د. عبدالله بدران
ربما لا يعرف الكثيرون أن علم التعمية (التشفير) الذي أصبح أحد أهم العلوم الحالية في المجالات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية كان للعرب فيه السبق العلمي على جميع الأمم والحضارات، وظل ذلك الأمر مخفيا عقودا طويلة في بطون الكتب ورفوف المكتبات والمخطوطات القديمة.
لكن التنقيب المتواصل والبحث الدؤوب والجهد المستمر الذي بذله عدد من الباحثين أثمر نتائج مهمة في هذا الشأن؛ إذ تبين أن العلماء العرب كانوا أول من توصل إلى علم التعمية واستخراج المعمى (الشيفرة وكسرها)، الذي يعد من العلوم المهمة جدا؛ بسبب استخدامه في المعلومات ذات السرية العالية، إضافة إلى استخداماته الواسعة حاليا في التجارة الإلكترونية وأعمال الحكومة الإلكترونية.
ولقد توافر لهذا العلم من أسباب الرعاية والتطوير الشيء الكثير لدى معظم الدول المتقدمة، لكن غاب عن أذهان الكثيرين ممن يعملون به أو يهتمون بأصوله وتطويره أن أصله عربي، وأن العرب هم آباؤه وواضعو أسسه ومطوروه، لكنه خبا لديهم حتى لم يعد شيئا مذكورا.
وثمة نص مهم ذكره كبير مؤرخي التعمية في العالم وهو دافيد كهن يقول فيه: «ولد علم التعمية بشقيه بين العرب، فقد كانوا أول من اكتشف طرق استخراج المعمى وكتبها ودونها. إن تلك الأمة التي انبثقت من الجزيرة العربية ونشرت إشعاعها فوق مساحات كبيرة من العالم المعروف آنذاك، قدمت واحدة من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ حتى ذلك الوقت». وحين تتبع بعض الباحثين العرب تلك المقولة تبين لهم أنه اعتمد فيها على ما جاء في كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) للقلقشندي (توفي 1418 م) الذي عقد بابا في ذلك الكتاب سماه «باب إخفاء ما في الكتب من السر”، وأكثر النقل فيه عن رسالة تدعى “مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز” لعالم يدعى ابن الدريهم (توفي 1359م).
ومن الكتب العربية المهمة التي تناولت التعمية رسالة للفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي (توفي 873م) في استخراج المعمى. ولقد نشرت هذه الرسالة و10 رسائل غيرها لعدد من العلماء العرب في مجلدين كبيرين بعنوان «علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب» في مجمع اللغة العربية بدمشق.
اللغة وأمن المعلومات
تعد اللغة مادة لكل من التعمية واستخراج المعمى؛ إذ تقوم الأولى على تحويل نص واضح إلى آخر غير مفهوم باستعمال طريقة محددة يستطيع من يعرفها أن يفهم النص، في حين تعتمد الأخرى على عكس ذلك من تحويل النص المعمّى إلى آخر واضح.
ووفقا لكتاب استخراج المعمى، فإن هذه العلاقة الوثيقة بين التعمية واللغة تفسر ارتباط تطور كل منهما بالآخر، وتفسر كذلك حاجة كل من يعاني التعمية واستخراجها إلى المعرفة الجيدة باللغة وعلومها، وبخاصة الدراسات اللسانية النحوية والصرفية والمعجمية والعروضية والدلالية والإحصائية والصوتية، كما تفسر جمع عدد غير قليل من الأعلام بين علوم اللغة وعلوم التعمية، واشتراكهم في التصنيف فيهما وشهرتهم بالتقدم في النوعين.
ولقد أدى اهتمام العرب بلغتهم إلى نتائج علمية مهمة في اللسانيات العربية، وهذا ساعدهم على إحراز قصب السبق في معالجة التعمية وحل المعمى وإرساء قواعدهما وتدوين مصنفات مستقلة فيهما، كما أن هناك عوامل أخرى كانت بعيدة الأثر في ذلك أيضا، من مثل نشاط حركة الترجمة من علوم الحضارات السابقة والمعاصرة إلى العربية وتطور علوم الرياضيات وازدهار علوم الإدارة.
