زهير محمود حموي
كان للحضارة العربية الإسلامية نصيب مهم في مسيرة التطور العلمي والتقاني الذي نراه حالياً، كما كان لها قصب السبق في كثير من المعارف والعلوم النظرية والتطبيقية. وقد استفادت تلك الحضارة من الحضارات التي سبقتها، وأخذت عنها خلاصة ما وصلت إليه من تطور ورقي، لكنها لم تكتفِ بذلك، بل عكف علماؤها على البحث والترجمة والتأليف والابتكار والإبداع، فتركوا لنا تراثاً علمياً قيِّماً، قلَّ أن نجد له نظيراً في غيرها من الحضارات، كما أبدعوا نظريات علمية كانت الأساس لعلوم عصرية حديثة. وقد اعترف المنصفون من العلماء الغربيين بهذا، وشهدوا بمدى التطور والرقي والازدهار الذي وصلت إليه تلك الحضارة.
ومن الأمور اللافتة في التراث العلمي العربي ذلك التطور الذي حققه عدد من العلماء العرب في ميدان صناعة الحروف البارزة للمكفوفين، سواء من حيث لفت النظر إلى ضرورة تيسير القراءة على المكفوفين أو اختراع أول الحروف النافرة التي عرفتها البشرية.
ومن المعروف حالياً أن اختراع تلك الحروف البارزة ينسب إلى الفرنسي الكفيف لويس بريل الذي تمكن من تحقيق ذلك الإبداع الفذ في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، ثم تطورت تلك الحروف حتى غدت أمراً لا يستغني عنه أي كفيف، وبوابة له للانفتاح على العالم ومعرفة التطورات الحاصلة في جميع الميادين والمعارف.
ولاشك في أن البصر نعمة عظيمة أنعم الله بها على الإنسان، وهناك من الناس من حرم نعمة البصر ولم يحرم نعمة البصيرة؛ فألّف وصنّف وعلّم وأملى كُتب العلم، وكان نبراساً لغيره.
مساهمات عربية
تذكر المصادر التاريخية ثلاث مساهمات لبعض العلماء العرب في صناعة الحروف البارزة التي يتعامل بها المكفوفون، قبل أن يتوصل إليها الفرنسي بريل، وهذه المساهمات هي:
المساهمة الأولى:
تنسب هذه المساهمة لابن الشاعر «كشاجم» محمود بن الحسين (ت 360هـ = 971م) وكان من أهل (الرملة) بفلسطين، وقد تنقل بين القدس ودمشق وحلب وبغداد ومصر، واستقر في حلب. ولفظ (كشاجم) منحوت فيما يقال من علوم كان يتقنها: الكاف للكتابة، والشين للشعر، والألف للإنشاء، والجيم للجدل، والميم للمنطق، وقيل: لأنه كان كاتباً شاعراً أديباً جميلاً مغنياً، وتعلم الطب فزيد في لقبه طاء، فقيل (طكشاجم) ولم يشتهر به.
وقال المؤرخ الزركلي، نقلاً عن حبيب الزيات، في مجلة المشرق (35: 182) عن مخطوطة اطلع عليها؛ أن ابناً لكشاجم اسمه (أحمد) كان يقرأ فصّ (هو ما ينقش فيه بعض الكلمات) الخاتم باللمس دون أن يستطيع رؤيته.
والمعروف في اللغة أن النَّقْش هو النَّمْنَـمَة، ثم استعمل في الكتابة الدقيقة على فَصِّ الخاتم، ويكون بخط دقيق ناعم.
وتبين هذه الحادثة أن هنالك طريقة ما توصل إليها ابن ذلك الشاعر لمعرفة الكلمات النافرة أو المحفورة، لكن تفاصيل تلك الطريقة واستخداماتها لم تنل حقها من الدراسة، ولم تصل إلينا بصورة مفصلة، وهي بحاجة إلى من ينقب في تفاصيلها، ويبحث في جزئياتها، ليتوصل إلى صورة واضحة عنها.
