د. حسن عبد الله الشرقاوي
ولّدت الكهرباء، وأنتجت الغاز الحيوي من المخلفات، وكونت البترول، وها هي تضيء مشاعلها، ضوءها لا حرارة له، ولا فاقد منه، حتى أسموه (الضوء البارد).
والظاهرة التي تبعث فيها الميكروبات نورها تعرف علمياً بـ(التوهج الحيوي). لاحظ اليونانيون القدامى الكائنات المضيئة منذ قرون طويلة. ورأى كريستوفر كولمبس وبحارته التوهج الحيوي خلال رحلتهم المثيرة حول المحيط الأطلنطي. وظل الضوء البارد بلا تفسير علمي، غير أن القدامى كانوا يرجعونه إلى الجن أو وحوش يقطنون أعماق البحار، إلى أن تم اكتشاف المجهر (الميكروسكوب) في العصر الحديث فأبطل كل هذه المزاعم، ودل على الفاعل الحقيقي.
الميكروبات المضيئة؛ بكتريا، وفطريات تنتج الضوء الذي يساعدها في مراحل حياتها المختلفة، من جراء تفاعل كيميائي أثناء عملية التنفس.
ويختلف كل نوع من أنواع الميكروبات المضيئة في عدد من الخصائص، بما في ذلك الحاجات الغذائية ودرجة حرارة النمو، وحركية تفاعل المواد الأساسية المشاركة في توليد الضوء.
ومن أهم المواد التي تدخل في هذا التفاعل الكيميائي مادة (اللوسيفيرين - Luciferin)، وإنزيم (اللوسيفيرايز – Luciferase). واللوسيفيرين مادة ذات تركيب خاص، تتنوع بتنوع الميكروب المضيء. وهي مركب ذو وزن جزيئي منخفض، قد يكون أحد أنواع البوليببتيدات، أو البروتينات، أو الألدهيدات. وتختلف الكائنات الحية في تركيب جزيء اللوسيفيرين، فبعضها يتكون من سلسلة طويلة من الذرات، أو من سلسلة منحنية، أو من جزيئات كروية الشكل كالكلوروفيل.
حافز لانبعاث الضوء
إن إنزيم لوسيفيراز الميكروبي هو الذي يحفز انبعاث الضوء لإحداث التلألؤ الحيوي الميكروبي. ومع ذلك لا يقتصر إنتاج الضوء على وجوده فقط، ولكن أيضاً الإنزيمات التي تقوم بتوريد وتجديد ركائز اللوسيفيراز نفسه من الميكروب.
ويتألف اللوسيفيراز من وحدتي بروتين، هما؛ ألفا وبيتا، وفي غياب الوحدات بيتا، فإن وظائف الوحدات ألفا وحدها لا تكون فعالة في تحقيق إضاءة باردة.
تعيش معظم البكتريا المضيئة في مياه البحر، وبعضها يعيش في البيئة الأرضية أو في المياه العذبة، في معيشة حرة وهذا هو الشائع، وغالباً ما تعيش البكتريا الحرة المضيئة التي تنتشر في مياه البحر في كل من القناة الهضمية، وعلى سطح الجلد في الحيوانات البحرية. غير أن منها من يعيش بصورة تكافلية مرتبط بغيره من الكائنات الحية المضيفة. مثال ذلك أن تضيء بعض أنواع ديدان النيماتودا نتيجة لوجود نوع من البكتريا التكافلية المنتجة للضوء مثل؛ زينورهداس ليوميسنس (Xenorhadus luminescens).
أشهر الأجناس المضيئة
أشهر أجناس البكتريا المضيئة ثلاثة، هي فيبريو (Vibrio)، وفوتوهداس (Photorhabdus) ، وزينورهداس (Xenorhabdus).
وجميع البكتريا المضيئة تكون على شكل قضبان (عصي)، سالبة، ومتحركة وذات أسواط ولاهوائية اختيارية؛ إذ يمكنها النمو في حال عدم توافر ما يفي من الأكسجين. ومن أمثلة الفطريات المضيئة؛ أرميلاريا ميلا (Armillaria mellea)، وميسينا (Mycena)، وكلاهما ينتجان في أجسامهما ضوءاً أزرق مخضراً بصورة مستمرة، مستخدمين ذلك في جذب أنواع عدة من الحشرات بهدف نشر الجراثيم لإتمام عملية التكاثر.
تطبيقات عدة
ولفتت مزايا الميكروبات المضيئة – وغيرها من كائنات حية تمتلك الخاصة نفسها – أنظار العلماء في مجالات تطبيقية عديدة، منها:
في أبحاث الفضاء:
يمكن أن يستغل نظام توليد الإضاءة الباردة لاكتشاف أشكال الحياة المحتملة في الكواكب الأخرى.
يتم ذلك ببساطة عبر جهاز إلكتروني يأخذ عينات من تربة سطح الكوكب المقصود، ثم يخلطها بالمكونات الأساسية لتوليد الضوء البارد؛ الماء، الأكسجين، اللوسيفيرين، اللوسيفيريز. فإذا عاد وميض ضوئي إلى الأجهزة على الأرض، دل ذلك العلماء على وجود جزيئات (أيه تي بي – ATP) الناتجة من التنفس الحيوي، أي إن هناك صوراً محتملة للحياة، وإلا فمن أين أتت جزيئات (أيه تي بي).
في الأبحاث الطبية:
يتم – وفق التقنية السابقة – حقن اللوسيفيرين واللوسيفيريز في الخلايا البشرية، فتظهر فروق في نتيجة التفاعلات الحادثة بين الخلايا الطبيعية، والخلايا المسرطنة مما يساعد على تشخيصها وتحديد المشكلات داخل جسم الإنسان على المستوى الخلوي. كما أن لها باعاً في الكشف عن تسمم الدم.
فقد استخدم العلماء نوعاً من الغلوكوز؛ هو (مالتوديكسترين -Maltodextrin) كمادة مظللة مُزجت مع صبغة مضيئة تأكلها البكتريا فتضيء ويمكن رؤيتها بسهولة.
وفي الصناعات الغذائية:
استخدمت في الكشف عن البكتريا الممرضة في المصادر الغذائية للإنسان. ويمكن للمرء بواسطتها تحديد وجود تلوث جرثومي في مصدر الغذاء.
وفي الصناعة الصيدلانية: تستخدم أنواع منها معدلة وراثيا لتقييم فعالية المضادات الحيوية في مكافحة الالتهابات البكتيرية في الثدييات، وذلك بعد تجربتها مختبريا في حيوانات التجارب كالفئران والخنازير والقرود التي تستخدم كنماذج بشرية محتملة.
وفي مجال تلوث البيئة:
تستخدم كجهاز للاستشعار البيولوجي، يقوم برصد وجود النفايات السامة في البيئة، كأن تصبح حساسة جداً لمستوى الزئبق والزرنيخ، أو غيرهما من الملوثات القاتلة.
في هذا الإطار نجح باحثون ألمان في هندسة بكتريا الإيستريشيا كولاي البرازية، المعروفة بحساسيتها العالية تجاه الزرنيخ وراثياً بحيث تتوهج لدى اجتماع البكتريا والزرنيخ معاً، وذلك من خلال ربطها بجينات بروتين مشع، فيصبح بإمكان العين المجردة التقاط الضوء. ويتحدد تركيز الزرنيخ حسب شدة الضوء الصادر عن التفاعل.