د. رشا فهمي البشير
أستاذ مساعد بكلية الدراسات التكنولوجية، الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب (الكويت)
لطالما كانت المواد الكيميائية جزءا رئيسيا من حياتنا اليومية وأنشطتنا الحياتية المعهودة؛ فجميع المواد الحية وغير الحية تتألف من مواد كيميائية، وكل المنتجات المصنعة تنطوي بصورة فعلية على استخدام عدد من تلك المواد. وتسهم معظم هذه المواد في تحسين نوعية حياتنا وصحتنا ورفاهيتنا إذا أحسنا استخدامها وتوظيفها بالصورة المثلى، بيد أن هناك مواد كيميائية أخرى شديدة الخطورة، وربما تؤثر سلباً في صحتنا وبيئتنا عندما يساء استخدامها.
وشاع في معظم دول العالم استخدام عدد من المواد الكيميائية للتخلص من ضحايا رجال العصابات وتجار المخدرات وغيرهم، وذلك لإخفاء آثار تلك الأفعال وعدم اكتشاف فاعليها، فيما كثر الحديث خلال السنوات العشر الماضية عن استخدام حمض الهيدروفلوريك في إذابة جثث الضحايا.
وهنالك عدد كبير من الجرائم الغامضة التي شهدتها دول عدة، وتم فيها إخفاء آثار الجريمة في التاريخ الحديث. ففي بريطانيا أذاب المجرم جون جورج هايغ في الأربعينيات من القرن العشرين ستة من ضحاياه باستخدام حمض الكبريتيك. وفي حادثة أخرى وجه الاتهام لشخصين يرجح أنهما ضابطان في جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية بمحاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا باستخدام مركب عضوي من الفسفور، مما أدى إلى أزمة دبلوماسية خطيرة بين روسيا وعدة دول أوروبية .
واستخدم تجار المخدرات المكسيكيون القواعد القوية لإذابة جثث ضحاياهم، وهي مكونة بشكل رئيسي من هيدروكسيد الصوديوم أو هيدروكسيد البوتاسيوم. وبأسلوب آخر استخدمت عصابات المافيا الأسيد لعدم ترك أي أثر خلفهم. وقد حقق منتجو الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية أرباحا طائلة من تناول هذا النوع من الجرائم الغامضة في أفلام ومسلسلات تثير في النفس الكثير من الإثارة والتشويق والرعب.
حمض شديد الخطورة
من الأحماض التي تستخدم في هذا الشأن حمض الهيدروفلوريك الذي يعد مركبا كيميائيا غير عضوي شديد الخطورة. ويتكون هذا الحمض نتيجة إذابة غاز الهيدروفلوريك في الماء، وصيغته الكيميائية هي HF ، ويؤدي تعادله إلى تكوين أملاح تُسمى الفلوريدات. وهو سائل عديم اللون ذو رائحة مهيجة، ويتبخر بسرعة ویطلق غازاً رائحته كريهة عند تعرضه للهواء. وهو حمض له صفة التآكل والإتلاف بدرجة عالية، وقد يتسبب في حروق خطرة مؤلمة للجلد والعيون والأغشية المخاطية. وربما لاتظهر الحروق الناتجة عن حمض الهيدروفلوريك المخفف في الحال، لكنها تظهر بعد فترة زمنية على شكل تقرحات عميقة.
ويتفاعل الهيدروفلوريك مع الزجاج والسيراميك والفخار والخرسانة والمطاط والجلود ومعادن ومركبات عضوية أخرى ويؤدي إلى تآكلها وإتلافها. وهو يؤثر في جزيئات السيليكون الزجاجي ويؤدي إلى حل الزجاج. وينتج غاز الهيدروجين بعد التفاعل مع المعادن وهو خطير ومتفجر، لذا، فإنّ الأوعية التي تُصنع من هذه المواد تعد غير مناسبة لتخزينه، ومن ثم، يخزن هذا الحمض عادة في حاويات بلاستيكية أو براميل مبطنة بالبولي إيثيلين، في حين يحذر من تخزينه في أسطوانات الصلب لأكثر من سنتين بسبب الضغط الزائد المحتمل من تكوين غاز الهيدروجين.
