Dr. Waheed Mohamed Mofaddal
الكائنات الغازية هي تلك الأحياء من نبات أو حيوان التي انتقلت من بيئتها المعيشية الأصلية، عفوا أو قصدا، إلى بيئة معيشية جديدة أو مكان جديد، واستطاعت استيطان هذا المكان والانتشار فيه بشكل مفرط وعشوائي، على حساب الأنواع الأخرى المحلية أو الأصيلة. وهي تعرف أيضا بأكثر من اسم مرادف مثل “الكائنات الدخيلة” أو “الأنواع الغازية” أو “الأجناس الغريبة”، وكلها يشير في المعنى إلى صفة الإتيان من الخارج والغزو أو التدخل في شأن الغير.
وعلى الرغم من كون هذه الكائنات ضئيلة الحجم في الغالب، ولا تتعمد الغزو أو التدخل في بيئة الغير بشكل مباشر في معظم الأحوال، فإنها تتسبب في مشكلات كثيرة وأضرار عديدة، لا تقتصر على البيئة أو النظام الإيكولوجي الجديد المنتقلة إليه، بل تمتد أيضا الاقتصاد وصحة الإنسان وغير ذلك.
ورد النيل وسمكة القراص
ولعل من أوضح الأمثلة على هذه الكائنات باسنت الماء المعروف باسم “ورد النيل” وموطنه الأصلي البرازيل وأمريكا الجنوبية، حيث جرى نقله بطريقة ما إلى أعالي النيل في أفريقيا، وما لبث أن انتشر بصورة سريعة وكثيفة خلال مجرى نهر النيل من المنبع وحتى الوادي في كل من مصر والسودان مسببا أكثر من مشكلة، أبرزها إعاقة الملاحة النهرية، وامتصاص كميات متزايدة من مياه النهر، وسد القنوات والترع الزراعية، وإفساد جمال المنظر التقليدي للنهر، إضافة إلى تكلفة مادية باهظة نتيجة القيام بأعمال التطهير.
ومن الأمثلة المعروفة أيضا، السمكة المعروفة باسم “سمكة القراض” التي نجحت في اجتياز جميع الحواجز البحرية الطبيعية، وتمكنت من الانتقال من موطنها في المحيط الهندي والبحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط عبر مجرى قناة السويس، لتستوطن في النهاية بحوض البحر المتوسط بصورة مفرطة مسببة أضرارا كبيرة لأعمال الصيد التقليدي والصحة العامة. ومن أنماط هذا الضرر حدوث تسمم ووفاة بسبب احتواء بعض أجزاء هذه السمكة على مواد سامة، وقيام هذا النوع من الأسماك بقرض وتمزيق شباك الصيد التقليدية بواسطة أسنانها التي تشبه أسنان الأرنب. إضافة إلى ذلك، فهي تعتبر من الأسماك غير المرغوبة، وتتغذى في العادة على الأسماك الأخرى الاقتصادية، ما يعني أن صيدها يعتبر غير مجد من الناحية الاقتصادية.
البرية وبين / المائية
وبطبيعة الحال، هنالك من هذه الكائنات ما هو بري وما هو مائي، أي لا يمكنه العيش إلا في وسط مائي، سواء كان ماء عذبا كما في الروافد والأنهار، أو كان مالحا في البحار والمحيطات. لكن حجم الضرر الناتج عن انتشار الأنواع المائية بصفة عامة، عادة ما يكون أشد وطأة وأكثر استدامة من الضرر الذي تتسبب فيه الأنواع البرية. وهذا يرجع أساسا إلى قدرة الأنواع المائية، ولاسيما البحرية، على الانتشار والتنقل بسرعة وسهولة في الوسط المائي، بسبب قلة الحواجز والمعوقات الطبيعية الموجودة في البحار والمحيطات والمسطحات المائية مقارنة بما هو كائن في البرية. ويرجع أيضا إلى كون النظم البيئية البحرية بصفة عامة، والشعاب المرجانية وغابات القرم (المانغروف) الساحلية بصفة خاصة، تعتبر من أبرز مراكز التنوع الإحيائي على كوكب الأرض، كما أن العلاقة بينها متشابكة ومترابطة، ما يعني أن الخسارة الناتجة عن أي خلل في أي من هذه النظم ستكون مضاعفة ومتسلسلة في الوقت ذاته، وهذا ما يخالف حال معظم النظم البيئية الأرضية.