المساهمة الثانية:
ذكر هذه المساهمة ابن حزم الأندلسي (ت456هـ = 1064م) عن مؤدبه (أحمد بن محمد بن عبدالوارث) الذي أخبره أن أباه صوّر لمولود له أعمى حروف الهجاء أجراماً من قير (أي: زفت) ثم ألمسه إياها، حتى وقَفَ على صورها بعقله وحسه، ثم ألمسه تراكبها، وقيام الأشياء منها حتى تشكّل الخط، وكيف يُستبان الكتابُ ويُقرأ في نفسه، ورفع بذلك عنه غصة عظيمة. ويعد هذا الاختراع نقلة مهمة في تاريخ القراءة عند المكفوفين، وفي مسيرة العطاء العلمي العربي. وتظهر هذه الحادثة التاريخية أن محمد بن عبدالوارث كان يهيئ لابنه حروف العربية، ويشكلها له بصورة مكبرة حتى يستوعب شكلها ورسمها، ويدركها بعقله وحسه، ومن ثم يستطيع قراءة الكلمات المشكلة من مثل هذه الحروف.. وبهذه الصورة استطاع ذلك الفتى الكفيف قراءة ما يُعدّ له بالطريقة التي يمكنه فهمها واستبياها.
المساهمة الثالثة:
هي محاولة زَيْن الدّين الآمِدي البغدادي، علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر (ت 714هـ= 1314)، وكان قد عمي في صغره، وكان آية في قوة الفراسة وحدة الذهن وتعبير الرؤيا، عارفاً بلغات كثيرة، منها الفارسية والتركية والمغولية والروميّة، احترف التجارة بالكتب وجمع كثيراً منها.
وكان كلما اشترى كتاباً أخذ ورقة وفتلها فصنعها حرفاً أو أكثر، من حروف الهجاء، لعدد ثَمَنِ الكتاب بحساب الجُمَّل (طريقة حساب في اللغة العربية تعتمد على معرفة ترتيب حروفها)، ثم يلصقها بطرف جلد الكتاب، ويجعل فوقها ورقة تثبتها، فإذا غاب عنه ثمنه مسَّ الحروف الورقية فعرفه.
وهذه أيضاً طريقة متطورة في صناعة الحروف البارزة للمكفوفين، ربما توجد لها نظائر أخرى في التراث العلمي العربي لكنها لم تصل إلينا حتى الآن.
عناية العرب والمسلمين بالمكفوفين
لم تكن هذه المساهمات التي قدمها العرب والمسلمون في مجال صناعة الحروف البارزة للمكفوفين هي الإنجازات الوحيدة في هذا المجال؛ إذ تذكر المصادر التاريخية إنجازات مهمة قدمت لهذه الشريحة، إذ وفرت لهم في مراحل مختلفة الرعاية الصحية والاجتماعية. فمثلاً كان العرب يوقدون نار الضيافة بخشب المندلي (وهو خشب ذو رائحة طيبة تفوح منه إذا أحرق، فتشم من مسافة بعيدة) ليهتدي إليها العميان. واشتهر عن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (ت 86 هـ) عنايته بذوي الحاجات الخاصة، وتقديم العون والمساعدة لهم، ولا سيما العميان؛ إذ أعطى كل ضرير قائداً.
ومن مظاهر عناية العرب بالعميان أنهم ألفوا منذ وقت مبكر كتباً ورسائل تلفت الأنظار إلى أهمية هذه الشريحة في المجتمع، وتشير وتشيد بإنجازاتهم ومساهماتهم في كل ميادين الحياة، وذلك مثل رسالة الجاحظ (البرصان، والعرجان، والعميان، والحولان). ورسالة الصفدي (نَكْتُ الهِمْيَانُ في نُكَتِ العُمْيَان).
كما ينبغي ألا ننسى مساهمات هذه الشريحة من المجتمع في التقدم العلمي، فهناك علماء وأدباء عميان مشهورون ألفوا كتباً كان لها أثر كبير، مثل كتب أبي العلاء المعرِّي، أحمد بن عبد الله (ت 449 هـ) صاحب التّصانيف السّائرة، ورسالة أبي القاسم البغدادي، عبد الله بن عبد العزيز (ت 250 هـ) المعنونة بـ (الكُتَّاب وصفة الدواة والقلم)، ومثل أبي الحسن ابن سِيْده، علي بن إسماعيل الأندلسي (ت 458 هـ). وهو إمام اللّغة، وهو أعمى ابن أعمى، يُضرب بذكائه المثل، الذي ألف كتاب (المخصص) الذي يعد من أهم معاجم المعاني.