د. أسامة الدعّاس
يتفاوت الأطفال في طبيعة ونوعية المشكلات الناجمة عن الإدراك، فبينما يعاني بعضهم مشكلة الإدراك البصري التي تتضمن اضطرابات التنظيم وتفسير المثيرات البصرية، فإن بعضهم الآخر يعاني مشكلة الإدراك السمعي التي تتضمن اضطرابات تفسير المثيرات السمعية، أو قد يعاني بعضهم مشكلة الإدراك الحركي التي تتضمن اضطرابات التناسق العام وتآزر أعضاء الجسم، وبخاصة أثناء الحركة والكتابة، ولعل بعضهم يعاني أكثر بسبب مشكلة إدراكية في الوقت ذاته.
يرى بعض الباحثين أن الإدراك هو القدرة على تنظيم التنبيهات الحسية الواردة والتعرف إليها وتحديد دلالاتها المعرفية ومعالجتها ذهنياً من خلال الخبرات السابقة، ويرى آخرون أنه عملية انتقاء متصلة لمثيرات محددة، وآخرون يرون أنه القدرة على تمييز المعلومات الحسية القادمة عن طريق الحواس. وبهذا نستطيع القول إن الإدراك عملية نفسية هدفها تحليل المثيرات القادمة عن طريق الحواس إلى الدماغ وإعطاؤها دلالات معرفية صحيحة محددة.
الإدراك و صعوبات التعلم
استخدم بعض الباحثين المعالجة الإدراكية لعلاج حالات الأطفال ذوي صعوبات التعلم في سن المدرسة، فتبيّن أن النشاطات الإدراكية تنظم وتفسر المثيرات السمعية والبصرية.ومن أجل هذا فإن الأطفال الذين يعانون بسبب صعوبات في العمليات الإدراكية يعانون إعاقة في التناسق البصري الحركي السمعي والعلاقات المكانية، ولا يستطيعون تفسير المثيرات ولا دلالاتها، ولا يستطيعون القيام بتطوير ملحوظ في المهارات الإدراكية كحركة العين واليد والتسلسل، ولذلك فإن برامج التقييم التربوي تقوم على تحديد المشكلات الإدراكية بالدرجة الأولى.
مشكلات صعوبات الإدراك
تتداخل الصعوبات الإدراكية فيما بينها إلى درجة أنها تشكل عائقاً جدياً أمام تعلم الأطفال، وتظهر عند الأطفال ذوي صعوبات التعلم بشكل واضح.
ويمكن للتدخل العلاجي أنْ يخفف من حدتها من خلال التعامل مع كل مشكلة من مشكلاتها على حدة. وسنبيّن فيما يلي خصائص كل مشكلة منها:
1 – مشكلة الإدراك البصري:
يرى بعض الباحثين أن صعوبات التعلم نتيجة مباشرة لمشكلات الإدراك البصري، التي تؤثر بشكل سلبي على اكتساب الطفل لقدرات الإدراك اللازمة للتحصيل الأكاديمي، فالأطفال المصابون باضطرابات الإدراك البصري يخلطون بين الحروف المتشابهة وأشكال الكلمات والرسوم الهندسية، وفي أداء المهمات المتعلقة بالإدراك البصري. ومن الجدير بالذكر أن الإدراك البصري يتناول التوجّه المكاني وإدراك الأشكال وخلفياتها والذاكرة البصرية، وغيرها من المشكلات. وتشكل العمليات الإدراكية أساس تنمية المهارات التعلمية عند الطفل، ولذلك لابد من استعراض بعض عمليات الإدراك البصري التي تؤثر بشكل مباشر في صعوبات التعلم عند الأطفال.
2 – أنواع مشكلة الإدراك البصري:
أ- اضطراب التمييز البصري: وهو خلل في القدرة التي تمكن الطفل من إدراك التشابه والاختلاف في المثيرات البصرية للموضوع الواحد، فصعوبة الإدراك الكلي المجمل للشكل وضعف التمييز بين الصورة الصحيحة والصورة المعكوسة للحرف والرقم والعدد والأشكال، إضافة إلى صعوبة التمييز بين الأشكال الهندسية والقيام بجمع العمليات الحسابية بطريقة خاصة؛ هذه كلها من صفات الأطفال المصابين بصعوبة الإدراك.
ب – اضطراب الإغلاق البصري: وهو ضعف في قدرة الطفل على إدراك الشكل الكلي بظهور أجزاء منه أمامه، وينطبق ذلك على الكلمات الناقصة أو الصور غير المكتملة. ولهذه العملية علاقة مباشرة بعملية القراءة، فالأطفال الذين يمتازون بالقدرة على استكمال صورة الكلمة من خلال معرفة بعض أجزائها يحصلون على درجات متقدمة في اختبار الإغلاق البصري أكثر من الأطفال الذين يعانون ضعفا في قراءة الكلمات الناقصة.
