د.نزار خليل العاني
ثمة معضلتان مستعصيتان على الدواء، لم يجد الإنسان حلاً لهما: الشيخوخة والموت. وفي تاريخ الطب استطاع الإنسان أن ينتصر على جائحات وبائية حصدت مئات الآلاف من الأرواح، وقهر العديد من الأمراض التي فتكت بالبشر، لكنه بعد مئات السنين من الثورة الطبية الحديثة، لا يزال يقف عاجزاً أمام الطارئ الذي لا حلَّ نهائياً له حتى اليوم، وأقصد الشيخوخة.
التخمين سيد الموقف
في مطلع ستينيات القرن الماضي بدأتُ الدراسة الجامعية في كلية الصيدلة، ومنذ ذلك الحين لم أتوقف يوماً عن اقتناء الكتب الطبية ودراستها والكتابة عنها، لكن هناك بعض الكتب التي لا أنساها ما حييت.
من هذه الكتب، كتاب (نظرة في أعماق الإنسان) للطبيب محمد صبحي أبو غنيمة رحمه الله، ففي سياقه التاريخي كان الكتاب بوصلة للباحثين عن المعارف الطبية الجديدة، وفيه إطلالة على ظواهر طبية خارقة لا تفسير لها، منها حالة «مريض فرانكفورت». وخلاصة الحالة أن أحد ضباط المخابرات الألمانية كان على وشك الوفاة وفي قسم العناية المشددة بالمشفى حين دخلت جيوش الحلفاء إلى فرانكفورت، فنزع الضابط الأجهزة المعلقة بجسمه، وغادر المشفى سيراً على الأقدام نحو 80 كلم ليلجأ إلى صديق ويختبئ عنده! والأمر أشبه ما يكون بالقيامة من الموت. كتاب يضيف المتعة الفائقة إلى المعرفة الوافرة.
ومن الكتب الراسخة في الذاكرة، كتاب (الإنسان ذلك المجهول) للحاصل على جائزة نوبل في الطب ألكسيس كاريل. ففيه قرأت أسئلة مضنية لم أعرف أجوبتها إلا بعد الدراسة، ومنها ثبات نسبة تركيز كلور الصوديوم في ماء البحر وفي جسم الإنسان والتي تبلغ تسعة في الألف، مهما شرب الإنسان من سوائل ومهما تعرَّق، ومهما انسكب في البحر من مياه عذبة أو تعرض للبخر! كتاب قضى مؤلفه نصف قرن في المستشفيات والمختبرات كي يؤلف هذا العمل الفريد في بابه، والخالد في المكتبة الطبية.
وفي هذه الأيام قرأت كتاباً أذهلني عنوانه (طبّ الشيخوخة) لمؤلفه الفرنسي كريستوف دو جاجيه، وهو كتاب صغير الحجم لكنه عظيم المحتوى، وكبير القيمة، يكاد في بابه يسد الحاجة إلى اقتناء وقراءة غيره، وأقول ذلك دون انحياز وعن ثقة وخبرة طويلة في عالم الكتب.
تعريف وتصنيف
يجزم الكاتب «دو جاجيه» في كتابه – الذي ترجمه أحمد طجو ونشرته مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية حديثا – أن هناك نحو 300 نظرية عن الشيخوخة حسب إحصاءات العالم الروسي زوريس ميدفيديف التي تتوقف عند العام 1990، والذي يعترف أن العدد مايزال في ازدياد. واستناداً إلى فلسفة الإحصاء، فكلما كثرت الاحتمالات توارت الحقيقة وتضاءل دور اليقين؛ أي إن مصطلح (طب الشيخوخة) غير قابل للتحديد الدقيق حتى اليوم.
يقول الدكتور ديفيد س.جودسل في كتابه (آلات الحياة) : أظهرت الأبحاث العلمية أن هناك سبباً رئيسياً يكمن وراء الشيخوخة وهو حدوث تراكم بطيء لكنه منتظم في تلف الخلايا والجزيئات. ومرد هذا التلف المنظم عمليات الأكسدة ونواتجها الضارة القادرة على مهاجمة البروتينات والدنا DNA. ومن هنا اكتسبت مضادات الأكسدة كل هذه الشهرة في عصرنا الحالي كوسيلة لإبطاء الشيخوخة.
26 بحثا عن الشيخوخة
يناقش الكاتب الفرنسي 26 بحثاً تتناول تاريخ نظريات الشيخوخة وفيزيولوجيتها وبعض الأرقام المتعلقة بها، وأمراض الشيخوخة، والأدوية المستخدمة في علاجها، والنصائح السلوكية والحركية والنفسية المقترحة للوقاية الفضلى. وجاءت هذه الأبحاث في ستة فصول شكّلت مجمل الكتاب.
