بقلم: م. محمد الحسن
لربما لم يخطر ببال مبتكر الإنترنت تيم بيرنرز لي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي أن تصبح هذه الشبكة العنكبوتية ملاذ العالم في التواصل والتعامل، ومنبرهم الأساسي في التخاطب وتبادل الآراء والأفكار، والمنصة التي لاغنى عنها للمؤسسات والشركات في ممارسة أعمالها وصناعة منتجاتها وتسويق خدماتها، والتحكم في أجهزتها وآلاتها ومعداتها.
و يوما بعد يوم أخذت تطبيقات هذه الشبكة المنتشرة في كل صقع وركن وزاوية تشهد تطورا مطردا، واستخداما واسعا، فدخلت مجالات عديدة، وميادين كثيرة، بدءا من أبسط الأمور وانتهاء إلى أكثرها تعقيدا. ولا أحد يعلم بدقة ما الذي يحمله المستقبل من آفاق واعدة لهذا الابتكار المدهش.
ثورة دماغية
ومن التطبيقات الحديثة للشبكة العنكبوتية ما تعارف العالم على تسميته (إنترنت الأشياء) الذي يشير إلى شبكة متنامية من الأشياء المادية المتّصلة بالإنترنت، والتي تتميز بوجود عنوان IP مخصّص لها كسائر الأجهزة التقليدية المستخدمة في الحياة اليومية، كالحواسيب المحمولة والهواتف الذكية. وهذه الأشياء ربما تتمثل في أجهزة الإنذار المنزلية، وأجهزة التحكم في الحرارة والسيارات، وآلات البيع، إضافة إلى الكثير من الأشياء التي يُتوقّع أن تغزو حياتنا اليومية، كالساعات والنظارات الذكية.
وهذا المصطلح الجديد يشير إلى ارتباط جميع ما حولنا من أشياء بشبكة الإنترنت، بحيث يمكن معرفة حالتها ومعلومات عنها وقراءة تقارير خاصة بها وبطريقة عملها. وهناك الملايين من الأجهزة المتصلة بالإنترنت حالياً، لكنها تعتمد على الإنسان في إمدادها بالمعلومات، في حين يستهدف (إنترنت الأشياء) جعل كل تلك الأشياء تتواصل مع بعضها دون تدخل بشري.
وإذا أمكن إطلاق مصطلح (ثورة) على (إنترنت الأشياء)، فإنها تعد حلقة في سلسلة الثورات التكنولوجية التي شهدها العالم في العقود الخمسة الماضية، ويتوقع أن يشهد ثورات مشابهة أيضا في السنوات القليلة المقبلة، لكن بوتيرة أسرع بكثير من الوتيرة التي سارت عليها الثورات الماضية.
وسيكون لهذه الثورة التكنولوجية الجديدة تأثير كبير في الاقتصاد؛ إذ إنها ستزيد الإنتاج وتقلص الكلفة الاقتصادية، مثل النقل والتخزين واستهلاك الطاقة. فعلى سبيل المثال ستقوم أجهزة الاستشعار بضبط التدفئة الداخلية، والتبريد والمكيفات الهوائية في المنازل وأمكنة العمل، مما يسهم في الحد من تبديد الموارد الاقتصادية.
تطور هائل
وأول باحث استخدم لفظ (إنترنت الأشياء) هو كيفن أشتون في عام 1999، وهذا الباحث يعد من الروَّاد في مجال الاتصالات والحوسبة، فهو مؤسس أول مركز بحثي في معهد ماساتشوستس للتقانة. وكانت فكرته أن يتم ربط بعض الأجهزة الرقمية التي توجد حولنا، كـالأدوات المنزلية الكهربائية، بطريقة تسمح لنا بمعرفة وضعها ومعلوماتها الدقيقة دون الحاجة إلى أن نكون بالقرب منها.
لكن هذه الفكرة سرعان ما حظيت باستحسان الشركات الكبرى التي أعادت صياغة هذه الفكرة وطورتها لتشمل (إنترنت الأشياء) الأشخاص والحيوانات والملابس، وربط الأجهزة على مستوى الشبكة العالمية وليس عبر شبكات محلية صغيرة، واتصال الأجهزة المرتبطة فيما بينها، بحيث تقرر إرسال البيانات أو استقبالها دون تدخل الإنسان في عملها. وبينما تضاعف الاستثمار في الشركات الناشئة في مجال إنترنت الأشياء 10 مرات خلال السنوات الخمس الماضية، تتوقع دراسات متخصصة أن تبلغ إيرادات سوق إنترنت الأشياء أكثر من 600 مليار دولار في عام 2020، وأن يستثمر قطاع الأعمال التجارية نحو 250 مليار دولار في هذه التكنولوجيا خلال السنوات الخمس المقبلة، %90 منها سيذهب للاستثمار في الأنظمة والبرمجيات التي تشغل الأجهزة الخاصة بها.
