د. ليلى صالح العلي
من المعروف في علم البصريات أنَّ أفضل قيمة لما يمكن قياسه من تفاصيل صغيرة في نموذج بواسطة عدسة شيئية في مُجهِر تتحدد بنحو نصف قيمة طول موجة الضوء المستعمل الذي يتشتت عن نموذج ما؛ أي إننا لو سلطنا ضوءا أبيض على نموذج فستكون أصغر التفاصيل التي يمكن قياسها من هذا النموذج بحدود 275 نانومترا فقط، لأن معدل طول موجة الضوء المرئي هو 550 نانومترا. ويعرف هذا التحديد لأقل قياس يمكن رؤيته أو تسجيله بواسطة عدسة بحدود التحليل resolution limit أو حد الحيود diffraction limit . والمعيار الذي يستعمله العلماء لتحديد هذا المقدار هو “معيار رايلي”. ولا يعتمد هذا التحديد على جودة تصنيع العدسة ونعومة سطحها، بل هو تحديد فرضته الطبيعة. فمهما كانت جودة التصنيع ونعومة الصقل فلن يتجاوز هذا القياس نصف قيمة الطول الموجي للضوء المستعمل.
وبقي الإنسان منذ نحو قرن ونصف القرن أسير هذا التحديد على الرغم من محاولاته الكثيرة لأجل تخطي هذا العائق، إذ عمد إلى استعمال ضوء ذي طول موجي قصير وكانت النتيجة صعوبات تقنية وتَقدُّما بسيطا. ثم عمد العلماء إلى تصنيع مجهرات ذات أساس علمي مختلف، مثل المُجهِر الإلكتروني الماسح ومُجهِر القوة الذرية التي تُمكن العلماء من رؤية تفاصيل دقيقة لا تتعدى قياساتها بضعة نانومترات. إلا أنَّ المشكلة في هذا النوع من المجهرات أنَّ أساس عملها يستند إلى مسح النموذج نقطة بعد أخرى مما يستغرق زمنا قد يصل إلى بضع دقائق، ويجعلها غير صالحة للتعامل مع النماذج البيولوجية الحيَّة.
ابتكارات العقول
لكن عقول العلماء الخلاقة تُتحف البشرية بين مدة وأخرى بابتكارات واختراعات جديدة تُسهم في دفع عجلة التقدم العلمي، فأتت أفكارهم مع بداية الألفية الثالثة بشيء جديد هو المادة الخارقة أو فوق المادة “metamaterial”. وهي مواد تُصنع في المختبرات وتعتمد خصائصها الكهرمغناطيسية على طريقة تشكيلها، حيث يتم تشكيلها من ترتيب دوري متكرر لوحدات صغيرة تسمى وحدات الخلايا “unit cells”. وكما يؤثر تشكيل وترتيب الذرات والجزيئات للمواد الطبيعية على تفاعلها مع الموجات، كذلك يمكن هندسة وحدات الخلايا بالشكل الذي نحصل منه على التفاعل الموجي الذي نريدها أنْ تقوم به. وعادةً ما يتم ترتيب وحدات الخلايا بفواصل حيزية تقل عن الطول الموجي الذي صممت للتعامل معه. ولأن الأطوال الموجية الراديوية والمايكروية أكبر بكثير من الأطوال الموجية للضوء المرئي، فقد نجح علماء الرادار في تشكيل هوائيات جديدة من فوق المادة أوصلتهم إلى حدود تحليل صغيرة جداً. أما علماء البصريات فقد تمكنوا من صنع عدسات خارقة من فوق المادة تستعمل بمعية المُجهِرات الضوئية وتوضع قريباً جداً من النموذج، فيتمكن المُجهِر من رؤية تفاصيل تقل عن حد التحليل بخمس أو ست مرات. وستكون تقنيات بعض هذه العدسات هي محور هذه المقالة.
عدسة خارقة
ظهرت منذ منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة تقنيات جديدة تسمح بدمج شريحة من فوق المادة ذات معامل الانكسار السالب مع العدسة التقليدية، فتتحكم في مسار الضوء وتحرفه إلى اتجاهات لم يرها أحد من قبل في المواد الطبيعية، لنقل تفاصيل نانوية لم يكن بالإمكان رؤيتها مع المُجهِر الاعتيادي. وإذا وضعنا هذه المادة قريباً جداً من النموذج فستتمكن العدسة الفائقة من نقل المعلومات من مجال الرؤية القريب فتزودنا بالمعلومات عن التفاصيل الصغيرة جداً. وسيكون تأثير هذا واضحا جداً في رؤية تطبيقات تتعلق بالخلايا الحية مثل حركة البروتينات والدهنيات دخولاً وخروجاً إلى الخلية.
