م. ماجد العنزي
مع انطلاقة شهر أكتوبر من كل عام تنشط الجهات المعنية بالصحة في أنحاء العالم، ولاسيما منظمة الصحة العالمية، للتوعية بأخطار مرض سرطان الثدي وضرورة الكشف الدوري عنه، وأهمية الوقاية المبكرة للحد من انتشاره، والتخفيف من الآثار الكبيرة التي يخلفها على المصابات به وعائلاتهن.
ولما كان مرض السرطان من أكثر الأمراض انتشاراً في العصر الحديث، ومن أشدّها خطورةً على حياة الأفراد في حال كشفه المتأخر، فإن الجهات الصحية من منظمات ووزارات وأطباء ومتعافين حريصون على التوعية المستمرة عن أهمية الكشف المبكر ونشر المعلومات الصحيحة، لتفادي تشخيص المرض في مرحلة متقدمة. ومن المهم أن يُدرك الناس أن الكشف المبكر هو كلمة السر لعلاج هذا المرض، وسبب رئيسي لزيادة معدلات الشفاء والبقاء لسنوات طويلة بعد تشخيص الإصابة. ويمكن القول إن المعرفة هي نصف العلاج، وإنها تؤدي دوراً مهما في إنقاذ صاحبها من مضاعفات خطيرة قد تُودي بحياته في سنٍّ مبكرة.
شهر التوعية
وفي شهر أكتوبر يساهم الأطباء المتخصصون في نشر المعلومات الموثوقة عبر وسائل الاعلام وفي المراكز المتخصصة لعلاج الأورام السرطانية، ويساهم المرضى أيضاً في مساعدة المرضى الجدد على فهم طبيعة الرحلة العلاجية القاسية وسُبل التخفيف من آثارها الجسدية والنفسية. وهنالك دور محوري للدول في تسخير الجهود والإمكانات لإنشاء مراكز متخصصة للكشف المبكر عن سرطان الثدي. وهذا، بطبيعة الحال، سينعكس على اقتصادها ويخففّ من الأعباء المالية على ميزانياتها من جرّاء الصرف على علاجات باهظة الثمن.
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن عدد الإصابات المتوقعة لمرض السرطان لعام 2018م هو 18.1 مليون إصابة في العالم (186 دولة)، بنسبة وفاة تبلغ 9.6 مليون شخص لأكثر من 36 نوعا من أنواع السرطان. والنِسب الأعلى للإصابات الجديدة والوفيات كانت من نصيب سرطان الرئة (مليونا إصابة جديدة مقابل 1.8 مليون حالة وفاة تقريباً) ، في حين يبلغ عدد الإصابات الجديدة بسرطان الثدي نحو مليوني إصابة لكن بعدد وفاة أقل (627 ألف حالة)، ويعود الفضل في ذلك إلى إسهامات برامج الكشف المبكر عن سرطان الثدي.
وفيما يتعلق بتلك النسب في الدول الأوروبية، فقد أصدر المركز الأوروبي للأبحاث المشتركة The Joint Research Center of the European Commission تقريراً حديثاً عن الأثر الصحي لمرضى السرطان في دول الاتحاد الأوروبي لعام 2018 . وأظهرت النتائج أن هنالك ثلاثة ملايين إصابة متوقعة لجميع أمراض السرطان في أوروبا لهذا العام فقط! وأن عدد الوفيات المقدرّ للعام نفسه هو 1.4 مليون شخص، وهو ثاني أكبر سبب للوفاة في أوروبا بعد أمراض الدورة الدموية Circulatory Diseases.
ويظهر ( الشكل 1.ب ) أن معدلّ الوفيات بسرطان الثدي في معظم دول الاتحاد الأوروبي انخفض بصورة ملحوظة بعد تفعيل برامج الكشف المبكر عن طريق الماموغرام والألتراساوند في عام 1990 .
فرص الإصابة بالسرطان
تظهر الأبحاث أن فُرص إصابة أي امرأة بسرطان الثدي طوال فترة حياتها هي 8:1 ، بمعنى أن امرأة واحدة ستُصاب بالمرض من بين كل ثماني نساء. و تزداد فرص الإصابة بعد تجاوز سن الأربعين، لذا يُنصح بإجراء الفحص السنوي للكشف المبكر. وهذه الإحصائيات قديمة ولا تعكس حقيقة الأرقام في المنطقة العربية؛ نظراً لضعف برامج التوعية والكشف المبكر في معظم دولها، إضافة إلى ارتفاع معدل إصابة الصغيرات بالمرض (أقل من 30 عاما) مقارنةً بمتوسط أعمار إصابة أكبر في أمريكا وكندا على سبيل المثال.
فوائد الكشف المبكر للمرض
تكشف الدراسات العلمية عن أهمية الكشف المبكر بالأرقام؛ فوفقاً لإحصائيات أمريكية لعام 2016، فإن التشخيص المبكر لسرطان الثدي والبروستاتا، على سبيل المثال، يزيد من فرص الحياة بنسبة 100%لمدة خمس سنوات ( الشكل 1.أ )، مقارنةً بالكشف المتأخر الذي يقللّ من فرص النجاة إلى نحو 30 %.
