الفن الضائع.. ثقافات الملاحة ومهارات اهتداء السبيل
م. أحمد العيسى
على مدار حياة البشرية، وفي كل المجتمعات التي عاش فيها الإنسان، سعى ذلك الكائن إلى معرفة البيئة المحيطة به، والأمكنة المجاورة له، وحاول معرفة الكيفية التي ينتقل بها من مكانه ليصل آمنا إلى المناطق البعيدة عنه، والأدوات التي تساعده على ذلك، والمعالم التي ترشده وتحفظه من الضياع.
وتعددت تلك الأدوات المستخدمة في المجتمعات، وتنوعت أيضا المعالم التي يسترشد بها الناس في مساراتهم في البر والبحر، وأسهمت كل حضارة بشرية بنصيبها الوافر في عالم الملاحة واهتداء السبيل، واستفادت كل منها من تجارب وخبرات الآخرين، وصولا إلى ما نراه حاليا من أجهزة متطورة، وأدوات بالغة الدقة.
ولعل الكلمات التي دونها الباحث جون إدوارد هوث في كتاب بهذا الصدد تلخص ذلك التطور المذهل في مسارات الملاحة، حينما قال : “ منذ سنوات قليلة فقط، ربما كنت ستحلف بأن الراكب إلى جوارك رجل مجنون. إنه يتكلم مع نفسه كأنه يتكلم مع صديق وهمي، وهو يلهو بعلبة صغيرة (أي هاتف متنقل) يضعها أمام وجهه. عالمه كله عبارة عن فقاعة (أي إنترنت) بقطر قدمين حول رأسه. إذا حزتَ بمعجزةٍ انتباهه وسألته عدة أسئلة فإنه سيجيب فقط باللعب بهذه العلبة الصغيرة. يدير علبته، ويستطيع أن يخبرك بحالة الطقس غدا، وأين تقع جهة الشمال، واسم ذلك النجم اللامع في السماء. غير أنك إذا أخفيت تلك العلبة عنه فإنه سيبقى بلا حول ولا قوة. تسأله: لماذا يكون الطقس حارا في الصيف، وباردا في الشتاء؟، يُلوِّح بيديه أمام وجهه وهو يشرح لك السبب. تمثل يده اليسرى الشمس، وسبابته اليمنى الأرض، وهي تدور حول قبضته. يغمغم بشيء حول أن الأرض أقرب إلى الشمس في الصيف، وأبعد عنها في الشتاء. وبصوته نبرة متغيرة تستجدي موافقتك”.
مفارقة عجيبة
في مقدمة ذلك الكتاب الذي نشره هوث بعنوان (الفن الضائع..ثقافات الملاحة ومهارات اهتداء السبيل) ونشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بترجمة الدكتور سعد الدين خرفان يتابع المؤلف ما دونه آنفا فيقول مخاطبا القارىء : دعنا الآن نفترض أن الزمن عاد بك 3 آلاف سنة إلى الوراء، وأنك تجلس إلى جوار صياد في قاربه الصغير بعيدا عن اليابسة. إنه يغني لنفسه، وهو يداول شبكته الملقاة في البحر. تطرح عليه أسئلة حول الطقس والسماء، فيظن أنك مجنون، غير أنه يجاريك على أي حال. يخبرك بثقة عن حالة الطقس غدا، ويشير بإصبعه إلى جهة الشمال، ويحكي لك حكاية حول النجم اللامع في السماء. ليست لديه علبة سحرية ليخبئها عنك. تسأله: لماذا الطقس حار في الصيف، وبارد في الشتاء؟ يرسم بيده الممتدة قوسا في السماء، ويقول لك إن الشمس تتبع طريقا أعلى في الصيف، وبذلك يكون النهار أطول، وتتبع طريقا أخفض في الشتاء ويكون النهار أقصر. ليس في صوته ما يدل على أدنى أثر للشك”.
