د. محمد حلمي
باحث في مجال بيولوجيا النظم والمعلوماتية الحيوية (كندا)
(العدد 113، إبريل-يونيو، 2021)
شهد النصف الثاني من القرن العشرين مجموعة من الاكتشافات العلمية في مجالات العلوم البيولوجية والطبية أدت إلى إمكانية الوصول إلى مستويات غير مسبوقة من فهم ودراسة الظواهر البيولوجية ودراسة الأمراض ومسبباتها. فقد شهدت تلك الفترة اكتشاف المادة الوراثية (DNA وRNA) وتصويرها وعزلها وفهم كيفية تضاعفها وآليات إصلاح أعطابها طبيعياً داخل الخلية. كما شهدت تطوراً موازياً على مستوى دراسة البروتينات وتركيبها وما يطرأ عليها من تغيرات بعد عملية الترجمةpost-translational modifications، وتأثير ذلك في تغيير وظيفة البروتين أو جعله أكثر ملاءمة لوظيفته.
وبالتوازي مع الخطوات العملاقة التي خطاها العلم على مستوى دراسة المادة الوراثية والبروتينات، فقد خطا العلم خطوات كبيرة في طريق دراسة وفهم عمليات الأيض ونواتجه metabolites. وجميع هذه الخطوات باتت ممكنة فقط بسبب تقدم كبير في علوم الكيمياء وطريق التحليل وآلياته، التي أدت إلى خفض مدة وتكلفة التحاليل المختبرية اللازمة مع زيادة دقتها، مما جعلها أكثر توفراً، وأدق في نتائجها، ومن ثم فقد أهدت العلماء والباحثين وسائل أساسية مكنتهم من تحقيق الإنجازات المذكورة.
وظهر في تلك الفترة الجيل الأول من تقنيات دراسة تتابع الجينوم genome sequencing، واستخدام مطياف الكتلة mass spectrometry في دراسة وتحديد تتابع الأحماض الأمينية في البروتينات، وهو ما فتح مجالات جديدة في علم كيمياء البروتين. كما استخدمت التقنيات نفسها في دراسة الأيض، مما أتاح للعلماء الفرصة للتعرف على الإنزيمات والمركبات التي تدخل في عمليات الأيض المختلفة أو تنتج منها.
وعلى الرغم من ذلك فقد اقتصرت معظم الدراسات على جين أو بروتين واحد أو مجموعة صغيرة من الجينات أو البروتينات؛ لأن وسائل الفحص المختبرية كانت تعتمد على طرق فحص منخفضة الإنتاجية. واستمر ذلك حتى أواخر القرن العشرين حينما ظهرت مجموعة من وسائل الفحص المختبرية عالية الإنتاجية كان لها فضل كبير في فتح آفاق جديدة للبحث العلمي في البيولوجيا والطب، وظهور فروع جديدة من العلوم، بل ظهور علوم جديدة بالكامل.
ومن أهم التقنيات التي ظهرت في تلك الفترة الجيل الثاني من تقنيات دراسة تتابع الجينوم، التي أصبحت التقنية الأساسية في دراسة الجينات ومكنت الباحثين من دراسة جميع المحتوى الوراثي للخلية في تحليل واحد، وهو ما صار معروفاً بعدها بعلم الجينوم genomics. كذلك ظهرت تقنية دراسة البروتينات عن طريق مطياف الكتلة عالي الإنتاجية التي مكنت العلماء من دراسة جميع المحتوى البروتيني للعينة في تحليل واحد، وهو ما عرف فيما بعد بعلم البروتيوم proteomics. واستخدم مطياف الكتلة أيضاً في دراسة نواتج الأيض بصورة عالية الإنتاجية مقدماً علم دراسة الأيض ونواتجه metabolomics.
