د. نجلاء زكي الألفي
شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين ثورات علمية أحدثت تغييراً جوهرياً في الحياة البشرية، ويأتي في مقدمتها الثورة في مجال هندسة الجينات التي ترتبط بمجموعة من التجارب البيولوجية، والتي تشمل التحكم في الجينات والاستنساخ الحيوي. وتعنى هندسة الجينات بدراسة تغير الجينات عن طريق إضافة جين أو مجموعة جينات أو تعطيلها في المادة الوراثية للكائن الحي، وذلك لإنتاج صفات مرغوب فيها أو استبعاد صفات غير مرغوب فيها.
وأدت التجارب والأبحاث إلى اكتشاف الكيفية التي تعمل وفقها الجينات لإيجاد التقنية اللازمة لتكوين الدنا المتحد الجديد (DNA colon)، ما أدى إلى فتح المجال واسعاً لاستعمالات الهندسة الوراثية في مجالات تجارية متعددة. وتعرضت مجالات الإنتاج الحيواني والنباتي لثورتين؛ أولهما الثورة الخضراء الأولى التي أسفرت عن استخدام الوسائل التقليدية في تحسين عناصر الإنتاج الحيواني، ثم الثورة الخضراء الثانية التي اعتمدت على التعامل الدقيق مع المادة الحية فيما يعرف بالهندسة الوراثية لإضافة الجينات الخاصة بزيادة الإنتاج النباتي والحيواني، وإنتاج المستحضرات المناعية والتشخيصية والعلاجية للحيوان، والبرمجة الوراثية لتحسين الأسماك ومن ثمارها:
< إنتاج الأنسولين البكتيري بدلاً من التقليدي المستخلص من الخنازير والأبقار.
< إنتاج بروتينات عالية القيمة الحيوية كغذاء للماشية والدواجن.
< إنتاج مواد كيميائية دوائية ومضادات حيوية بتكلفة أقل وبمعدل إنتاج عال.
< إنتاج أنزيم تنشيط البلازمينوجين النسيجي الذي يستعمل لمنع تخثر الدم داخل جهاز الدوران لمرضى الجلطة القلبية.
< إنتاج ألبومين بلازما الدم بهدف الحد من مشكلات وأخطار الحصول على بلازما ملوثة من المتبرعين بالدم من المرضى.
< إنتاج عدد كبير من الأمصال واللقاحات ضد الأمراض البشرية والحيوانية والنباتية.
< إنتاج أنواع مختلفة من الحيوانات والنباتات التي تتميز بضخامة جسمها مقارنة بالأنواع الناتجة منها، و لاتزال هذه التجارب مقيدة بعدد من القوانين المحددة لها.
< إنتاج أمصال تركيبية خاصة تتضمن عملية إنتاجها بالطرق التقليدية أخطاراً عدة مثل مصل فيروس التهاب الكبد الوبائي والإنفلونزا.
< إنتاج بروتين الإنترفيرون وراثياً، وهو هرمون النمو لمعالجة التقزم البشري وبطء النمو.
< إنتاج هرمون اللبن في الماشية لزيادة إنتاج الحليب.
< التشخيص المبكر لبعض الأمراض الوراثية مثل الأنيميا المنجلية والبول الفينولي.
< المعالجة بالجينات مثل: إضافة جين إنتاج الأنسولين في الصبغي البشري مما يؤدي إلى إمكان شفاء المريض بمرض البول السكري شفاء دائماً، وعلاج بعض أمراض نقص المناعة.
< إنتاج بكتيريا بحرية معاد صياغتها قادرة على القضاء على التلوث الناشئ عن البقع النفطية الكبيرة التي تتسرب إلى البحار والمحيطات، حيث تقوم بتحليلها إلى مركبات بسيطة وهضمها.
< إنتاج ميكروبات تقوم بمعالجة مياه الصرف الصحي والتخلص من المواد الضارة والروائح وجعلها صالحة لأغراض مختلفة.
من تقنيات الهندسة الوراثية
< تم تعديل جينوم نبات القطن لكي يكون مهيئاً لإعطاء مواصفات جديدة وخواص لم تكن موجودة من قبل.
