د.محمد سيد علي حسن
يشهد العالم تطورات متسارعة نحو استخدام البشرية أنظمة أو أجهزة تكنولوجية متعددة الوظائف، عن طريق إضافة وظائف جديدة في الأنظمة نفسها لتحقيق أقصى قدر من الاستفادة والأداء معا. لكي نفهم معنى النظام المتعدد الوظائف ليس هناك مثال أفضل من أجسامنا البشرية، المعجزة الإلهية، فيمكننا أن ننظر ونستمع ونتذوق ونشم ونلمس ونتحدث ونمشي وغير ذلك من الأفعال -أو عدد منها- في وقت واحد وبكفاءة عالية. مثال آخر بشري للأجهزة المتعددة الوظائف التي صنعها الإنسان هو الدراجة الهوائية، فنحن نستخدمها كوسيلة انتقال صديقة للبيئة تساعد على تقليل الانبعاثات الضارة التي تصدر عن وسائل المواصلات الأخرى، وفي الوقت نفسه تكسب أجسامنا قدرا من اللياقة البدنية.
موقف تخيلي
الدافع وراء الحاجة إلى منتجات متعددة الوظائف صغيرة وذكية يمكن فهمه من هذا الموقف التخيلي؛ تخيل أنك كنت مسافرا منذ 30 عاما بعيدا عن منزلك لحضور اجتماع مهم مدة أسبوع، وتحتاج إلى أشياء كثيرة لتأخذها معك لاستخدامها خلال هذه الرحلة. على سبيل المثال تحتاج إلى أن تصطحب معك حاسوبا وهاتفا ومنبها للاستيقاظ وكاميرا ومشغل صوت وصورة ومسجل صوت وظروفا وطوابع وبعض الكتب. إذا، كيف يمكنك السفر وأنت تحمل كل هذه الأشياء؟
مثل هذه المواقف دفعت العلماء والباحثين في المؤسسات الأكاديمية والصناعية لابتكار وتطوير منتجات متعددة الوظائف، لتلبية الطلب المتزايد للمستخدمين على الأجهزة المتعددة الوظائف الذكية والصغيرة. ومن يمن الطالع، وبفضل المجهود الذي بذله العلماء والباحثون، أن المرء يمكنه حاليا وضع كل هذه الأجهزة التي ذكرت في جيب صغير لو كان يمتلك هاتفا صغيرا ذكيا متعدد الوظائف ، إضافة إلى استخدامات أخرى له مثل الولوج إلى الشبكة العنكبوتية من دون الحاجة إلى أسلاك والاتصال بالأقمار الصنعية لتحديد المواقع والاتجاهات ومشاهدة التلفاز وسماع الراديو ..إلخ.
المواد المتراكبة المتعددة الوظائف
المواد المتراكبة الحديثة هي المواد المؤلفة من مادتين، أو أكثر، متمايزتين في الخواص وينتج عن ضمهما، من دون صهرهما أو إذابتهما معا، مادة ذات خواص جديدة مغايرة لخواص أي من المواد المؤلفة. المادة الأولى التي تتألف منها المواد المتراكبة عبارة عن مادة تقوية، وغالبا ما تكون على شكل ألياف مرنة مصنوعة من مواد عالية المقاومة وكبيرة الجساءة مثل ألياف الكربون أو ألياف الزجاج أو ألياف الكيفلار، أما المادة الثانية فهي مادة رابطة أو حاضنة، قد تكون ذات أساس عضوي أو خزفي أو معدني. وتقوم المادة الرابطة بضم تلك الألياف في شكل جامد مما يؤدي إلى توفير الحماية للألياف من أي مادة ضارة خارجية وكذلك لنقل إجهادات القص بين الألياف.
ظهرت المواد المتراكبة الحديثة في الستينيات من القرن الماضي، وانتشرت انتشارا كبيرا خلال مدة قصيرة نظرا لخواصها الميكانيكية المتميزة مقارنة بوزنها القليل، فدخلت المواد المتراكبة الحديثة كمواد إنشائية في عدد كبير من المجالات الهندسية مثل المواصلات (مركبات الفضاء والطائرات والقطارات الفائقة السرعة والسيارات والدراجات مثلا)، والطاقة (هياكل ومراوح طواحين الهواء مثلا)، والرياضة (الأجهزة الرياضية مثلا)، والطب (الأجهزة التعويضية والدعامات والأسنان مثلا)، والبناء والتشييد ، على الرغم من أنها وجدت في البداية من أجل صناعة الطائرات ومركبات الفضاء، إذ تؤدي خفة الوزن دورا رئيسيا في اختبار المواد في هاتين الصناعتين الاستراتيجيتين. ومن أشهر تلك المواد المتراكبة مادة البوليمر المدعم بألياف الكربون الموضح تركيبها في (الشكل رقم 1).