وقدمت هذه التقنيات وسائل تحليل ودراسة مكنت العلماء من بلوغ آفاق جديدة، لكنها طرحت عليهم تحديات من نوع جديد أهمها حجم البيانات الضخم الناتج من هذه الأجهزة وكيفية التعامل معها، وانخفاض دقة النتائج نتيجة للتوسع الكبير في عدد الجينات أو البروتينات أو نواتج الأيض في التحليل الواحد. وهذا الأمر أدى إلى الحاجة إلى علم المعلوماتية الحيوية وعلم الإحصاء الحيوي ليكملا مهمة فهم نتائج تلك الدراسات وتحليلها.
آليات حديثة في البحث العلمي
تركزت الدراسات قبل ظهور طرق الدراسة عالية الإنتاجية على جينات أو بروتينات مفردة أو على عدد قليل منها. لكن ظهور وسائل الدراسة الحديثة مكن من دراسة آلاف الجينات أو البروتينات في وقت واحد، ومن ثم اختلفت طرق البحث العلمي وتصميم التجارب بشكل جذري. وقبل ذلك التطور كان الباحث يلاحظ الظاهرة أو المشكلة محل الاهتمام ثم يضع نظرية لأسباب حدوث الظاهرة أو تفسيرها أو أسباب حدوث المشكلة وطرق حلها. ومن ثم، يصمم الباحث دراسة تتكون من عدة تجارب تهدف إلى اختبار النظرية الموضوعة. عند نجاح التجارب في إثبات صحة النظرية يصبح لدى الباحث إجابة واضحة ومؤكدة عن تفسير الظاهرة أو سبب المشكلة محل البحث.
وظل البحث العلمي قائما على هذه الطريقة التي تعرف بالنهج الاختزالي reductionist approach، مركزاً في الغالب على جزء من النظام البيولوجي لدراسته باستفاضة. ومع تراكم الدراسات في نظام معين يمكن تجميعها معاً لتكوين صورة مُجَمّعة عن النظام ككل. لكن ظهور الآليات الحديثة عالية الإنتاجية تسبب في نقلة نوعية في آليات البحث العلمي، إذ تؤدي هذه الآليات إلى ظهور نتائج التجارب أولاً ثم يتم وضع النظرية بناء على ما أظهرته النتائج وتم اكتشافه خلال تحليل البيانات الضخمة الناتجة من هذه التجارب. وهنا ظهر ما يعرف بالبحث العلمي القائم على الاكتشاف discovery-driven scientific research، الذي يعتمد على الحصول على كم كبير من البيانات عن الظاهرة (المشكلة أو المرض) أولاً، ثم تحليلها لفهم الظاهرة (أسباب المشكلة أو علاج المرض على سبيل المثال).
ومع تطور ونضج أدوات حاسوبية من خلال المعلوماتية الحيوية والإحصاء أمكن دراسة الظاهرة نفسها وفق عدة مستويات مختلفة، مثل دراسة الجينوم والبروتيوم معاً فيما يعرف بالتحاليل البروتيوجينومية التي لها عدة تطبيقات، منها دراسة بروتينات وجينات أورام السرطان معاً وتسمى onco-proteogenomics.
بيولوجيا النظم
ونتيجة لتوفر هذا النوع من أدوات البحث العلمي وما يقدمه من فرص غير مسبوقة لدراسة النظم البيولوجية بشكل موسع، ظهر اتجاه للاستعاضة عن النهج الاختزالي السائد بنهج شمولي holistic approach، يعتمد على دراسة النظام ككل بدلاً من دراسة أجزائه بشكل منفصل. وأطلق على هذا الاتجاه الجديد بيولوجيا النظم.