و نظراً لصعوبة الكشف المبكر عن معظم الأمراض السرطانية، يسعى الباحثون إلى إيجاد طُرق فعّالة وغير مُكلفة لمعاينة أي تشكل غير طبيعي للخلايا في الجسد قبل ظهور الأعراض. ولعلَّ ظهور شركة غريل Grail يمثلّ بارقة أمل للكشف عن أي تطورّ سرطاني في مراحله المبكرة جداً عن طريق خزعة سائلة لقياس التسلسل الجيني. و استثمار أثرياء العالم فيها يشير إلى مستقبل واعد للشركة ونجاح مشروعها للقضاء على المرض قبل ظهوره.
أعراض المرض وأسبابه
لا تزال الأبحاث جارية للكشف عن المزيد من العوامل التي قد تتسبب في الإصابة بسرطان الثدي. وهناك دراسات إحصائية قديمة و حديثة تؤكد أن التدخين و تناول الكحول من أهم الأسباب المحتملة للإصابة بالمرض، إضافة إلى كثرة تناول الدهون والشحوم الحيوانية وقلّة تناول الخضراوات والفواكه. والتعرضّ للمواد المشعة والمواد الكيميائية والمبيدات الحشرية قد يكون سبباً لتغيير تركيب الحمض النووي. والاستعداد الجيني والوراثي من الأسباب المؤكدة علمياً لكن خطر الإصابة الوراثية لا يتجاوز 15 % مقارنةً بالمكتسب الذي يمثلّ 85 % من فرص الإصابة.
وثمة بحث علمي حديث نشرته جامعة تكساس اكتشف جيناً وراثياً جديداً قد يتسبب في الإصابة بسرطان الثدي. هذا الجين يُدعى Per2 وهو المسؤول عن الروتين اليومي للجسم (الساعة البيولوجية). وما زال البحث جارياً لدراسة العلاقة بين العمل بنظام الورديات ومعدل الإصابة بين السيدات اللاتي يعملن ليلاً للجزم بأهمية هذا الجين في التنبؤ بالمرض مستقبلاً.
الأسلوب الغذائي والمعيشي
تظهر معظم الدراسات الحديثة وجود علاقة وطيدة بين أسلوب حياتنا وارتباطه بالعديد من أمراض السرطان وغيرها من أمراض هذا العصر. فقد ذكرت دراسة أجرتها جامعة Creighton أن انخفاض معدلّ الفيتامين دال والكالسيوم في الدم يزيد من خطر الإصابة بمرض السرطان. وفي المقابل فإن وجودهما بكميات مناسبة يقلل من خطر الإصابة بنسبة 30 %. وأظهرت دراسة نشرتها مجلة طب الأورام الأمريكية أن الصيام لأكثر من 13 ساعة ليلاً يساهم في خفض معدل الإصابة بسرطان الثدي، وأن السهر وارتفاع السكر التراكمي HbA1c يزيد من خطر الوفاة إحصائياً بنسبة 22 % مقارنةً بمن ينامون مبكراً ويمتنعون عن تناول الطعام ليلاً للمدة المذكورة آنفاً.
ويربط تقرير أصدره الصندوق العالمي لأبحاث السرطان World Cancer Research Fund هذا العام السمنة بـاثني عشر نوعاً من أمراض السرطان. و ذكر أن الوقاية ممكنة بنسبة 40 % إذا استطاع الفرد المحافظة على أسلوب حياة صحي و تجنب المسببات المباشرة للمرض مثل التدخين، والسمنة، وقلة النشاط البدني، وتناول اللحوم الحمراء بإفراط و شرب الكحول الذي أثبت ارتباطه بخطر الإصابة بسرطان الثدي والكبد والفم و المعدة. والمفاجأة المذكورة في الدراسة هي أن السمنة ستصبح السبب الأول للإصابة بالمرض في العقود المقبلة متجاوزةً التدخين الذي يعد السبب الأول حالياً للإصابة بأمراض السرطان.
وأظهــــرت دراسة نشرتها مجلة الأبحاث الدولية لمرض السرطان International Journal of Cancer ، بعد متابعة المرضى لمدة 30 سنة، أن تناول 6 حصص يومية من الخضراوات والفواكه الغنيّة بمركبات البيتا كاروتين beta-carotene ،مثل الطماطم مع زيت الزيتون أو الفلفل الأسود، يحمي من نشأة أورام الثدي السرطانية والعدوانية مثل الورم الثلاثي السلبي، و يقي من خطر الإصابة بمرض سرطان الثدي أو عودته بعد رحلة العلاج، وأن خطر الإصابة يقلّ بنسبة 11 % للاتي تناولن 5.5 حصة يومياً مقارنةً بمن تناولن 2.5 حصة يومياً.