فوق المادة
يُصَنِّعُ العلماء فوق المادة من خلال تشكيل مدروس لوحدات الخلايا، ويكون التشكيل بهيئة متقطعة ومتكررة لهذه الوحدات وبفواصل حيزية بين الوحدات أصغر من الطول الموجي للأشعة الكهرمغناطيسية التي ستتعامل معها. ويشترك في تصنيع فوق المادة علماء من حقول عديدة، ويوجد لها تطبيقات في مجالات شتّى، مثل صناعة مواد التَخَفّي وتصنيع هوائيات بصفات خاصة. ومن الاستعمالات المهمة لفوق المادة هو استعمالها لتصنيع عدسات خارقة قادرة على تكوين صور لأجسام بقياسات ذرية. وما يميز «فوق المادة» هو قدرتها على التعامل مع المجال المغناطيسي للموجة مما يمنحها مزايا لا تملكها المواد العادية، وذلك بسبب معامل انكسارها السالب الذي يجعلها تتحكم في مسار الضوء، فتجعله ينكسر نحو الداخل بشكل معاكس لما نألفهُ في المواد الطبيعية.
ويكمن التحدي في الوصول إلى معامل انكسار سالب بالحصول على ما يسمى سماحية سالبة. ولا يمكن تصنيع نوع واحد من فوق المادة ليصلح لجميع الأطوال الموجية، وإنما هناك تصميم خاص بكل حزمة من الترددات، مثل فوق مادة للموجات المايكروية وفوق مادة فوتونية وفوق مادة بلازمية.
مجالا الرؤية القريب والبعيد
تتكون الصورة في المُجهِر البصري بواسطة العدسة الشيئية للمُجهِر، حيث تنقل العدسة الضوء المتشتت عن النموذج. وهناك نوعان من التشتت؛ فالتشتت عن التفاصيل ذات القياس الصغير جداً في النموذج يتلاشى بعد مسافة تقدر بطول موجي واحد أو اثنين بعيداً عن النموذج، وتسمى الموجات المتلاشية evanescent waves . ويسمى مكان وجودها بالقرب من النموذج ب “المجال القريب”. ولأن موجات المجال القريب تتلاشى قبل أنَّ تصل إلى العدسة لذلك فإننا لن نرى تفاصيل القياسات الصغيرة في الصورة. أما في حال التشتت الناتج عن تفاصيل أكبر في النموذج فتستطيع الموجات السير إلى مسافات أطول بعيداً عن النموذج، إلى ما يسميه علماء البصريات وعلماء الرادار بالمجال البعيد، وتستطيع العدسة التقاط موجات المجال البعيد وتكوين صورة للتفاصيل التي سببت التشتت.
حدود التحليل للعدسة التقليدية
تمثل حدود التحليل أو “حد الحيود” قياس أصغر مسافة يمكن رؤيتها في نموذج بواسطة عدسة. وحدود التحليل هذه لا تعتمد على جودة تصنيع العدسة ونعومة سطحها وإنما تتحدد بقيمة الطول الموجي للضوء المستعمل وقطر العدسة. والمعيار الذي يستعمله العلماء لتحديد هذه المسافة أو هذا البُعد هو “معيار رايلي”. ويحدد هذا المعيار قيمة أصغر مسافة فاصلة بين جسمين نُقطيين تتمكن العدسة من رؤيتهما كجسمين ينفصل أحدهما عن الآخر فلا يبدوان كجسم واحد. وقد عزا اللورد رايلي (1919-1842)، مدير مختبر كافندش في جامعة كمبردج، سبب هذا التحديد إلى الطبيعة الموجية للضوء؛ لأنه يتشتت ويحيد عن مساره الأصلي حالما يدخل عدسة أو منظومة بصرية.