تفوقت مادة البوليمر المدعم بألياف الكربون على المواد الإنشائية التقليدية في كثير من الاستخدامات لعدة أسباب أهمها: ارتفاع النسبة بين المقاومة والوزن فيها عند مقارنتها بالمواد الإنشائية التقليدية، ومتانتها الكبيرة مقارنة بالمواد الإنشائية التقليدية، وخفة وزنها من دون التأثير على خواص المتانة، وانخفاض معدلات الكلل والزحف فيها بصورة كبيرة، ومقاومتها الكبيرة للمواد الكيميائية والعوامل الجوية فهي لا تصدأ، وممانعتها القوية لعدم انتشار الشقوق التي قد تنشأ نتيجة للاهتزاز (ومن ثم فهي ممتازة كمحاور دورانية)، وأخيرا سهولة تشكيل الأشكال المعقدة وبأحجام وأبعاد كبيرة. هذه الأسباب كلها دفعت بمادة البوليمر المدعم بألياف الكربون إلى صدارة العناصر المفضلة في إنشاء هياكل الطائرات، لدرجة أن %50 (نحو 35 طنا) من المواد المستخدمة في إنشاء الطائرة بوينغ 787 مصنوعة من المواد المتراكبة، ومعظمها من مادة البوليمر المدعم بألياف الكربون.
معوقات وتحديات
وعلى الرغم من هذا الانتشار الواسع للمواد المتراكبة في التطبيقات المختلفة، فإن تلك المواد لا تزال مرتفعة الثمن مقارنة بغيرها من المواد التقليدية مثل المعادن والسيراميك والبلاستيك. ونظرا لذلك الارتفاع في ثمنها، أصبح أمرا ملحا في العقد الماضي البحث عن طرق مبتكرة لخفض الكلفة، عن طريق خفض تكلفة التكنولوجيا المستخدمة في صناعتها أو إعادة تدويرها أو إصلاحها دون الحاجة إلى تبديلها.
وكذلك لإنتاج مواد متراكبة تنافسية، يمكن إضافة قيمة إلى المواد المتراكبة، ليس فقط عن طريق إحداث خصائص متفوقة للمواد المتراكبة، مثل خفة الوزن، ولكن أيضا عن طريق إضافة وظيفة إضافية أو خاصية جديدة إليها. في كلمات بسيطة، إضافة وظيفة أو أكثر إلى المواد المتراكبة تعني مواد متراكبة متعددة الوظائف. والمواد المتراكبة المتعددة الوظائف هي مواد متراكبة تستخدم لأكثر من وظيفة في الوقت نفسه ، بجانب وظيفتها الأساسية الإنشائية، فقد تكون لها وظائف مثل المراقبة الذاتية لحالتها الصحية عن طريق مراقبة خواصها الميكانيكية والإصلاح الذاتي للعيوب التي قد تنشأ أثناء الخدمة. ومن الأبحاث الكثيرة التي كان هدفها الأساسي خفض كلفة المواد المتراكبة التوصل إلى مواد متراكبة مبتكرة متعددة الوظائف. وعلى الرغم من أن معظم تلك المواد لا يزال في مرحلة التطوير، فإنها تبشر بالعديد من التطبيقات الواعدة وبتكلفة تنافسية في مختلف المجالات ذات التكنولوجيا العالية.
بحثان متميزان
ولكي يتضح الأمر أكثر للقارئ، سنذكر مثالين من أبحاثنا الحديثة التي أجريناها في مجال المواد المتراكبة المتعددة الوظائف في الوكالة اليابانية للفضاء ومعهد كيوتو للتكنولوجيا باليابان. استندنا في هذين البحثين إلى التعريف الآتي للابتكار :» الابتكار هو خلق من جديد أو إعادة ترتيب القديم بطريقة جديدة»، لابتكار مادتين جديدتين من المواد المتراكبة المتعددة الوظائف.
