هشام عليوان
مع دخول الكتاب كصناعة متكاملة في الآفاق الواسعة لثورة الاتصالات التي تنبئ بحدوث تحديثات متسارعة على صعيد الأدوات والوسائط المتعددة، لا يقف الناشر وحده أمام مرحلة جديدة بكل ما فيها من آفاق وتحدّيات، بل ثمة تحدّيات أخرى تواجه المؤلف أيضاً بشكل موازٍ لا متعادل بالضرورة مع المجالات التي تفسح أمامه، فيما تتقاطع تحدّيات المؤلف مع التي تواجه الناشر، وتختلف معها في نواحٍ أخرى لها علاقة بمضمون ما يمكن أن يُنشر إلكترونياً أو ورقياً وكذلك الأسلوب الكتابي.
ولكن قبل أن ندلف إلى محاولة حصر تلك التحدّيات التي تفرض نفسها على كلٍّ من الناشر والمؤلف للتكيّف معها ومجاراتها، لابدّ من الإشارة أولاً إلى الآثار الإيجابية المتوقعة عموماً مع سيادة النشر الإلكتروني في السنوات المقبلة، و الالتفات إلى الآثار السلبية التي لا يمكن تجنّبها، والتي بدأت تظهر على التوالي من خلال التوسع الهائل لشبكة الإنترنت وتطبيقاتها المتزايدة باطراد.
إنّ أقل وصف يمكن أن يُعطى لما نشهده راهناً هو الانفجار المعرفي العشوائي، إلى حدٍّ كبير، فانتشار المعلومات على شبكات التواصل، بمختلف توجهاتها وأنواعها، جعل المعرفة متاحة بصورة غير مسبوقة أمام أيّ متلقٍّ لها، مع أن هذا النشر يفتقد أحياناً إلى قواعد الضبط والتحقيق ومناهج البحث العلمي عامة، وهي الأساس لتراكم معرفي بنّاء.
وعلى صعيد صناعة الكتاب، فإن ما يحدث غالباً من انتهاك لحقوق المؤلف والناشر، عبر إعادة نشر الكتب إلكترونياً، تصويراً أو بتنسيق جديد، دون إذن من صاحب الحق، قد يمثّل خبراً سعيداً لعشّاق المعرفة والباحثين الجادّين الذين لا يملكون الوقت للتردّد على المكتبات العامة، ولا المال لشراء الكتب ذات الأهمية، ولا المكان لإنشاء مكتبة خاصة، فيأتي من يتبرّع بتقديم كل هذه التسهيلات بكلفة زهيدة هي كلفة الاتصال عبر الإنترنت. وهذا الأمر – على فائدته التي لا يُستهان بها في مجال التطوّر الحضاري والعلمي في المدى المنظور – يهدّد صناعة الكتاب كما نعرفها اليوم، حتى لو انتقلت دور النشر إلى مجال النشر الإلكتروني جزئياً أو كلياً، كما أنه سيرتدّ سلباً على المديين المتوسط والبعيد، على آفاق تطوّر المعرفة نفسها حين يُحجم المؤلف والناشر عن تقديم الجديد، بانحسار الحوافز الربحية المطلوبة في أي مجال إنتاجي، إضافة إلى عدم قدرة المؤسسات العامة على تولي هذه المهمة وحدها.
لذا، فإن النشر الإلكتروني راهناً يحتمل من الإيجابيات والسلبيات التي ينبغي تفحصها ملياً قبل الانتقال النوعي نحو عصر جديد ينحسر فيه الكتاب الورقي بصورة ملحوظة، ويصبح الكتاب الإلكتروني هو السلعة الأساسية.