< يمكن زيادة حجم الثمرة بإدخال جين مشفر للعملقة الثمرية الحجمية والتي تعني الزيادة المفرطة في حجم الثمرة.
< يراعى في عمليات التطعيم الجيني الخاص بإنتاج نباتات مقاومة للحشرات الدقة العالية في اختيار الجينات، حتى لا تؤدي إلى تسمم البشر.
< زيادة إنتاج حبوب القمح عن طريق الهندسة الوراثية من خلال زيادة عدد السنابل في النبات وزيادة عدد الحبوب في السنبلة الواحدة.
< إنتاج دم صناعي مهندس وراثياً يتيح رفع معدل الأمان الحيوي في عمليات نقل الدم.
< إزالة التلف الحادث في الجينات المشفرة لتكوين الأنسولين، بشكل يمنع الاختلال الإفرازي الموجود، ويمكن استنساخ البنكرياس من خلية سليمة منه.
< علاج العمى لدى الحيوانات الكبيرة علاجاً جينياً لإعادة البصر لكلاب عمياء، بعد حقنها بفيروس يحمل جينات سليمة في العين. ويقول الباحثون إن هذا الأسلوب يمكن أن يستخدم لاحقاً لاستعادة البصر لدى المكفوفين.
تقدم أبحاث الدواء
ساهم علم الهندسة الوراثية كثيراً في تقدم الأبحاث الدوائية، وذلك بهدف التخلص من التأثيرات السلبية التي تخلفها المواد الكيميائية داخل جسم الإنسان، ومن ثم كان لابد من التوصل إلى هندسة بعض المركبات الدوائية وراثياً، ومن تلك المركبات الدوائية:
< الأجسام المضادة: وهي بروتينات خاصة تقوم بالدفاع عن الجسم ضد الميكروبات الغازية، وقد أمكن إنتاج أجسام مضادة محددة للنسل وذلك باستخدام بروتين مهندس وراثياً مضاد لذيل الحيوان المنوي، ويحوله إلى حيوان منوي غير قادر على الحركة. وتم إنتاج هذا البروتين في الدول المتقدمة على نطاق تجاري.
< سوماتوستاتين: هرمون تفرزه الغدة فوق النخامية (الهيبوثلاموس) في المخ، ووظيفته منع إفراز هرمون النمو وهرمونات الغدة النخامية، كما أنه منظم لهرمونات البنكرياس والمعدة والأمعاء. واستطاعت إحدى الشركات الأمريكية إنتاج هذا الهرمون صناعياً.
< لقاح الإنفلونزا: وهو مرض كثير الانتشار ويسببه فيروس له سلالات متعددة. ولعلاج الإنفلونزا لابد من وجود لقاح شامل لكل هذه السلالات. وتم التوصل إليه في مختبرات زراعة الفيروسات كاملة في مزارع فيروسية ثم تثبيط عملها المرضي، والاحتفاظ بشكلها وتحليل الطاقم الوراثي لها وزرعه داخل الخلايا المحتمل إصابتها لتكوين أجسام مضادة له تستطيع أن تتعرف إليه وتقاومه.
< لقاح التهاب الكبد الفيروسي: ويصنع بأخذ جين من فيروس (ب) الكبدي ثم يحمل على خلايا الخميرة التي تكاثره مع تكاثر مادتها الوراثية منتجة لقاحاً له.
< لقاح الجذام: توجد جراثيم الجذام في الإنسان والفئران وحيوان الدرع (في الدم). و استطاع علماء الهندسة الوراثية إيجاد لقاح له، مستخدمين في ذلك دم حيوان المدرع، ولايزال تحت التجربة على مئة ألف شخص من سكان ملاوي، وعدد مماثل من سكان القارة الهندية. وتتم هذه التقنية بأخذ الجينات اللازمة وتحميلها على بكتيريا القولون (إيشيرشيا كولاي).