مصادر الكائنات الدخيلة
هناك أكثر من وسيلة يمكن بواسطتها انتقال أحد الأنواع النباتية أو الحيوانية من موطنه الأصلي إلى البيئات المعيشية الجديدة، وإن كان الإنسان والنشاطات البشرية المختلفة هي المسؤولة في معظم الأحوال عن حدوث ذلك. ويعتبر نقل هذه الكائنات بأعداد محدودة من مكان أو بلد إلى آخر بواسطة الإنسان للاقتناء كحيوانات أليفة أو التربية أو لزراعتها في حدائق الزينة، من أكثر هذه الطرق شيوعا، يليها النقل بأعداد كبيرة بغرض الاستزراع المائي (السمكي) أو الاستغلال الزراعي أو التجاري. وفي الحالتين فإن الكائن الغريب المستقدم من الخارج سرعان ما يخرج عن نطاق السيطرة ويبدأ في الانتشار مسببا الضرر والخلل للموائل الجديدة والكائنات المحلية الأصيلة.
ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك “استاكوزا المياه العذبة” التي تم استيرادها إلى مصر أوائل الثمانينيات من الولايات المتحدة الأمريكية بغرض استزراعها في إحدى المزارع السمكية الخاصة كبديل مكافئ للاستاكوزا البحرية المعروفة بارتفاع سعرها، لكنها ما لبثت أن تسربت إلى نهر النيل بدلتا مصر، وانتشرت خلال مجراه بصورة كبيرة، مما أدى إلىانخفاض المحصول السمكي، بسبب افتراسها للأسماك الصغيرة والكبيرة وأبرزها البلطي النيلي الشهير.
وهناك نشاطات بشرية أخرى يمكن أن تسهم في نقل الأنواع الدخيلة من مواطنها إلى أمكنة جديدة، أبرزها حفر القنوات المائية كما هو الحال في قناة السويس وقناه بنما، حيث أسهم كل منهما في غزو الآلاف من الأنواع البحرية الدخيلة من كل من البحر الأحمر والمحيط الأطلسي للبحر المتوسط والمحيط الهادئ على التوالي. وتذكر إحدى الدراسات أن هناك أكثر من 300 كائن بحري تمكنت من غزو البحر المتوسط واستيطان سواحله قرب لبنان وقبرص وتركيا، عن طريق المرور والهجرة عبر قناة السويس.
ويمكن لمشروعات وأنابيب نقل المياه البحرية أو النهرية أن تؤدي إلى النتيجة نفسها، مثل مشروع قناة البحرين المزمع مده بين البحر الأحمر والبحر الميت، من أجل إنتاج الطاقة وتوفير مياه الشرب بواسطة تقنية التحلية.
السفن ومياه التوازن
وتؤدي ناقلات النفط والسفن الكبيرة دورا كبيرا في انتقال الأنواع البحرية من الكائنات الدخيلة والغريبة إلى أمكنة جديدة، وهذا من خلال ما يعرف باسم “مياه التوازن” (أو “الاتزان”) Ballast Water التي تحملها السفن وهي فارغة بكميات كبيرة بغرض حفظ التوازن أثناء الإبحار. فعندما تصل هذه السفن إلى ميناء الشحن المستهدف، تبدأ بصرف هذه المياه من خزانها الداخلي إلى المياه البحرية الخارجية، تمهيدا لبدء عملية الشحن ونقل البضائع، وبذلك تنتقل أعداد كبيرة وأنواع كثيرة من الكائنات البحرية من مواطنها في أعالي البحار والمناطق الساحلية إلى أمكنة جديدة في الموانئ والمرافئ الساحلية. وتتنوع الكائنات البحرية التي يمكن أن تحملها مياه التوازن هذه ما بين اللافقاريات الصغيرة ويرقات الأحياء البحرية والأسماك والهائمات النباتية والحيوانية، فضلا عن البكتيريا والكائنات الأخرى الدقيقة التي يمكنها تحمل الظروف البيئية الصعبة داخل خزانات السفن، علما بأن المتر المكعب الواحد من مياه التوازن قد يحوي نحو 10 ملايين خلية من الهائمات البحرية النباتية.