والحقيقة الماثلة أمامي بوضوح، أن أي قراءة صحافية لا تستطيع استيفاء كل العناوين الفرعية الـ 26 على أهميتها كلها، ولا تغني محاولتي هذه عن العودة إلى الكتاب كاملاً، لذا سأركز قراءتي على أمراض الشيخوخة وأدويتها وهي الغاية النهائية للكتاب وللقراء الذين تقدم بهم العمر.
شيخوخة البشر
كما جرت العادة، يبدو أن سقراط وأرسطو أول من تناول ظاهرة الشيخوخة. ببساطة شديدة قالا عنها إن المخزون الحراري لسوائل الجسم ينفد، مثلما ينفد زيت المصباح. واحتاج الفكر الطبي إلى نحو 2000 سنة كي يقول خلاف ذلك، ويوضح أن الشيخوخة كما أشار الطبيب سانتوريو هي فرضية فقدان القدرة على التجدد. وعلى مدار السنين كانت تظهر اجتهادات تصيب وتخطئ، لكنها دائما تشكل قاعدة معلومات مفيدة.
من نظريات الشيخوخة : ضمور القلب وجهاز الدوران أو الدماغ، والتسمم التدريجي الداخلي، وسوء التغذية، وتأثير الأشعة الكونية، وأخطاء في البرنامج الحيوي للجسم، وطفرات المورثات أو الجينات، والجذور الحرة، وتراجع أداء جهاز المناعة، واضطراب في اصطناع الهرمونات وغير ذلك.
ولأن نظريات الشيخوخة لا يحصرها عد، فإن الحديث عن طبيعتها الفيزيولوجية يبدو دون طائل. الشيخوخة في حقيقة الأمر شيخوخات، وقد تصيب الخلايا أو العضلات أو الجهاز الحركي، لذا تختلف أسبابها وتتعدد مظاهرها المرضية والتشريحية، وهي غير قابلة للضبط في شريحة عمرية أو حصرها في ارتكاس عضو أو جهاز فيزيولوجي بعينه. وبعبارة واحدة : نعرف الكثير عن الشيخوخة، لكن المخفي أعظم!
قائمة طويلة لأمراض الشيخوخة
قلب الكتاب وروح مضمونه تلك القائمة الطويلة من الأمراض التي لابد أن يعانيها مَن تقدم بالعمر. وهذه المشكلة مُكلفة اجتماعياً واقتصادياً وتفرز الكثير من الهواجس العاطفية العائلية والإنسانية. والسؤالان المهمان المطروحان في الكتاب هما : هل الشيخوخة مرض؟ وهل تسهّل الشيخوخة الأمراض؟ والإجابة الحاسمة هي «أن الشيخوخة ليست مرضاً»، وما الشيخوخة سوى فقدان قدرة الجسم على التكيف الوظيفي لذا «يصبح جسمنا أكثر عرضة للهجمات الخارجية الإنتانية والسامة والإجهاد»، ويتضاءل معها الدور المهم للنظام المناعي، وبذلك ينفتح الباب واسعاً أمام شبح الأمراض ليسرح ويمرح في كتابة القائمة.
أ ـ الأمراض القلبية الوعائية: تحتل رأس القائمة، ويندرج تحت هذا العنوان طيف واسع من الاعتلالات كالذبحة الصدرية، واحتشاء عضلة القلب، والقصور القلبي، وأمراض صمامات القلب، وفرط ضغط الدم الشرياني، ونقص ضغط الدم الانتصابي، والتهاب شرايين الطرفين السفليين، والخثرات الدموية الرئوية، واضطرابات نُظُم القلب، وبطء القلب، والتهاب الأوردة، والتهاب شغاف القلب، والتصلب العصيدي الناجم عن الكوليسترول السيئ LDL. وكل هذه الأمراض صارت تحت السيطرة إما بدرهم وقاية أو بقنطار علاج، بوساطة التشخيص المبكر أو كفاءة التكنولوجيا الطبية الحديثة.
ب ـ الأمراض الرئوية: تبدأ بالنزلات الصدرية الشائعة، وتالياً بالتهاب القصبات المزمن والربو وتوسع الأسناخ الرئوية والسل والسعال.
ج ـ الأمراض العظمية المفصلية: لعلها الأكثر شيوعاً ولايكاد ينجو منها متقدم في السن، ومن حسن الحظ أنها ليست خطيرة كسابقتيها آنفاً في (أ، ب). وتتمظهر هذه الشريحة من أمراض الشيخوخة بالتهاب المفصل التنكسي، إذ تعاني غضاريف أي مفصل في الجسم من ترقق وتشقق وأحياناً تآكل يؤدي إلى آلام مبرحة في كل أنحاء الجسم. ويصنف الروماتيزم في هذه الطائفة من الأمراض، وكذلك تخلخل العظام وهشاشتها، والنقرس وتكلس الغضاريف، والكسور، وساهم التقدم الطبي والجراحات التقويمية للعظام في السيطرة على هذه الأمراض والتخفيف من وطأتها.