< ثاومايتن: بروتين بسيط حلو المذاق، وحلاوته تلك مفيدة جداً لمرض البول السكري، فهو أحلى من السكر بنحو ثلاثة آلاف مرة، ويتميز بأنه سهل الهضم. وتم إنتاج الثاوماتين لكنه لا يزال في مرحلة التجربة.
< روكينان: أنزيم قادر على إذابة الجلطات الدموية، والمسؤول عن صنع هذا الأنزيم هو أحد الجينات، وقامت شركة أمريكية بتحميل البرنامج الوراثي لهذا الجين على جرثومة، وأثبت ذلك نجاحاً علمياً، لكن تكاليف هذه التقنية مرتفعة، وهذا يؤثر على الكمية المطروحة للتناول.
< لقاح منع الحمل المشيمي البشري: استطاع العلماء التوصل إلى لقاح منظم للحمل تستخدمه المرأة من خلال تقنيات الهندسة الوراثية، وهو عبارة عن هرمون (جونادوتروبين) المشيمي البشري، حيث تحقن به المرأة فيعمل على تحفيز الجهاز المناعي لتكوين أجسام مضادة تهاجم البويضة قبل إخصابها وتدميرها، كما يحفز المبيض على عدم إنتاج هرمون (البروجيسترون) الضروري لعملية التبويض. وبهذا اللقاح يمكن للمرأة أن تستخدم حقنة من الهرمون بدلاً من تناول أقراص (البروجيسترون) الصناعي يومياً، أو استخدام اللولب، وما ينتج عن ذلك من تجلط الدم وزيادة في الوزن وغثيان وقيء نتيجة لإحداث الأقراص اضطراباً في الدورة الشهرية.
الهندسة الوراثية البيئية
في تطور آخر يسعى العلماء لاستخدام النباتات في مداواة البيئة، وفي هذا المجال يقوم الباحثون بهندسة النباتات وراثياً لإكسابها القدرة على استئصال الملوثات من التربة أو الماء دون أن يتأثر نموها.
أما التطور الأحدث فهو هندسة النبات وراثياً لإنتاج المواد ذات الأهمية الطبية، وهو ما قد يحل قريباً محل عمليات التخمير التقليدية للأدوية، وكان الدافع وراء هذا الاتجاه هو الرغبة في أن يحصل الناس على اللقاحات الواقية مع طعامهم.
الهندسة الوراثية الأحفورية
الأحافير مصطلح أطلق على بقايا الأحياء النباتية أو الحيوانية، سواء كانت كاملة أو ناقصة أو أثراً تركه الكائن الحي منطبعاً أو محفوظاً في الصخور أو الرواسب الجيولوجية، وذلك قبل ظهور الإنسان الحديث. والأحفورة هي ترجمة لكلمة (fossil) ومشتقة من الفعل اللاتيني (fosere) بمعنى يحفر، و كانت تطلق على أي شيء يستخرج من الأرض سواء كان عضوياً أو غير عضوي أو معدنيًا أو صخرياً. وساد هذا الاستعمال حتى القرن السادس عشر. وصادف كثير من العلماء مثل هذه الأحافير، إلا أن نظرتهم لها كانت مختلفة عما هو مفهوم منها الآن.
ويتألف جسم الكائنات الحية من خلايا، وكل خلية تتكون من سيتوبلازما ونواة، والنواة في كل خلية هي كرة صغيرة داكنة حين تصبغ، وتحمل جزيء المادة الوراثية النووية (دنا)، كما تحمل الخلية في السيتوبلازما خارج النواة مادة وراثية أخرى في (الميتوكوندريا) المتقدرات أو السبحيات. والمادة الوراثية الأحفورية أو القديمة Ancient DNA هي المادة الوراثية سواء النووية أو السبحية التي تستخلص من الأحافير سواء كانت بشرية أو حيوانية أو نباتية. وتستخدم في تفسير العلاقات التطورية أو الأحداث التاريخية على أساس جزيئي، وذلك من أجل تسليط الضوء على التاريخ البيولوجي للحياة على الأرض. وأول بحث نشر في مجال عزل المادة الوراثية الأحفورية كان في عام 1984.