وفي أغرب دراسة منشورة بمجلة نيتشر العريقة، قال الباحثون إن الأطفال الأكثر عُرضة للإصابة بمرض سرطان الدم الحاد Acute Lymphoblastic Leukaemia هم أولئك الذين لم يتعرضوا للعدوى المتكررة في عامهم الأول، وإن حرص الآباء على نظافة أبنائهم وعدم انخراطهم مع الأطفال في الحضانة، على سبيل المثال، قد يكون سبباً للإصابة بهذا المرض، الذي يزداد عدد المصابين به بنسبة 1 % سنوياً في الدول الغنية، التي يهتم مواطنوها عادة بنظافة منازلهم وأولادهم.
الشكل 1 🙁 أ) إحصائية أمريكية حديثة تربط بين الكشف المبكر لأمراض السرطان وارتفاع معدلات البقاء لأنواع مختلفة من المرض. الكشف المبكر لسرطان الثدي يرفع معدلّ البقاء إلى 100 % لمدة خمس سنوات( الصورة: Economist). (ب) انخفاض معدلّ الوفيات بسرطان الثدي في الدول الأوروبية منذ تفعيل برامج الكشف المبكر عام 1990م (الصورة: المركز الأوروبي للأبحاث).
علاجات حديثة
هنالك علاجات واعدة لسرطان الثدي نشرت نتائجها في مجلات ومؤتمرات عدة منها دراسة نشرتها مجلة نيتشر عن بروتوكول جديد (tumor infiltrating lymphocyte) لعلاج سرطان الثدي المنتشر Metastatic Breast Cancer. فقد تمكنّ علاج مناعي جديد من إزالة جميع الأورام السرطانية لامرأة أمريكية فقدت الأمل بالحياة. وتتمثل فكرة العلاج في استخلاص خلايا طبيعية بأجسادنا تدعى الخلايا التائية T-cells داخل الورم أو قربه. وهذه الخلايا المناعية النشيطة ستعمل على تحديد وتدمير الخلايا السرطانية بشكل انتقائي. وتمكنّ مهندسون بيولوجيون من تطوير خلايا تائية اصطناعية تُكافئ الخلايا الطبيعية، فهي تؤدي دوراً رئيسياً في مهاجمة أي عدوى في الجسد، وتستطيع أن تنمو لأكثر من ثلاثة أضعاف حجمها من أجل التغلب على المستضدات Antigens التي تهاجم الجهاز المناعي.
الشكل 2 : تمتّ تجربة تقنية نانوية علاجية على فأر مصاب بسرطان الثدي بعد علاجه بعقار الدوكسوروبيسن. ظنَّ العلماء، لوقتٍ طويل،أن هذا النوع من التقنيات قد يُعالج أنواعا محددة من الأورام لكن تبين أنه ملائم وممكن لعلاج أورام عديدة. لاحظ التأثير المباشر على الورم خلال يومٍ كامل.
وهنالك أيضا تقنية تحرير الجينات كريسبر CRISPR ودورها المهم والمتوقع في علاج مرض السرطان بالسرطان ذاته عن طريق الاستفادة من خصائص الخلايا السرطانية وسلوكها البيولوجي داخل جسد المصاب، وذلك عن طريق مهاجمة الخلية السرطانية المنتشرة في الدم خلايا الورم ذاته بعد حقنها ببروتين S-TRAIL مما يؤدي إلى قتلها، وفق بحث نشرته مجلة ساينس. إضافة إلى ذلك هناك تقنية حديثة تُدعى ريبوتاك RIBOTAC تتمثل في صنع جزيئات صغيرة تعمل على الحمض الريبوزي RNA لحذف الجينات المعطوبة، الوراثية أو المكتسبة، بشكل انتقائي وبأقل أعراض جانبية ممكنة للمريض.
ويعد الجيل الجديد من العلاج الموجّه بتقنيات النانو Targeted Therapy ، من أكثر العلاجات الواعدة التي قد تضع حداً لألم المريض ومضاعفات العلاج الكيميائي الشامل. فالمواد النانوية قادرة على تشخيص وعلاج المرض، وتمييز الخلايا السرطانية بدقة بواسطة جسيمات ذات خصائص مغناطيسية (الشكل 2 ).
و لاتزال الأبحاث على قدمٍ وساق لإيجاد علاج فعّال لأمراض السرطان لكنها تبدو أكثر تفاؤلاً لعلاج سرطان الثدي. يقول العالم الفيزيائي الشهير ميتشو كاكو إن أبحاث السرطان الحديثة ستكتشف حلاً سحرياً للمرض بواسطة العلاج النانوي، وستصطاد بوادر الورم من قبل أن تبدأ ببناء مستعمرات سرطانية في الجسد بعشرات السنين. وسيصبح السرطان مثل نزلات البرد وسنتعايش معه دون أن يُلحق الأذى بنا.
سيبلغ عدد الإصابات الجديدة بسرطان الثدي في عام 2018 نحو مليوني إصابة مع وفاة نحو 627 ألف حالة بفضل إسهامات برامج الكشف المبكر عن سرطان الثدي