ويسبب حمض الهيدرفلوريك أضرارا صحية خطيرة لأنه مادة سامة مدمرة. وهذه الآثار تكون نتيجة لاختراق أيونات الفلوريد العدواني المدمر للأنسجة. فهي تهاجم أنسجة الجلد و العظام و تتسبب بأضرار جسيمة تستمر لعدة ساعات حتى يتم استهلاك كل الأيونات. وعند ملامسته الجلد قد تظهر منطقة حمراء وفيها لون أبیض أو رمادي نتيجة لتخثر الأنسجة. وعندما تخترق أيونات الفلوريد الجلد قد تسبب تآكل الأنسجة العميقة وتدميرها. وﻗﺪ ﻳﺆدي استنشاقه إلى تهيج اﻟﺠﻬﺎز اﻟﺘﻨﻔﺴﻲ واحتقان الرئتين بالسوائل، كما يؤدي ابتلاع كمية صغيرة منه إلى تأثيرات في أجهزة الجسم تشمل الغثيان أو القيء أو ألم المعدة أو عدم انتظام ضربات القلب، في حين ربما يكون مميتا أحيانا.
ويستخدم حمض الهيدرفلوريك في العديد من التطبيقات الصيدلانية والصناعية. وبصورة أساسية يستخدم في المعامل للحفر والتلميع في صناعة الزجاج والنحاس والبلور، وفي صناعة صفائح السيليكون التي تعد من أشباه الموصلات. كما يستخدم في المبردات، ومبيدات الحشرات، وأدوات المطابخ من أواني الفولاذ غير القابل للصدأ، وغيرها من المعدات الكهربائية والمصابيح.
ويستخدم أيضا محفزا لبعض العمليات الكيميائية في مصافي النفط والمفاعلات النووية ولإنتاج وقود عالي الجودة تكون نسبة الأوكتان فيه عالية، مما يزيد مقاومة البنزين للاحتراق المبكِّر عند اختلاطه بالهواء.
تآكل الأنسجة البشرية
لطالما كان هناك اعتقاد مفاده أن أفضل طريقة للتخلص من الجثث هي استخدام أقوى حمض يمكنك العثور عليه. لكن هذا غير صحيح؛ لأن مقياس قوة الحمض كيميائيا هو قدرته على التبرع بالبروتونات. وأقوى الأحماض في العالم تفعل ذلك دون أن تكون مسببة للتآكل. وتعد أحماض الكاربوران الفائقة أقوى بمليون مرة من حمض الكبريتيك المركز، ومع ذلك فهي لا تهاجم الأنسجة البشرية أو الحيوانية.
أما حمض الهيدروفلوريك فسام ومسبب للتآكل، لكنه في الواقع ليس بقوة الأحماض المائية الأخرى لأنه يقاوم التبرع بالبروتون، على عكس الأحماض المائية الأخرى التي تعد مانحًا جيدًا للبروتون. وهو يؤدي إلى تحلل بعض الأنسجة، لكنه يستغرق وقتًا طويلاً نسبيًا ولن يحول الجسم بالكامل إلى أشياء يمكن شطفها في البالوعة.
وتمرعملية إذابة الجثة بعدة مراحل ولا تحدث بشكل سريع. ففي البدء، وبعد وضع الجثة في محلول الحمض، يبدأ التأثير من خلال إذابة الأنسجة الحيوية حيث تتحلل مكونات اللحم عن طريق التحلل المائي، مثل البروتينات والكربوهيدرات والدهون والأحماض النووية. وأسرع ما يذوب من الجسم الشعر والأظافر؛ لأنهما يحتويان على نسبة عالية من بروتين الكرياتين الذي يتفكك بشكل سريع في الوسط الحمضي، لذا يصعب العثور على أي آثار من الشعر والأظافر عند إذابة الجثة . وإذابة العظام تحتاج إلى وقت طويل قد يصل إلى يومين أو أكثر. لكن يمكن اختصار الوقت إذا جرى رفع حرارة الغرفة وزيادة الضغط؛ وهو ما سيؤدي إلى إذابة العظام في غضون ساعات قليلة.
ويؤكد خبراء الطب الشرعي والكيمياء الحيوية أنه لا يمكن التخلص من الجثة بشكل كامل بطريقة استخدام الأحماض في عملية الإذابة، إذ تبقى هناك آثار مجهرية عالقة في المكان أو المجرى الذي سارت به العملية. وهذه الآثار قد تبقى لأشهر حتى التخلص منها بالشكل المطلوب.
تحلل أنسجة الضحايا
إن نوع وتركيز الحمض المستخدم في عملية التحليل يؤديان دوراً مهما في إسراع عملية التحلل. وحمض فلوريد الهيدروجين المائي، وهو الصورة الغازية للمركب مذابة في الماء، تتراوح قوته بين متوسط إلى شديد القوة بحسب درجة التركيز، وللأحماض العادية قدرة على إحداث فعل التآكل في الأنسجة البشرية لكن مدى التأثير يعتمد على نوع الحامض وقوة تركيزه. ومقارنة بأحماض مثل الهيدروكلوريك أوالكبريتيك أوالسلفوريك فإن حمض الهيدروفلوريك أشد قوة وأكثر سرعة في إذابة جثث الضحايا .