تختلف المصادر حول بداية ظهور مصطلح بيولوجيا النظم، فيرجع بعض الباحثين أول ظهور للمصطلح إلى أواخر ستينات القرن العشرين علي يد العالم الروسي ميهالو ماساروفيك، في حين يرجعه بعضهم إلى منتصف السبعينات على يد العالم الفرنسي فرانك جاكوب حين وصف دراسة البيولوجي بأنها “دراسة نظام داخل نظم”. وتوجد محاولات موثقة لمحاولة دراسة النظم البيولوجية على مستوى النظام ككل يرجع بعضها إلى النصف الأول من القرن العشرين. أما ظهور هذا المجال من الأبحاث بشكله الحالي فيعزى إلى العالم الياباني هيراوكي كيتانو الذي نشر كتاباً في عام ٢٠٠١ بعنوان “أساسيات بيولوجيا النظم” تلاه في العام التالي بمقالة في مجلة Science بعنوان “بيولوجيا النظم: مقدمة موجزة” وآخر في مجلة Nature في العام نفسه بعنوان “بيولوجيا النظم الحاسوبية”. ومن ثم، ينسب مولد علم بيولوجيا النُظم بشكله الحديث إلى آراء كيتانو، على الرغم من وجود العديد من الأبحاث في المجال قبل تبلوره كمجال بحثي جديد ومستقل يهدف إلى التوصل إلى فهم شامل للنظام البيولوجي. لكن، ما هو النظام؟ وكيف يتم تحديده؟ هل هو الكائن ككل أم الخلية أم إحدى عُضَيَّاتها؟
يرجع تعريف كلمة “نظام” في المجالات العلمية إلى نظرية هندسية تسمى نظرية النظم Systems theory. وعلم بيولوجيا النظم هو تطبيق لهذه النظرية في مجالات البيولوجيا والطب. تُعَرِّف النظرية النظام بأنه مجموعة من المكونات المترابطة والمتفاعلة معاً والمعتمد بعضها على بعض. ويشمل التعريف في هذه الحالة النظم الطبيعية أو تلك التي من صنع الإنسان. لتوضيح هذا التعريف، حتى يمكن تطبيقه في حالة البيولوجيا، فإن النظام يعتبر إطارا أو وعاء يشمل داخله مجموعة من المكونات تربط بينها علاقات ما. ومن ثم، فالنظام محل الدراسة قد يكون وظيفة ما تؤديها الخلية، وكل ما يرتبط أو يؤدي دورا ما في أداء هذه الوظيفة هو جزء من النظام. وأما تفاعل هذه المكونات معاً وتأثير بعضها في بعض فهو العلاقات التي تربط بينها. وبالمثل، فالمسارات الحيوية biological pathways داخل الخلية قد تكون النظام، ورد الفعل المناعي ربما يكون النظام، والخلية بالكامل قد تكون النظام؛ أي إن الأمر كله متعلق بمادة الدراسة التي يستهدف الوصول إلى فهم شامل لها.
مراحل دراسة النظم البيولوجية
إن التوصل إلى الفهم الشامل للنظام يقتضي المرور بأربع مراحل هي:
١- مرحلة تحديد النظام: تتضمن تحديد الإطار وما بداخله من مكونات والعلاقات بينها.
٢- مرحلة تحليل النظام: تهدف إلى فهم سلوك مكونات النظام تحت الظروف المختلفة، وكيفية تغير العلاقات بينها وتأثير كل منها في الآخر.
٣- مرحلة التحكم في النظام: تأتي نتيجة للمرحلتين الأوليين، وتهدف إلى إمكان تغيير سلوك النظام مثل إيقاف نمو السرطان أو إنتاج كمية أكبر من مضاد حيوي ما.
٤- مرحلة تصميم النظام: وفيها تصل المعلومات المتراكمة عن النظام إلى درجة تسمح بإعادة هندسته، بحيث يصبح نظاما جديدا أو يكتسب خواص جديدة، مثل مشاريع هندسة الجينوم.