ت – اضطراب التمييز البصري بين الشكل وخلفيته: وهو مشكلة تؤثر في القدرة على التمييز بين الشكل المرسوم أو الصورة والخلفية التي تحيط بها وتقع خلفها، ويقع ذلك حتى مع الفقرات المقروءة، حيث لا يستطيع هؤلاء الأطفال التركيز على الفقرة المطلوبة بشكل مستقل عن الخلفية البصرية التي تقع وراء هذه الفقرة، فينشغل الطفل بهذا المثير ويتشتت انتباهه، وتتشوش إدراكاته البصرية.
ث- اضطراب إدراك العلاقات المكانية؛ وهو خلل في القدرة على إدراك علاقة الأشياء والأشكال بالفراغ المكاني، حيث يكتب الطفل ويقرأ الحروف في الكلمات بشكل معكوس، كأن يقرأ كلمة (قرب) بدلاً من (برق)، أو يكتب الحروف بعكس اتجاهاتها الصحيحة، فبدلاً من أن يتّجه في كتابة حرف (ر) من اليمين إلى اليسار، فإنه يتّجه به من اليسار إلى اليمين، وكذلك في كثير من الحروف، حيث يمكن تصويب الأخطاء من خلال قراءة المرآة، التي تمكننا من رؤية الحرف الذي كتبه الطفل مقلوباً في الورقة، معكوساً في المرآة بشكل صحيح. وكمثال على هذا قراءة مخطوطات ليوناردو دافنتشي الرسام الإيطالي المشهور.
- ج- اضطراب الذاكرة البصرية: وهو ضعف القدرة على استدعاء المخزون من الصور البصرية، كصور الحروف والأعداد والكلمات، والمهارات الكتابية في اللغة، وتهجئة الأصوات تباعاً لقراءة الكلمة المكتوبة. ومن أجل تحسين الذاكرة البصرية يمكن اتّباع ما يلي:
1 – نري الطفل حرفاً لثوانٍ ثم نطلب إليه إغماض عينيه واستعادة تخيله، ثم يفتح عينيه للتأكد.
2 – نري الطفل تباعاً بعض الحروف على بطاقات لثوان قليلة، ثم نخفيها، ونطلب إليه كتابتها.
3 – نري الطفل حرفاً أو كلمة أو شكلاً ثم نطلب إليه أن ينطقه.
4 – نطلب إلى الطفل أن ينتبه إلى تسلسل حروف في كلمات أو كلمات في جملة أو أشكال حتى يتمكن منها، ثم نزيلها، وعليه أن يسترجع كتابتها باستخدام ذاكرته البصرية.
3 – مشكلة الإدراك السمعي:
تتناول مشكلة الإدراك السمعي القدرة على تصنيف المثيرات السمعية في سياق ذي معنى محدد، ثم تنظيم هذا السياق وتذكره في الوقت والشكل المناسبين، حيث تتطلب النشاطات التي يقوم بها المعلم في الفصل المدرسي الاستجابة التلقائية السريعة المناسبة لتعليماته.
والطفل الذي يعاني اضطراباً في الإدراك السمعي لا يستطيع تمييز الأصوات المتشابهة من مثل (ت/ط) أو ( ط/ض) أو (ق/ك) وغيرها، أو أصوات الكلمات المتشابهة من مثل (مال/مات) أو (قاد/كاد) مما يوقعه في اللبس ويؤثر في إدراكه وفي قدرته على التواصل مع الآخرين، وفي تحصيله المدرسي والأكاديمي بشكل خاص، مع العلم أن مشكلات الإدراك السمعي ومشكلات الإدراك البصري يمكن التخفيف من آثارهما باتّباع أساليب علاجية مناسبة. ولمعرفة هاتين المشكلتين لا تكفي الاختبارات المخصصة لهذا الغرض، بل لا بد من ملاحظة الإدراك السمعي عند الطفل بالطريقة العملية الوظيفية أثناء عملها.
4 – أنواع مشكلة الإدراك السمعي:
ثمة أنوع عدة لمشكلة الإدراك السمعي، منها:
أ- اضطراب التمييز السمعي: وهو خلل في القدرة على تمييز أصوات حروف الكلمة التي تتشابه في النطق، وتحديد مواقعها في الكلمة، مما يتطلب مهارة في التمييز السمعي عند الطفل، وإلا فإنه سيعاني مشكلة فهم الكلمة المسموعة وإدراكها.
ب – اضطراب الإغلاق السمعي: وهو ضعف في القدرة على معرفة دلالة الكلمة حين يفقد الطفل جزءاً من أصوات حروفها، فلا يستطيع تخمين ما تكون عليه الكلمة من خلال سياق الكلام المتصل ذي المعنى المتجانس.
ت – اضطراب التمييز السمعي بين الصوت وخلفيته: وهو عدم القدرة على التركيز على الصوت الأساسي بوجود مثيرات مختلفة مرافقة له، كأن يفشل الطفل في تمييز أصوات كلام المدرس بوجود أصوات طلاب يتكلمون في الوقت نفسه، وهذا يتعلق بالانتباه الانتقائي وسرعة الإدراك.