وتؤثر طبيعة العينة المراد تحللها في طول العملية، فالسوائل الحيوية – مثل الدماء – مثلاً لا تستغرق وقتاً ليحللها الحمض، أما الأنسجة كالكبد والعضلات وغيرها فتستغرق وقتاً أطول قليلاً، في حين تستغرق العظام وقتاً طويلاً للتحلل التام.
كما أن شكل العينة يؤثر في طول العملية اللازمة للتحلل التام، فكلما كانت العينات صغيرة أو مفرومة أو مطحونة ازدادت سرعة تحللها، وبالترتيب فإن أول ما يتحلل بالحمض هو السوائل الحيوية تليها الأنسجة الطرية ثم الأنسجة العضلية والقطع الكبيرة ثم العظم والأسنان في النهاية. كما أن استخدام الحرارة المرتفعة والتحليل في عبوات مغلقة تحت ضغط جوي مرتفع يختصر كثيراً من وقت العملية اللازم لتحلل العينة.
كشف جرائم القتل
هناك أسباب مختلفة أوردها خبراء الطب الشرعي تسهم في كشف جرائم القتل المصحوبة بالإذابة بالحمض، وهم يرون أنه لا يمكن للأحماض مهما كان نوعها وحدها تدمير “الدليل” بالكامل حتى في حالة الانتظار لأيام، لكنها تقوم بعملية تدمير جزئي وتترك آثاراً واضحة في العظام والأظافر وحتى الأنسجة العضلية. ويذكر الخبراء أن المشكلة هي في تحلل الخلايا تماماً بفعل الحمض وتحولها إلى مواد أولية مثل ثاني أكسيد الكربون والماء والنيتروجين والعناصر المعدنية، فالحل الوحيد هو الكشف عن بقايا الحمض أو العناصر المعدنية، كما يمكن الكشف عن نواتج التفاعل مع الحمض، والتي يدل اكتشافها على استخدام الحمض وطبيعة المادة التي تم تحليلها مثل نواتج تفاعل الحمض مع البروتين والكربوهيدرات والدهون وغيرها من المكونات الموجودة في الجسم البشري، وكل هذه النواتج يمكن الكشف عنها.
ويرى بعض الباحثين أن المخلفات المجهرية من الرفات البشرية تؤدي دورا مهما في الكشف عن الجريمة. وقد عثر هؤلاء، على سبيل المثال، على بقايا مجهرية للعظام على شكل أجزاء من العظام أو هياكل رقيقة الجدران أو بلورات فوسفات الكالسيوم، وكذلك مكونات الجسم التي تقاوم الذوبان بالأحماض مثل حصوات المرارة، والمكونات الأصيلة مثل الأسنان والغرسات. ويمكن لخبراء الطب الشرعي تحليل هذه المواد المتبقية وكشفها.
وأوضح باحثون آخرون أن هناك وسائل سريعة للكشف عن وجود الحمض أو أي آثار متبقية منه، وهذه الوسائل غير دقيقة وتشير فقط إلى أنه تم استعمال الحمض دون أي تفاصيل أخرى؛ بمعنى أنه لا يمكن من خلالها التعرف على الكمية المستخدمة أو التركيز. واستخدم هؤلاء الباحثون نوعا معينا من الزجاج وضعوه في محلول أو سائل يشتبه في وجود الحمض به، فأدى إلى حدوث خدوش على السطح، وهو ما يدل على وجوده في البيئة أو العينة.
ويمكن رصد مستلزمات عملية التحليل من خلال تتبع المواد الكيميائية والتحقق من الذين اشتروها من المتاجر والتوصل إليهم، كما أن الأحماض نفسها تظهر في مسرح الجريمة ويمكن اكتشاف عيناتها بسهولة.
يتضح من ذلك كله أنه يمكن التخلص من الرفات البشرية عن طريق إذابتها في الأحماض كحمض الهيدروفلوريك. وتبقى هذه الجرائم غامضة يصعب إثباتها أو نفيها من خلال المخلفات المجهرية مثل ما حدث مع معظم الضحايا التي تعرضت لهذه الأحماض. وهكذا، فإن لدى مجتمع الطب الشرعي مسؤوليات كبيرة في دراسة وإظهار أي نوع من البقايا المجهرية سيبقى بعد إذابة البقايا البشرية في الحمض، وفي إيجاد الطرق المثلى لاكتشاف هذه البقايا بصورة قاطعة لا تقبل الشك.