مستقبل واعد
تظهر البيانات المتخصصة أن عدد الأجهزة المتصلة بالإنترنت زاد من 500 مليون جهاز في عام 2003 إلى 12.5 مليار جهاز في عام 2010، ويتوقع بلوغها نحو 30 مليارا في عام 2017، لتبلغ بحلول عام 2020م نحو 35 مليار جهاز، أي إن معدل نموها يفوق النمو المحتمل لعدد سكان العالم بأكثر من سبعة أضعاف. كما أن نمو حجم سوق إنترنت الأشياء سيكون أكبر من سوق الهواتف المحمولة والحواسيب والأجهزة اللوحية بمقدار الضعفين.
ويتوقع الاقتصاديون بلوغ عدد السيارات المتصلة بالإنترنت نحو 250 ألف سيارة عام 2020، منها عشرة آلاف سيارة ذاتية القيادة، وأن تضيف تكنولوجيا إنترنت الأشياء ما بين 10 و15 تريليون دولار إلى إجمالي الناتج المحلي العالمي خلال العشرين عاماً المقبل.
وتوقعت مجلة (فوربس) الاقتصادية الشهيرة شكل الحياة المستقبلية مع إنترنت الأشياء، إذ ستصبح السيارة قادرة على تنزيل جدول مواعيد اجتماعات سائقها باستمرار من الإنترنت، ومن ثم تقود ذاتها إلى أمكنة الاجتماعات، وقد ترسل إشارات إلى الطرف الآخر إذا واجهت أزمة سير، وتأخرت عن الموعد، فيما ستقوم الثلاجات بمراقبة كميات الطعام داخلها، والاتصال بمحال بيع المواد الغذائية لطلب أنواع الطعام التي شارفت على النفاد. وستتيح هذه التكنولوجيا للإنسان المزيد من التخطيط ومراقبة أنماط الإنتاج والاستهلاك بطريقة جديدة ودقيقة.
ويبدو أن أكثر المستفيدين والمستثمرين في تكنولوجيا إنترنت الأشياء هو قطاع الصناعة الذي يتوقع أن تبلغ قيمة استثماراته نحو 100 مليار دولار بحلول عام 2018، ويحتل قطاع المواصلات والتخزين المركز الثاني يليه قطاع المعلومات، فيما يعد قطاع التشييد أحد القطاعات الواعدة للاستفادة من هذه التكنولوجيا إذ يتوقع أن يضخ استثمارات قدرها نحو 30 مليار دولار بهذا الصدد بحلول عام 2019. كما ستكون أتمتة المنازل وأنظمة المنازل الذكية أكبر سوق لإنترنت الأشياء في قطاع المستهلكين بنهاية 2020، في حين ستشكل أنظمة البنية التحتية أهم المشاريع الحكومية. وتظل الشركات وقطاع الأعمال التجارية أكثر الجهات إنفاقا على إنترنت الأشياء.
استخدامات لا حصر لها
يبدو أن سوق إنترنت الأشياء ستكون مفتوحة لكل المجالات ومتاحة لجميع الاستخدامات، بما يعني أن تطبيقات هذه التكنولوجيا لا حدود لها. فعلى سبيل المثال طرحت بعض الشركات ثلاجات منزلية ترصد محتوياتها وتنبه إلى ضرورة ملئها بالمواد الغذائية. وأشارت شركات أخرى إلى إمكان صناعة أسرّة للمستشفيات خالية من الأجهزة والمعدات، بحيث لن تكون هناك حاجة إلى تركيب أجهزة استشعار على جسم المريض.
وابتكرت شركات أوروبية رباط يد يتعقب حركة المستخدم أينما ذهب، ويحتوي على عداد يحسب عدد السعرات الحرارية ويوفر إحصاءات ومعلومات يومية ترسل مباشرة إلى الإنترنت. ويمكن الاستفادة من هذه التقنية مستقبلاً في المستشفيات لمتابعة حالة المرضى، حيث يمكن للمريض إرسال تقرير مباشر عن وضعه الصحي وقياسات الضغط والسكر إلى المستشفى عبر الإنترنت، ليمكن متابعة حالته والتواصل معه في حالة الخطر.
وعلى الرغم من الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها تكنولوجيا إنترنت الأشياء فإن هناك أخطارا ومخاوف تتعلق باستخدامها، كما هو الشأن في كل ما توفره التكنولوجيا من أجهزة ومعدات. فثمة إمكانية لاختراق نظام هذه الأشياء والعبث بها من طرف المخترقين (الهاكرز)، سواء من أجل التسلية أو من أجل غايات اقتصادية أو اجتماعية أوسياسية.