د ـ أمراض الجهاز العصبي. تسبب هذه الأمراض معاناة لكبير السن ولمن يحيط به، ومنها : الاكتئاب، وداء باركنسون، ومتلازمة الخرف، وآلزايمر، والخرف تحت القشرة الدماغية.
هـ ـ السرطانات: وهي السبب الثاني للوفيات بعد الأمراض القلبية الوعائية في المجتمعات الغربية، ويشخص نحو نصف الأورام الخبيثة بعد عمر الـ 65 عاماً. وصار من المألوف لدى السيدات المسنّات الإصابة بسرطان الثدي، لذا يستحسن المبادرة إلى إجراء الفحوص الدورية بهدف الكشف المبكر لهذا الداء الخطير ومعالجته قبل أن يتفاقم ويستفحل. وتنجر هذه الفحوص على البروستاتة عند المسنين من الرجال. ولم تعد السرطانات مخيفة ومرعبة مثلما كانت منذ عقود، إذ يمكن للجراحة والمعالجة الإشعاعية والمعالجة الكيميائية أن تؤدي دورا شافياً ولو بشكل غير كامل.
و ـ اضطرابات النوم والأرق: يشتكي أكثر من %25 من كبار السن الفرنسيين من عدم النوم جيداً. واضطرابات النوم ليست بالأمر الهيّن، إذ إنها المدخل لاختلالات جسمية (منها متلازمة انقطاعات النفس الدورية) وعقلية (رُهاب، وسواس، ذُهان). ولأن أدوية الأرق تتجه بتأثيرها إلى مستقبلات خاصة في الدماغ، فهي تحتاج إلى التعقل عند وصفها، والتحكم في تركيبها ومقاديرها والمدة الزمنية لاستخدامها والوقت المناسب لإيقافها وكيفيته، لتلافي التأثيرات الارتدادية المحتملة.
ز ـ الاضطرابات البولية: يعتبر السلس البولي أشهرها بكل أشكاله ( الانعكاسي، الفيضي، الإجهادي). والسلس البولي شائع في مؤسسات العناية بالمسنين، إذ يبلغ تواتر حدوثه %40 وينخفض الرقم إلى %5 عندما يعيش الأشخاص في منازلهم. وتكثر الإنتانات البولية لدى المسنين.
ح ـ ضمور العضلات: يعزى نقص الكتلة العضلية عند كبار السن إلى انخفاض النشاط الجسمي واضطرابات التغذية ونقص إفراز الهرمونات، وغالبا ما يفضي هذا الضمور إلى رُهاب المشي والسقوط، وتقدر نسبة فقدان العضلات بما بين %3 و %8 كل 10 سنوات.
ط ـ مضاعفات ملازمة الفراش : يميل المسنون إلى ملازمة الفراش مدة طويلة مما يؤدي إلى أخطار كبيرة تصيب معظم أعضاء الجسم وتؤذي الأجهزة القلبية الوعائية والحركية والعصبية.
العلاجات والمفاهيم الدوائية
إن الإنسانية تعيش في إطار ثورة طبية عظيمة، ولم يبق بين الطب وقهر كل الأمراض والأوبئة سوى خطوة صغيرة. ومن ثمار هذه الثورة أن متوسط عمر الإنسان تحسن كثيرا خلال القرن الماضي، وارتفعت نسبة المسنين كثيرا في كل المجتمعات، ومن هنا اكتسب طب الشيخوخة المزيد من الاهتمام والتقدم.
وفي هذا الكتاب المفيد خطط وقائية وعلاجية تخفف من وطأة هذه القائمة الطويلة من الأمراض. ويمكن للقارئ أن يسترشد بهذه الخطط الدقيقة والعلمية الموجزة كي يعيش شيخوخة مريحة. وإضافة إلى الأدوية والأساليب الحياتية التي يوصي الكتاب باتباعها، فهو يصحح بعض المفاهيم المغلوطة حول استقلاب الأدوية وحرائكها وتوزعها في الجسم وسوء استخدامها بهدف الوصول إلى مفهوم الشيخوخة الحميدة، وأحيانا دون الاستعانة بالأدوية، بل بوساطة النشاط البدني والذهني والتأهيل الوظيفي، في الحياة العامة أو في المنتجعات، من أجل تحويل الشيخوخة وطب الشيخوخة إلى مرحلة خصبة من حياة الإنسان. ونصيحتي لكل من تقدم به السن وتجاوز الستين من العمر أن يقتني هذا الكتاب ويعود إليه، فهو مشفى وصيدلية وخريطة طريق لتجاوز هموم الشيخوخة التي سيصل إلى محطتها كل مخلوق، آجلاً أم عاجلاً.