لا يشترط أن تقوم جهة واحدة أو مشروع بحثي واحد بجميع المراحل المذكورة. بل الواقع أن ذلك في منتهى الصعوبة، وقد يستلزم تكاليف وخبرات بشرية يصعب توفيرها، ومن ثم فالأمر يكون تراكميا؛ أي إن هناك مشروعا بحثيا قد يهتم بدراسة وتعريف جميع البروتينات التي تؤدي دورا مهما في رد الفعل المناعي تجاه الإصابة بفيروس ما، في حين يهتم مشروع آخر بدراسة رد الفعل المناعي على المستوى الجيني، ثم يكون هناك مشروع ثالث ليربط المستويين (الجيني والبروتيني) معاً، فيما يتخصص مشروع رابع في استخدام هذه المعلومات المتراكمة لإيجاد آلية لتحسين رد الفعل المناعي في حالة الإصابة بالفيروس، وهكذا.
وأفضل مثال على ذلك هو مشروع الخلية ذات الجينوم المُصَنْع مختبرياً الذي قدمه علماء معهد كريغ فينتر بالولايات المتحدة قرب نهاية العقد الماضي. في ذلك المشروع، استطاع العلماء تصميم جينوم خلية بكتيرية بالكامل على الحاسوب ثم تصنيعه مختبريا ونقله إلى خلية حية حيث قضى على جينوم الخلية الأصلي، ثم بدأ باستخدام آليات الخلية لتصنيع نسخة منه. وانقسمت الخلية بالفعل معطية خليتين جديدتين تحمل كل منهما نسخة الجينوم المصنع. ثم توالى انقسام الخلايا البكتيرية مكونة مستعمرة من بكتيريا جديدة لم تكن موجودة من قبل. ويبدو الأمر كما لو كان علماء معهد كريغ فنتر قد أنجزوا الأمر كله، لكن الواقع أن ما فعلوه هو المرحلة الرابعة فقط (تصميم النظام) في حين أنجز المراحل الثلاث الأولى علماء من جهات مختلفة على مدار عدد من السنين. على سبيل المثال، احتوى الجينوم المصنع على ١٢٧ جينا فقط، جميعها جينات أساسية؛ بمعنى أن توقف أحدها يعني موت الخلية فوراً. إذاً، كيف عرف علماء معهد كريغ فنتر هذه المعلومة؟ عرفوها من دراسات سابقة عن الحد الأدنى للجينات بدأها العالم الياباني ميتسوهيرو إيتايا في منتصف تسعينات القرن العشرين، وعرفوا الجينات الـ١٢٧ الأساسية من دراسة أخرى أجراها العالم الياباني هيروتادا موري عبر دراسة جميع جينات بكتيريا إي كولاي (أكثر من ٤٠٠٠ جين) ليتوصل إلى قائمة بالجينات الأساسية، وهو ما يمثل المرحلتين الأولى والثانية، إضافة إلى عدد يصعب حصره من الدراسات التي أجريت على البكتيريا المختلفة لفهم سلوكها ومعرفة كيفية التحكم فيها، وهي المرحلة الثالثة. ثم أتت مجموعة معهد كريغ فنتر لتستخدم كل ذلك من أجل إجراء المرحلة الرابعة في نموذج مثالي لأبحاث بيولوجيا النظم.
Distinct
تتعدد تطبيقات بيولوجيا النظم في مجالات البيولوجيا والطب، فقد قدم هذا الإطار الجديد للدراسة مستوى فهم غير مسبوق لأمور عدة مثل آلية عمل الأدوية، وكيفية حدوث الأمراض، وآلية حدوث مقاومة الأدوية بعد فترة من تناول نفس الدواء، والعلاقة بين العائل والطفيل أو الكائن الممرض، وفهم معمق الشبكات الحيوية داخل الخلايا (شبكات تفاعل البروتينات وشبكات تفاعل الجينات). كما قدم المجال إسهاماً عظيماً بإنتاج كمية كبيرة من البيانات عن النظم البيولوجية المختلفة مصحوبة ببرامج حاسوبية مناسبة لتحليلها، وطرق إحصائية جديدة أنسب لدراستها، وقواعد بيانات ضخمة لتخزين واستدعاء جميع هذه البيانات، وخوادم إنترنت سحابية مدعومة ببرامج تحليل هذا الكم الهائل من البيانات.