د. محمد عبدالقادر الفقي
البكتيريا اسم يثير الفزع عند سماعه، فقد ارتبط دائماً بالأمراض. ولكن ليس كل مفزع بعدو، وليس كل هادئ بمسالم. والبكتيريا، شأنها في ذلك شأن العديد من الأحياء المحيطة بنا، لها وجهان؛ أحدهما مفيد والآخر ضار. وقد عوّدتنا وسائل الإعلام على تضخيم ما هو مؤذ ومثير للحواس، وغض الطرف عما هو صالح ونافع. وقد صُوِّرت البكتيريا لنا وكـأنها شر مستطير، مع أن نفعها أكبر من إثمها، فمعظمها في واقع الأمر مفيد، بل إن وجودها ضروري لنا، ويشكل أحد روافد الصحة لأجسامنا.
يحتضن بدن كل إنسان أكثر من 500 فصيلة بكتيرية، يزيد عددها مجتمعة على عدد خلايا الجسم بمقدار 10 أضعاف. وإذا علمنا أن عدد الخلايا يراوح بين 60 تريليون و100 تريليون خلية (التريليون ألف ألف مليون)، فإن هذا يعني أن عدد البكتيريا في جسم المرء الواحد يراوح بين 600 و1000 تريليون (بِكْتِيرة).
ويصل وزن هذا العدد الغفير من البكتيريا إلى أكثر من كيلوغرام، ولو قُدِّر أن أمعاءنا خلت من تلك البكتيريا فقل على الحياة السلام؛ فهي تساعد على هضم الطعام وامتصاص بعض المعادن والفيتامينات، لاسيما فيتامين (ك) وحمض الفوليك (ب 9) وفيتامين (ب 12) والبيوتين (ب 7). كما أنها تحافظ على التوازن البيولوجي في الأمعاء، وتعمل على التخلص مما فيها من مخلفات الغذاء، وتساهم في حرق الدهون، وفي إنتاج مضادات الأكسدة، وفي تحويل السكر إلى حامض اللبن (حمض اللاكتيك)، وفي تخمّر الكربوهيدرات.
وإضافة إلى كل ذلك، فإنها تقوّي جهاز المناعة في الجسم، وتحارب البكتيريا الضارة، وتحدّ من أخطار التعرض للحساسية وسرطان القولون، وتنتج عدداً من الأحماض العضوية التي تحافظ على البيئة الطبيعية في الأمعاء.
الثورة البكتيرية الأولى
لآلاف السنين استخدم الإنسان البكتيريا – دون أن يدري كنهها أو شكلها- في تحضير الأطعمة المخمرة مثل اللبن والجبن والزبادي والمخللات والخل. وفي الوقت نفسه، كانت البكتيريا الضارة تفتك به وبأنعامه وزروعه وحيواناته الأليفة دون أن يعرف من أمرها شيئاً.
وكان العالم الهولندي أنطوني فان ليفينهوك هو أول من شاهد البكتيريا في عام 1676، وذلك باستخدام مجهر أحادي العين من تصميمه الخاص. وسماها «الحيوانات المجهرية».
وبعد نحو قرن ونصف، وبالتحديد في عام 1828، أطلق عالم الأحياء الألماني كريستيان جوتفريد إرنبرغ مسمى “بكتيريا” على تلك الحيوانات المجهرية. ولم تظهر أهمية اكتشاف ليفينهوك إلا عندما اكتشف الفرنسي لويس باستور علاقتها بالأمراض. ففي عام 1870 بدأت الثورة البكتيرية الأولى بعد أن أصبح جلياً أن البكتيريا وغيرها من الأحياء الدقيقة هي المسبب الرئيسي للأمراض.
وكان ممن ساهم في اندلاع شرارة هذه الثورة مع باستور عالم ألماني فذ هو روبرت كوخ الذي اكتشف البكتيريا المسببة لكل من الكوليرا والجمرة الخبيثة والسل، وحصل بسبب ذلك على جائزة نوبل في عام 1905. وكانت هذه الثورة ولا تزال أعظم إنجاز في تاريخ الطب. فقد كان لها تأثير كبير في خفض معدل الوفيات، وبخاصة في المدن. وبفضلها انتهت أسطورة الوباء الأسود (الطاعون)، وتم استئصال الجدري من الكرة الأرضية بأسرها، ولم تعد الأوبئة تعصف بالبشر كما كانت تفعل في العصور السابقة.