ويستند المثال الأول إلى الشق الأول من التعريف المذكور آنفا «الابتكار هو خلق جديد»، من خلال إضافة خاصية جديدة إلى المواد المتراكبة المؤلفة من ألياف الكربون ومادة حاضنة من الكربون عن طريق توزيع أنابيب الكربون النانوية ذات معامل التوصيل الحراري الفائق بشكل وظيفي في المادة الحاضنة أثناء عملية التصنيع، لنحصل في النهاية على جيل جديد من المواد المتراكبة المبتكرة المتعددة الوظائف ذات قدرة فريدة على توجيه الطاقة الحرارية المنقولة عن طريق التوصيل إلى الاتجاه المطلوب، أو أي منطقة من الهيكل الحراري عن طريق تغيير معامل التوصيل الحراري خلال الهيكل وظيفيا. وبهذه الخاصية الجديدة نكون قد أضفنا إلى الوظيفة الإنشائية للهيكل وظائف حرارية لم تكن موجودة. مثل هذا النوع من المواد المتراكبة المتعددة الوظائف يمكن أن يساهم في تعزيز بعض التطبيقات الجديدة في مجالات عدة، من خلال توفير الطاقة، والإدارة الفعالة للطاقة الحرارية، والتخفيف من الانبعاثات الحرارية والضارة وجعلها تنافسية من ناحية السعر، كنتيجة مباشرة لتعددية الوظائف فيها. و(الشكل 2) يوضح طريقة تصنيع تلك المواد المبتكرة واختبارها عمليا، وبعض الاستخدامات والفوائد المتوقعة لها في مجالي الطيران والفضاء.
سطوح ذكية
أما المثال الثاني من أبحاثنا الحديثة فيستند إلى الشق الثاني من التعريف المذكور آنفا: «الابتكار هو إعادة ترتيب القديم بطريقة جديدة»، من خلال تكنولوجيا النانو والتهجين لتطوير نوع جديد من المواد المتراكبة الشطائرية المتعددة الوظائف لتستخدم كسطوح ذكية للمباني في الأمكنة التي تشهد سقوطا كثيفا للثلوج لحل المشكلة الآتية:
في فصل الشتاء من كل عام يموت ويصاب عدد من البشر في مناطق سقوط الثلوج بشمال اليابان ومناطق أخرى من العالم لأسباب عدة منها: انزلاق الأفراد من فوق السطوح أثناء عملية إزالة الثلوج يدوياً، ولانهيار بعض سطوح المنازل بسبب تراكم الثلوج الثقيلة عليها، ونتيجة السقوط المفاجئ للثلوج الحادة والمدببة الخطرة من أعلى المنازل على الأفراد. لذلك نقدم في هذا البحث تقنية جديدة ومبتكرة لتصنيع سطوح قوية وخفيفة الوزن مغطاة بطلاء النانو الطارد لمياه الأمطار والثلوج. تصنع تلك السطوح الذكية من ألواح مكونة من البوليمر والألياف الزجاجية وألياف النخيل أو الجوت (كما موضح في الشكل رقم 3). وأظهرت تلك الدراسة قوة وخفة وزن تلك الألواح، وقدرتها على إذابة وإزالة الثلوج المتساقطة عليها تلقائياً ، ومن دون الحاجة إلى العامل البشري، وقدرتها على العزل الحراري والصوتي لمنع تسرب حرارة التدفئة من داخل المنزل إلى الخارج، ومنع انتقال صوت تساقط الأمطار والثلوج إلى داخل المنزل.
إن ابتكار المزيد من المواد المتراكبة المتعددة الوظائف سيفتح مجالات كثيرة لم يسبق للمواد المتراكبة النمطية الدخول إليها، بسبب التعامل فقط معها كمواد إنشائية. وهذان النوعان من المواد اللذان ذكرا آنفا سيكون لهما أثر كبير في تغيير مفهوم المواد المتراكبة المتعددة الوظائف حتى تستطيع المنافسة. وربما يقبل المستخدمون للمواد المتراكبة المتعددة الوظائف على دفع ثمن كبير بعض الشيء لمنتج واحد عالي الكفاءة من تلك المواد بحيث يستطيع أن يحل محل اثنين أو أكثر من المنتجات المختلفة.