علاقة ثلاثية
لقد قامت صناعة الكتاب الورقي في القرون الأخيرة على العلاقة الثلاثية بين المؤلف والناشر والقارئ، حيث كان الناشر هو الأكثر تحقيقاً للربح المادي البحت، فيما لم يكن المؤلف غالباً لاسيما في الوطن العربي، من يحصد الأرباح إلا في حالات خاصة كان فيها شريكاً موازياً، أو حين يجتمع المؤلف والناشر في شخص واحد، فهل تتغير المعادلة حين يسود الكتاب الإلكتروني وتتغير نسبة المدخلات والمخرجات؟ إن النشر الإلكتروني يحذف كلفة الورق والتخزين، ويقلّل كلفة التوزيع إلى حدٍّ كبير، ويعظّم تالياً نسبة حقوق التأليف من مجمل الكلفة العامة، فهل تستمرّ العلاقة راجحة لمصلحة الناشر أم تنقلب لمصلحة المؤلف؟ من المؤكد أن الحاصل حينذاك ينعكس إيجابياً في كل الأحوال على القارئ الذي بات قادراً على حيازة كتب أكثر بكلفة أقل، لكن ماذا عن الناشر الذي عليه أن يجد الحوافز الكافية للاستمرار في عملية الإنتاج ضمن أفق غير واضح؟ إن التطورات التقنية باتت تسمح لأي مؤلف بأن يكون ناشراً أيضاً، فيما لو اختار النشر الإلكتروني حصراً، فيقوم بتوزيع كتابه مباشرة دون حاجة إلى وسيط تقليدي، أي دور النشر، أو من خلال مؤسسات متخصصة بالنشر الإلكتروني عبر مواقع الإنترنت، أي من دون دور النشر أيضاً. لذلك، فإن مهمة الناشر ستكون مختلفة نوعياً في العصر الجديد، وستزداد أهمية الإعدادات الفنية للكتاب قبل نشره.
الكفاءات والكوادر الفنية
وسيكون على دار النشر أن تتميز عن سواها بالكفاءات التي يتمتع بها فريق عملها المكلّف بمراجعة المسودات وتقديم الملاحظات واختيار الموضوعات، باعتبار أن المضمون سيكون الأكثر حضوراً في سوق العرض والطلب وفي تحديد السعر أيضاً، فيما كان لشكل الكتاب الورقي، وحجمه، ونوع الورق، والغلاف، والخط، والإخراج، دور لا يستهان به في التقييم والتسعير.
أما آلية تسعير الكتـــاب عموماً فستختلف حتـــــما؛ إذ من الطبيعي أن يكون سعر النسخة الإلكترونية أقل من سعر النسخة الورقيـة ما دامت قد انخفضت كلفة الصناعة عامــــة، لكن هذا ما يحدّد هوامش الربـــح لدى الناشر، ويجعلها أقل يقينيــــة من ذي قبل، إذ ليس من المؤكد أن تعوّض كثرة التوزيع وسهولته انخفاضَ هامش الربح بانخفاض السعر مع انفساح المجال لتضاعف الناشرين وتكاثر المنافسة إزاء تراجع كلفة التصنيع، فضلاً عن إمكانية تحوّل المؤلف نفسه إلى ناشر بأسهل الطرق وأيسرها.
هذه الآفاق المتوقعـــــة لانتشار النشر الإلكتروني تثير احتمالات مقلقة عن مصير النشر الورقي والآثــــــار المترتبة على الكتاب التقليدي الذي لن يختفي من السوق، بل سيتغيّر دوره وتختلف النظرة إليه من مجرّد وسيــــــط معرفي إلى قيمــــــة فنية ورمزيــــة ومعنوية، وسيتضاعف سعره السوقي مع الانخفاض الحتمي للمعروض منه، وتناقص الطلب عليه، علماً أن طباعة نماذج ورقيـــــة محدودة من أي إصدار قد تكون ضرورية من ناحية توثيقية حفاظاً على النص الأصلي، وكذلك من ناحية تخزينية لاحتمال ضياع النسخة الإلكترونية لدى حدوث أي طارئ.
العوائق والتحديات
وعند البحث في عوائق النشر الإلكتروني لا يمكن إلا الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجتمعات الحديثة، المتقدمة منها والنامية أو المتخلفة، فما دامت إمكانات انتشار الكتاب الإلكتروني مرتبطة بتوافر البنى التقنية والمادية اللازمة، أي الوسائط الحديثة من حواسيب عادية ومحمولة، وهواتف ذكية، ومنتجات متعددة الوظائف، فإن المجتمعات المتخلفة التي تعاني الفقر والأمية بنسبـــــة عالية، سينحصر فيها النشر الإلكتروني في شرائح محدودة جداً، ولن يكون مجــــزياً لأي ناشر ولا حافزاً له على خوض هذا المجال، بخلاف الوضع في البلدان الناميـــة والمتقدمة بشكل متناسب، أي بعبارة أخــرى سيظل الكتاب الورقي مهيمناً لفترة زمنية متوازية مع نسب التقدم الاجتماعي والاقتصادي في أي بلد من البلدان، بحيث تقلّ حظوظه عكساً مع تطور المجتمع ذاته.