نحو ثورة بكتيرية جديدة
يرى كثير من راصدي الحركة العلمية في العالم أن البشرية اليوم على أعتاب ثورة بكتيرية جديدة، وهي ثورة تشمل كل المجالات بما في ذلك إنتاج الطاقة.
ففي مجال الزراعة يجري العمل على تعميم الاستفادة من البكتيريا المثبتة لنيتروجين الغلاف الجوي، بحيث لايقتصر عملها على المحاصيل البقولية، بل يشمل غير ذلك من المحاصيل، وبهذا يتم تقليل الاعتماد على الأسمدة الكيميائية.
وفي الوقت نفسه، تجرى التجارب على بعض أنواع هذه البكتيريا لتطوير قدراتها على تحمّل العوامل البيئية التي تحدّ من انتشارها في التربة، مثل الملوحة، وارتفاع مستوى الرطوبة، ونقص العناصر المغذية.
ولمقاومة الآفات الزراعية التي تتسم بمراوغتها ومناعتها تجاه المبيدات الكيميائية وقدرتها على التكيف مع التغيرات البيئية تجرى الدراسات على كيفية إبادة البكتيريا الموجودة في أمعاء تلك الآفات، وهي بكتيريا تساعدها على النمو لدورها في عملية الهضم.
فعلى سبيل المثال، يوجد نوع من الخنافس يهدِّد محصول الذرة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تهاجم يرقات الخنافس المحصول وتدمره. وقد أخفقت جميع الوسائل التقليدية في مكافحة تلك الآفة، بما في ذلك تغيير طرق زراعة الذرة. وبالبحث وُجِد أن البكتيريا الموجودة في أمعاء يرقات الخنافس طوّرت قدراتها على مقاومة عسر الهضم الذي يحدثه تناولها لأي جذور غير جذور الذرة، مما يجعلها قادرة على مواصلة حياتها. وبفهم ذلك كان الحل هو مكافحة تلك البكتيريا للقضاء عليها ومن ثم القضاء على عائلها.
ومن ناحية أخرى، يجري حالياً تطوير أساليب استخدام بعض أنواع البكتيريا كبديل للمبيدات الحشرية في مكافحة الآفات التي تهدد المزارع. فعلى سبيل المثال، نجحت التجارب التي أجريت على الاستفادة من نوع من البكتيريا العصوية تدعى تورينجيانسيــس Bacillus thuringiensis في إبادة بعض حرشفيات الأجنحة (مثل الفراش والعث). وتمتاز هذه البكتيريا بسرعة نموها وتكاثرها وقدرتها على استخدام مختلف الوسائط الغذائية في النمو. وأظهرت الدراسات أنها لا تنتج مواد سامة للنبات ولا تحدث تأثيرات سلبية في الوسط البيئي، وليس لها قدرة تطفلية على الإنسان والحيوان، ولا يوجد خطر من هذه البكتيريا على الحياة البرية، أو الحشرات النافعة. ولهذا؛ انتشر استعمالها هذه الأيام في مقاومة الآفات الزراعية، حتى إنها تمثل نحو %90 من مبيدات الحشرات المستخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي مجال الطب يسعى بعض العلماء إلى فهم كيفية تأثير أنواع معينة من البكتيريا على جسم الإنسان. ويعتقد كثير من الباحثين أنهم يستطيعون تحديد الخليط المناسب من البكتيريا الضرورية لعلاج الحالات المرضية المختلفة. ويسعى آخرون إلى تطوير جزيئات تحاكي التفاعل النافع الذي يتم بين البكتيريا والمضيف، أو توقف عمل الأنواع الضارة من البكتيريا.
وتبحث بعض المراكز المتخصصة في هندسة بعض أنواع البكتيريا وراثيا لإنتاج الإنسولين البشري، ومن ثم حل مشكلة مرضى السكر. وفي برومفيلد بولاية كولورادو الأمريكية تقوم شركة ميكروبيوم ثيرابيوتيكس Microbiome Therapeutics المتخصصة في مجال التكنولوجيا الحيوية، بإجراء تجارب اكلينيكية على جزيئين صغيرين يعملان على بكتيريا الأمعاء النافعة لمساعدة مرضى السكر على امتصاص الإنسولين بشكل أسهل.