ث – اضطراب التتابع أو التسلسل السمعي:وهو ضعف في القدرة على التوصل إلى التسلسل الصحيح للأصوات التي تشكل الكلمة، وذلك من مثل (كركدن/كردكن). وهذا يحصل عند وجود خلل في مفهوم قبل وبعد عند الطفل، أو ترتيب الكلمات التي تؤلف الجملة أو الأعداد المتسلسلة عشرياً تصاعدياً أو تنازلياً، مثل (30، 40، 50.. أو80، 70، 60..) أو إعادة سرد قصة بنفس ترتيب الأحداث التي ذكرت بها في الأصل.
ج – اضطراب الذاكرة السمعية: وهو ضعف في القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات الشفهية في الذاكرة القصيرة المدى (العاملة) أو الذاكرة الطويلة المدى على حد سواء، فعملية التعلم تقوم على احتفاظ الذاكرة القصيرة المدى بالمعلومات ونقلها إلى الذاكرة الطويلة المدى، ولكن إذا وقع خلل في الذاكرة القصيرة المدى فلن يحدث هذا التخزين في الذاكرة الطويلة المدى، وسيقع النسيان بشكل مستمر مما يضعف عملية التعلم عند الطفل إلى حد كبير.
وضع بعض المتخصصين نشاطات لتدريب الأطفال على المهارات البصرية والمهارات البصرية الحركية، معتمدين على تآزر الإدراك الحركي بين العين واليد عند الأطفال. ويمر ذلك بثلاث مراحل:
1 – يتم التدريب على مشاركة العين واليد في نقل المعلومات مما يجعلها أوضح.
2 – إدراك المعلومات بالعينين تحديداً، واستعمال اليد للتعزيز فقط.
3 – التقارب بين حركة العينين وحركة اليد، والاعتماد على حركة العينين للحصول على المعلومات نفسها التي يمكن الحصول عليها بحركة اليد.
ويمكن تحسين عملية الإدراك عبر استخدام أسلوب علاجي مناسب يراعي الحاجات الأساسية للطفل الذي يخضع للعلاج، ومنها ما يلي؛
1 – علاج مشكلة التمييز البصري: ويطلب المدرب إلى الطفل ما يلي :
أ – أن يعرف الاختلافات بين غرفة المدير والمكتبة والصف.
ب – أن يعرف خصائص الألوان المتعددة.
ت – أن يعرف المقارنة بين قلم الرصاص والحبر الجاف.
ث – أن يعرف الموازنة بين المثلث والمربع والدائرة والمستطيل والمكعب.
ج – أن يعرف المطابقة بين كل حرف أو رقم مع النموذج الأصلي الموجود.
2 – علاج مشكلة التمييز السمعي: ويطلب المدرب إلى الطفل ما يلي:
أ- التمييز بين أصوات مختلفة منبعثة من مسجل.
ب-التمييز بين أصوات: تصفيق، هاتف، جرس، أصابع، ماء.
ت-التمييز بين الأصوات السابقة مع خلفية من الضجيج.
ث-تمييز الكلمة المختلفة من بين مجموعة كلمات يسمعها تبدأ أو تنتهي بحرف متشابه، مثل: (سيارة، طيارة، خدود، عبّارة) أو (شرح، شرف، شرب، قال).
3 – علاج مشكلة التسلسل: ويطلب المدرب إلى الطفل ما يلي:
أ – إعادة قراءة ما سمعه شفهياً من المدرب بالترتيب الذي ذكر، أو من الأصغر إلى الأكبر، أو من الأكبر إلى الأصغر.
ب – تنفيذ مجموعة من المهمات وفق تسلسل سماعها شفهياً من المدرب.
4 – علاج مشكلة الإدراك الحركي: ويطلب المدرب إلى الطفل ما يلي:
أ – السير على عمود خشبي موضوع على الأرض لاكتساب التوازن ومعرفة الاتجاهات المناسبة.
ب – القفز فوق منصة لتكوين مفهوم حسيّ وتناسق جسمي وتوازن سليم.
ت – القيام بتدريبات إيقاعية جسدية مفيدة في التآزر الجسدي.
وأخيراً لا بد من القول إن كل هذه النشاطات والتدريبات ليست جميع ما يمكن أن يفعله المدرب مع الطفل، بل يمكن إضافة أمور أخرى إلى مجال التطبيق، شرط أن تكون الإضافات منضبطة تحت الشروط الملائمة لخصائص كل مشكلة من هذه المشكلات، بحيث يبين النشاط مستوى ملاءمته للحالة المراد علاجها، فقد يحتاج هذا النشاط إلى بعض التعديل أو الاستبدال، لعدم تلبيته متطلبات الحالة المعنية.