إضافة إلى ذلك، فإن مياه التوازن عادة ما تحمل معها كميات كبيرة من الرواسب والمواد الصلبة، مثل حبيبات الرمل الناعم وقشور أو أصداف بعض الكائنات وخلافه، وهذه بدورها تترسب بعد فترة على القاع داخل خزان حفظ مياه التوازن، مما يشكل أرضية طبيعية وتربة جيدة يمكن أن تعمل بدورها كبيئة معيشية جيدة لعدد كبير من الكائنات البحرية، التي يمكن أن تنتقل هي الأخرى إلى موانئ الشحن أثناء ضخ مياه التوازن للخارج. ويراوح عدد الكائنات التي تقوم بنقلها هذه الرسوبيات يوميا ما بين 7000 و 10000 نوع.
وهناك أيضا عوامل طبيعية يمكن أن تسهم في نقل الكائنات الغازية من موقع إلى آخر، مثلما هو الحال بالنسبة للطيور المهاجرة، التي يمكن أن تحمل في أمعائها أثناء رحلتها الطويلة التي تبلغ آلاف الأميال بعض بذور النباتات الدخيلة، حيث يمكن أن تبتلعها هذه الطيور وتبقى في قناتها الهضمية مدة طويلة من دون أن تتأثر سلبا، إلى أن يلفظها الطائر في المكان الجديد، لتبدأ بعد ذلك هذه البذور بالنمو والتكاثر والانتشار حينما تتوافر لها الظروف المساعدة.
أضرار الكائنات الدخيلة
عادة ما تتسبب الكائنات الغازية في أضرار عديدة يمكن تصنيفها حسب نوعها إلى أضرار بيئية واقتصادية وصحية. فمن الناحية البيئية عادة ما يؤدي انتشار الأنواع الدخيلة إلى تدهور درجة التنوع الإحيائي، بسبب زيادة التنافس على الغذاء واختفاء أعداد متزايدة من الأنواع المحلية نتيجة الافتراس. كما يمكن أن تؤثر سلبا على السلسلة الغذائية في موقع ما نتيجة اختفاء أحد عناصرها. وقد يتسبب انتشار بعض الأحياء الدخيلة بكثافة مثل الطحالب الدقيقة بانخفاض جودة المياه وتغيير الظروف الإيكولوجية للموائل الطبيعية الحساسة مثل الشعاب المرجانية، مما قد يؤثر سلبا بدوره على حالتها وحالة الكائنات المستوطنة فيها، باعتبارها نظاما بيئيا متكاملا قائما على التوازن ويكفل الغذاء والمأوى لملايين الكائنات.
أما الأضرار الاقتصادية فيصعب حصرها؛ بسبب تشعبها وتسلسل الأضرار إلى قطاعات أخرى. ذلك أن انتشار الكائنات الدخيلة يمكن أن يؤدي إلى فقدان الإنتاجية وانخفاض المحصول السمكي الاقتصادي في منطقة ما، وهذا بسبب نقصان الأنواع السمكية المرغوب فيها لحساب الأنواع الغازية وغير الاقتصادية. وهذا بدوره يمكن أن يؤثر سلبا على مداخيل الصيادين وعلى الصناعات المرتبطة بالصيد. كما أن زيادة أعداد الكائنات الغازية مثل قنديل البحر قد تحدث مشكلات كبيرة لمحطات التحلية أو إنتاج الطاقة بسبب انسداد مآخذ المياه بهذه الكائنات. وقد يؤدي انتشار النوع اللاسع من قنديل البحر إلى هجرة المصطافين للشواطئ والمرافق السياحية. ويجب ألا نغفل قيمة التكلفة المادية المطلوب تدبيرها لمكافحة وإدارة الأخطار الناتجة عن انتشار الأنواع الغازية، وإعادة تأهيل الموائل أو المجتمعات المتضررة.