تقنيات حديثة
ظهرت حديثاً تقنيات تؤدي حين دمجها مع المُجهِرات البصرية إلى تحسين القدرة التحليلية للمُجهِر، وهي تقنيات يطلق عليها اسم «التحليل الخارق super-resolution”. وهو يُعَبِّرُ عن تقنيات تتيح للمُجهِرات الضوئية الوصول إلى حدود تحليل أقل مما يسمح به معيار رايلي. ومن أهم التقنيات طُرق تستعمل البلازما السطحية لتتحكم في الموجات المتلاشية لغرض الحصول على تحليل فائق. ويمكن استعمال البلازما السطحية، التي إما أن تكون متموضعة في رأس معدني دقيق أو متهيجة على سطح معدني، للوصول إلى حدود تحليل أقل من حد التحليل. وسنتمكن من رؤية عالم الخلايا الحية ومكوناتها وحركة هذه المكونات داخل الخلية وانتقال المواد من داخل الخلية إلى خارجها، وبالعكس. ولدينا طرق أخرى تستعمل فوق المادة للتحكم في الموجات المتلاشية، ومن أهم الطرق التي تستعمل فوق المادة للوصول إلى رؤية أبعاد صغيرة تقل كثيراً عن حدود التحليل:
مُجهِر الرؤية القريبة (NSOM)
يساعد مُجهِر الرؤية القريبة على تحسين الرؤية بواسطة استعمال مجس دقيق يوضع بالقرب من النموذج فيسجل الموجات المتلاشية القريبة جداً من النموذج. ويقوم هذا المتحسس بعملية مسح للنموذج نقطة بعد أخرى بدل التصوير مرة واحدة. وهذا الأمر يحتاج إلى وقت، وهو من أكبر سلبيات هذه الطريقة، فغالباً ما تستغرق عملية المسح لتكوين الصورة بضع دقائق. وتعتمد القدرة التحليلية لهذا المُجهِر على بُعد المجس عن النموذج. ولضوء طوله الموجي 1064 نانومترا تم الحصول على تحليل مقداره 80 نانومترا. وهذا أمر جيد لأن التحليل الذي تتيحه المُجهِرات التقليدية لن يتجاوز نصف قيمة الطول الموجي، أي تقريباً 532 نانومترا.
عدسة فائقة للمجال البعيد (FSL)
صممت هذه العدسة عام 2005، وهي عبارة عن شرائح معدنية متموجة ومتعاقبة من فوق المادة، أتاحت رؤية أفضل من سابقاتها.
وتم إجراء تجربة على نموذج يتكون من ثماني نقاط دائرية صغيرة قطرها 40 نانومترا ولها ترتيبات ومواقع مختلفة، وأصغر مسافة فاصلة بين مركز دائرتين يبلغ 100 نانومتر. وعند فحص النموذج بالمُجهِر الضوئي الاعتيادي، لم ينجح برؤية الدوائر المتقاربة بشكل منفصل وإنما رآها وكأنها بقع ضوئية لثلاثة أجسام (الصورة الوسطى b من الشكل). وعند فحص نفس النموذج بالتقنية الجديدة، تمت رؤية الدوائر بشكل منفصل تماماً (الصورة اليمنى c من الشكل) مما يعني تَحَسُّن قابلية التحليل للمُجهِر بعدة مرات عن قابلية تحليل المُجهِر الضوئي الاعتيادي الذي يعمل ضمن المدى البعيد.
تبئير المجال القريب بعدسة خارقة
تستند هذه التقنية إلى ترتيب فوق المادة يسمى “لفيفة الكيك السويسرية” التي تتصرف وكأنها صفيحة مغناطيسية تنقل بشكل متقن توزيعات المجال المغناطيسي من المُدخلات إلى السطح الخارجي. وبسبب الشكل الأسطواني لهذه اللفيفة من فوق المادة فإن مسار الضوء سيؤدي إلى تبئير الضوء بالاتجاه القطري وتبئير الموجات المتلاشية، ومن ثم تكبير هذه الصورة إلى قياسات أكبر باستعمال البصريات التقليدية. وفي تطبيق لهذه التقنية على الموجات الراديوية فقد تم بناء هوائي على شكل حرف M وتم ترتيب 271 من لفائف الكيك السويسري فوق المادية بشكل موشور سداسي، فعمل هذا الترتيب على نقل صورة جيدة وغير مشوهة للحرف M التي كَوَّنَها المجال المغناطيسي. وحديثا نجح فريق سويسري بتطوير نوع من هذه اللفائف يستجيب للضوء المرئي.
عدسات بصرية خارقة
صمم الباحثون عدسة خارقة تُستعمل مع الموجات المايكروية تتألف من مصفوفة أسلاك موصلة متوازية. وفي عام 2004 تم تقديم عدسة خارقة من فوق المادة ذات معامل سالب وتعمل مع الأشعة المايكروية. وقد أدت إلى تحسين قدرة التحليل للمُجهِر بمقدار ثلاث مرات. وقدم باحثون عام 2005 أول عدسة خارقة تستعمل المجال القريب، لكنها لم تكن تعتمد على معامل الانكسار السالب بل على طبقة رقيقة من الفضة تثري الموجات المتلاشية. وفي عام 2008 تم تشكيل فوق مادة من أسلاك نانوية فضية رسِّبت على أكسيد ألمنيوم مسامي مما أتاح معامل انكسار سالبا لهذا التشكيل. ثم تحور التصميم ليشمل عدة طبقات وليس طبقة واحدة.