كما يجري العمل في إنتاج كبسولات البكتيريا المفيدة المصنعة لاستخدامها في علاج الحالات التي يصعب علاجها بالأدوية الكيميائية. وقد أصبحت بكتيريا الأمعاء النافعة (البروبايوتيكس Probiotics) من العلاجات الشائعة حديثاً.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية تظهر الإعلانات التلفازية مشاهير يروجون للبن الزبادي المخلوط ببكتيريا البيفيدو Bifidobacterium، ويتوافد المستهلكون على شراء حبوب تحتوي على بكتيريا اللاكتوباسيلاس Lactobacillus للقضاء على اضطرابات الأمعاء وأمراض أخرى.
ويجري زرع بعض أنواع البكتيريا المفيدة في أجسام المرضى لتحل محل البكتيريا الضارة المسببة للمرض. فبعض مرضى التوحد – على سبيل المثال – يصابون بحالات إسهال شديدة لا تفلح معها معظم الأدوية التقليدية بسبب وجود بكتيريا الكولستريديوم Clostridium داخل الجهاز الهضمي لهم. ولعلاج مثل هذه الحالة، التي قد تودي بحياة المريض، يتم تعديل التركيبة البكتيرية في أمعاء المريض عن طريق زراعة أنواع معينة من البكتيريا المفيدة في القولون تؤخذ من شخص سليم.
وفي المجال البيئي تتم الاستفادة من قدرة البكتيريا في تحليل تشكيلة واسعة من المركبات العضوية في تحويل النفايات إلى أسمدة عضوية وطاقة، وفي المعالجة الحيوية للملوثات. وأصبح من الأمور الشائعة حالياً استعمال بعض فصائل البكتيريا في هضم الهدروكربونات لتنظيف البقع النفطية. ويتم إضافة المغذيات اللازمة لنمو هذه البكتيريا في مواقع تلك البقع حتى تنمو تلك البكتيريا وتتكاثر وتنظف الموقع الموبوء مما فيه من نفط.
وفي مجال إنتاج الطاقة المتجددة تجرى البحوث على تسخير أنواع من البكتيريا المعدَّلة وراثياً لإنتاج وقود البروبان. فقد قام الباحثان باتريك ر. جونز وم. كليم أختار وزملاؤهما بإدخال جينات إنزيمات مختلفة من أنواع بكتيرية مختلفة إلى بكتيريا الغائط المعروفة باسم إيشريشيا كولاي Escherichia coli كي تتمكن الأخيرة من تحويل الغلوكوز إلى البروبان. ومن خلال التحوير الوراثي وزيادة مستويات الأكسجين التي تعرضت لها البكتيريا المعدلة وراثيًّا، عزَّز الباحثون إنتاج البروبان بكميات كبيرة. وكما هو معروف يُعدُّ البروبان وقوداً حيوياً مثالياً؛ نظراً لكونه غازاً يمكن فصله عن وسط الاستنبات، كما يمكن إسالته بسهولة؛ بغرض تخزينه.
ومنذ أعوام قليلة عثر الباحثون على أنواع من البكتيريا المُوَصِّلة للكهرباء في الرواسب البحرية. وثمة أدلة قاطعة على وجود علاقة بين خيوط طويلة من مجموعة بكتيرية غير معروفة سابقاً وبين التيارات الكهربائية التي تصاحب التفاعلات الجيوكيميائية التي تحدث بمعزل عن بعضها في مختلف طبقات الرواسب البحرية. وتنتمي هذه البكتيريا إلى عائلة البكتيريا المختزلة للكبريت desulfobulbacea، وتبين أن بإمكان تلك البكتيريا نقل تيارات كهربائية خلال مسافات سنتيمترية.
وشجع هذا الاكتشاف على دراسة إمكانية توظيف تلك البكتيريا في العديد من الأجهزة الكهربائية والإلكترونية. ومن المتوقع أن يغير ذلك من تقنية نقل الطاقة السائدة حاليا. كما يمكن توظيف تلك البكتيريا في استهلاك غاز كبريتيد الهدروجين السام، ولو حدث ذلك فسيحل مشكلة كبرى يواجهها العاملون في إنتاج النفط من مكامنه المحتوية على هذا الغاز.
ولا تزال الأبحاث تجرى على قدم وساق في المعاهد والمختبرات لفتح آفاق جديدة لاستخدامات البكتيريا في شتى مجالات الحياة. ومع أن كثيراً من نتائج هذه الأبحاث لم يعمم تطبيقها على نطاق كبير، فإن من المؤكد أن الثورة البكتيرية الثانية بدأت بالفعل، وستؤتي كل ثمارها المرجوة بعد حين. >