وهنالك أيضا أخطار عديدة على الصحة العامة والسلامة البشرية من جراء انتشار الكائنات الغازية، إذ يمكن أن يؤدي غزو هذه الكائنات لإحدى المناطق إلى زيادة انتشار الطفيليات والأمراض وانتقالها إلى الكائنات المحلية أو الأصيلة، ومن ثم إلى الإنسان. فهناك بعض أنواع العوالق النباتية – على سبيل المثال- تنتج سموماً بيولوجية قابلة للتراكم في الأسماك والمحاريات، ويمكن لها أن تنتقل إلى الإنسان وتسبب له مشكلات صحية وأمراضا عديدة كالإسهال والتسمم والحساسية الجلدية، وربما الموت. وبالمثل يمكن أن يؤدي انتشار بعض الأنواع الغازية إلى انتقال أحد الطفيليات الضارة إلى سمك السالمون، ومن ثم إصابة كل من يتغذى عليه بعدد من الأمراض.
الحد من الأضرار وإدارة الأخطار
هناك أكثر من سبيل للتعامل مع مشكلات الكائنات الغازية والحد من أخطارها، وإن وجب على كل دولة اتباع نهج متكامل وتطبيق استراتيجية شاملة لمجابهة هذه المشكلة والحد من آثارها السلبية.
بداية ينبغي الاهتمام بدور البحث العلمي والاستعانة بالعلماء المتخصصين من أجل إيضاح حجم المشكلة وتوفير قاعدة بيانات علمية مفصلة عن الأنواع الجديدة والدخيلة، وبيان مقدار التلوث الناتج عن صرف مياه التوازن وغيرها من مصادر التلوث، ومدى الضرر أو الخلل البيئي الحادث، واقتراح الحلول المناسبة، وغير ذلك مما يساعد على تقييم الوضع البيئي بدقة واتخاذ الإجراءات المناسبة والسليمة. وعلى المستوى الميداني ينبغي تشديد عملية المراقبة وتطبيق القوانين والاتفاقيات الدولية والإقليمية الملزمة والخاصة بوسائط نقل الأنواع البحرية الغازية وأهمها مياه التوازن، مع تأهيل الكوادر الوطنية اللازمة لتحقيق هذا الغرض.
وفي هذا السياق، فقد نجحت المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية (روبمي) ومقرها دولة الكويت في وضع أكثر من برتوكول للتخلص من مياه التوازن المحمولة في خزانات السفن والناقلات البحرية وغيرها. كما نجحت في إقناع الدول الأعضاء بالمنظمة بالتوقيع على مذكرة تفاهم بإنشاء مرافق خاصة لاستقبال مياه التوازن والرواسب العالقة بها في موانئها، بغرض التخلص من مشكلات الكائنات الغازية والممرضة.
ومن الإجراءات الواجب أيضا اتخاذها للحد من أخطار الكائنات الغازية زيادة الوعي البيئي بمدى خطورة هذه الكائنات وإرشاد المواطنين والعاملين في مجال الاستزراع المائي والبحري بالخطوات الاسترشادية الواجب اتباعها أثناء توطين الأسماك أو الأحياء الغريبة بالمزارع أو الأمكنة الخاصة.
ولابد كذلك من اتخاذ الاحتياطات المناسبة وتطبيق الحلول العلمية الناجعة عند إقامة المشروعات الكبرى مثل حفر قنوات أو مجار ملاحية جديدة، بما يحول أو يقلل من نقل الأحياء الغريبة ويحد من أخطارها.