناصر الجينومية التي تعمل على فتح أو غلق عمل الجين والتعبير الجيني، وهناك عناصر تعمل على تعبئة أجزاء من الـدنا بطريقة معينة، وحتى الآن يجهل العلم أسباب ذلك.
عمل مشروع الإنكود
استغرق التحضير لمشروع الإنكود خمس سنوات، وساهم فيه مئات من العلماء من أنحاء العالم، منهم 400 على البحث الرئيسي، والبقية على بحوث أخرى، وقد أنتجوا جميعا كمّا ضخما من المعلومات الأولية من حيث الحجم والتفاصيل.
إن أحد أهم الأشياء التي تجعل تركيب الإنسان معقدا هو أنه يتكون من أنواع كثيرة من الخلايا التي تختلف في تركيبها الظاهري، ومن ثم تستخدم هذه الأنواع المختلفة أجزاء متباينة من الجينوم الكلي، وكان العلماء لا يعلمون سبب فتح أو غلق مناطق معينة من الجينوم في كل نوع من أنواع الخلايا المختلفة.
ويحاول مشروع الإنكود تفسير سبب اختلاف أنواع الخلايا عن بعضها بعضا في التركيب والوظيفة، لذا فإن المشروع يعد نظرة مدققة في أسباب تعقد تركيب الإنسان.
نتائج أولية لمشروع الإنكود
إن النتائج المذهلة لمشروع الإنكود أوضحت أن %80 من الجينوم مرتبط بوظائف بيوكيميائية داخل الجينوم، وذلك على عكس ما كان معتقدا قبل ذلك بأن معظم الجينوم ليس له وظيفة، إذ إن % 3 فقط من الجينوم يشفر إلى بروتينات. وقد أوضحت النتائج أن الجينوم أكثر تعقيدا مما كنا نعتقد، وأكثر نشاطا مما كنا نظن، ويحوي تفاصيل كثيرة.
إن دراسة الوراثة البشرية أوضحت مسبقا مناطق الجينوم المرتبطة بأمراض محددة، لكن الغريب أن معظم هذه المناطق لم تكن تشفر إلى جينات، ولم نكن نعلم وظيفتها على نحو كامل. وأظهر المشروع لعلماء الجينوم سبب عمل بعض الجينات في خلايا معينة وعدم عملها في خلايا أخرى، وأسباب فتحها أو غلقها، أوحتى أنواع الخلايا المرتبطة بأمراض معينة.