التعمية وتطبيقاتها العديدة
تعرف التعمية (أو الشيفرة) بأنها تحويل نص واضح إلى آخر غير مفهوم باستعمال طريقة محددة يستطيع من يعرفها أن يفهم النص، أما استخراج التعمية (أو كسر الشيفرة) فهو تحويل النص المعمى إلى نص واضح دون معرفة مسبقة لطريقة التعمية المستعملة فيه. ويرى بعض المؤرخين أن التعمية بدأت فـنّا ثم صارت تقنية، ولم تلبث طويلا حتى أصبحت علما مستقلا بقواعده وأدواته المختلفة. وقد انتقلت التعمية من مرحلة إلى أخرى من هذه المراحل الثلاث، وشهدت خلالها تطورات عدة أوصلتها إلى عصرها الحالي، الذي يمثل عصرها الذهبي.
وتستخدم التعمية وسائل لغوية وأدوات من المنطق الرياضي والرياضيات ذاتها، وأصبحت التعمية الحديثة تعم معظم مجالات الحياة، لاسيما بعد اختراع الحواسيب وانتشار برامجها وتطبيقاتها، وازدياد الهجمات الإلكترونية التي تهدد مصالح الشركات والدول، وتسبب خسائر كبيرة لها، وتنتشر في بعض الحالات بسرعة كبيرة في شتى ارجاء العالم وتحدث شللا كبيرا لمؤسسات القطاعين العام والخاص.
طرائق التعمية
يمكن إرجاع معظم الطرق التي عرفتها التعمية عبر تاريخها الطويل إلى إحدى طريقتين، كما ورد في كتاب (المعمى) المذكور آنفا:
أولا: التعمية بمعالجة الحروف:
وهي المنشودة من علم التعمية؛ لأنه يجري فيها اتباع طرق تلزم قواعد محددة تخص كلا منها. وطرقها عديدة يمكن إرجاعها إلى إحدى طرق رئيسية، وهي:
1 التعمية بالقلب أو البعثرة:
وقد تكون بتغيير مواقع حروف الرسالة (العبارة) وفق قاعدة معينة، أي لا يستعان في هذه الطريقة برموز أو حروف ليست في الرسالة المعماة سواء أكانت كلمة أم عبارة أم نصا، وهناك أساليب كثيرة تتفرع عن التعمية بطريقة القلب هذه، منها:
< أن يكتب الشخص معكوسا، فيقلب حروف كل كلمة ضمنها (محمد والد علي دمحم دلاو يلع).
< أو يقدم الحرف الأخير نحو (قاسم مقاس).
< أو يبدل الأول من الكلمة بآخر منها نحو (رضوان نضوار).
< أو يأخذ حرفا من أول الكلمة وحرفا من آخرها، نحو (مسعود مدسوع).
2 التعمية بالإعاضة أو التبديل:
تعتمد على أن يبدل بكل حرف حرف آخر أو رمز من خارج النص وفق قاعدة محددة، ويمكن أن يتم هذا التعويض بطرق مختلفة، منها:
< إبدال حرف بحرف معين دائما حيث وقع وفقا لواحد من الأقلام المعروفة آنذاك،
< أو يتم التبديل وفقا لقلم آخر.
< أن يبدل كل حرف بما بعده من حروف (أبجد) فيبدل الألف بالباء.. مسترسلا إلى أن يبدل الغين بالألف لأن الحروف كالدائرة يبدل آخرها بأولها.
< أو يبدل الحرف بما بعده من حروف (أبجد) حرفين حرفين، أو يبدل الحرف بثلاثة.
3 التعمية بزيادة حروف أو كلمات بإغفال أو بحذف حروف :
وتقوم على زيادة حروف أو كلمات أو إسقاط حروف، وللتعمية بهذه الطريقة أساليب عديدة، منها:
< أن يكرر الحروف، أو يكرر المفرد منها.
< أو يسقط منها حرفا حيث وقع.
< أو يبدل حرفا بحرفين يختارهما إما متشاكلين مثل (ط ظ) وإما متغايرين مثل (ب ع).
< أو يزيد من كل كلمة حرفا من الحروف في أولها أو ثانيها أو ثالثها أو آخرها، أو حرفين دائما متماثلين أو متغايرين.
4 التعمية المركبة:
وتكون باستخدام طريقتين أو أكثر من أساليب التعمية التي سبق ذكرها ضمن الطرق الثلاث المتقدمة، وينتج عن تطبيق ذلك عدد لا يحصى من طرق التعمية المركبة.
ثانيا: تعمية المعاني بالتورية:
يندرج تحت هذا النوع ما استخدمه العرب في جاهليتهم من الرمز والملاحن والمعاريض، ثم ما عرف في القرون المتأخرة بالأحاجي والألغاز، وهو أقرب إلى التعمية البديعية (اللغوية).