ثم يطرح الكاتب مقارنة بسخرية تحمل نوعا من المفارقة، فيقول : من إذًا البدائي برأيك: هل هو الراكب إلى جوارك، أم الصياد؟ مع نمو تقانة المعلومات فإن قدرتنا على التفكير والإدراك المستقلين من دون مساعدة الأجهزة تضاءلت إلى الحد الذي أصبحنا فيه، وليس أجدادنا، البدائيين. قبل وقت طويل من اختراع نظام تحديد الموقع الجغرافي GPS قطع أجدادنا القدامى مسافات شاسعة مستخدمين ما تبدو لنا الآن أنها تقنيات بدائية. في حالات كثيرة لم تقدم تفسيرات حول فاعلية أنظمتهم حتى القرن العشرين، في حين مازال بعضها سرا. ربما لم تكن أنظمة الملاحة التي طورتها ثقافات مختلفة مبنية على فهم علمي بالمعنى الذي نعرفه اليوم، غير أنها كانت منطقية وفعالة. وبينما يبدو المسافر المدمن على اللعب بجهازه غائبا عن بيئته، فقد برهن أجداده أن البشر قادرون على استيعاب الإشارات المعقدة من بيئتهم من أجل تحديد اتجاهاتهم.
ثقافات الملاحة
في الكتاب المكون من جزأين يتناول هوث في الجزء الأول موضوعات عدة، فينطللق من تعريف كلمة «ملاح navigator» التي يراها أنها تعني أي شخص منا يبحث باستمرار عن وجهته في البيئة المحيطة به. ولأن المهارة اللازمة للسفر إلى مسافات بعيدة تتأثر بعدد من العوامل: وسيلة السفر، ووجهته، والبيئة التي تتم فيها الرحلة. وبحسب العناصر المشمولة فيه تدخل مهارات عدة مكونة مما يدعوه الكاتب بـ«ثقافات الملاحة» التي تتحدد حسب البيئة ووسيلة السفر، فإنه سعى في الكتاب إلى تفحص تلك الثقافات، والطرق المختلفة التي استطاع فيها البشر الملاحة مستخدمين أدوات بسيطة وإشارات من البيئة.
وتحليل ثقافات الملاحة القديمة مهمة صعبة، كما يراها هوث؛ فالملاحون كمجموعة لم يميلوا إلى توثيق رحلاتهم، والكثير مما استطعنا معرفته عن تقنياتهم مبني على معلومات متفرقة: بقايا أثرية، وشواهد من لغات وملاحم، وأناشيد قديمة جرى تداولها عبر أجيال. ترك المؤرخون القدامى لنا حكايات، بيد أن علينا أن ننظر إليها بشيء من الشك. تحتفظ الثقافات التي تطورت بعزلة نسبية قبل احتكاكها بالحضارة الغربية، وحتى أثناء ذلك بالعديد من أنظمتها التقليدية في الملاحة. وبتركيب معرفتنا بثقافات الملاحة بعضها مع بعض، يمكننا البدء في تقدير القرابة التي تشترك فيها هذه الثقافات جميعا في فن تحديد الاتجاه البشري.
ثلاث منارات حضارية
ثمة ثلاث منارات متميزة في ثقافات الملاحة القديمة ـ وهي تلك التي طورها النورديون (سكان شمال أوروبا)، والتجار العرب في القرون الوسطى، وسكان جزر المحيط الهادئ. ويتطرق الكتاب إلى هذه المنارات الثلاث ، فمثلا وجد النورديون خلال غزوهم آيسلندا في القرن التاسع الميلادي رهبانا إيرلنديين يعيشون في مستوطنات قائمة. ربما عثر الرهبان على طريقهم إلى آيسلندا باتباع مسارات الطيور المهاجرة في قوارب بدائية دعيت بالكراكس currachs.
ويرى الكاتب أن ثقافات الملاحة عالجت تحديات متماثلة: التوجه المكاني، والقدرة على تقدير المسافات، وإيجاد الموقع من دلائل بيئية. هذه التقنيات مشتركة للملاحة سواء أكانت في البر أم البحر. بالنسبة إلى البحارة، هناك أيضا الحاجة إلى التنبؤ بتأثيرات الطقس والمد وتيارات البحار.
تناول الجزء الأول من الكتاب ثمانية موضوعات جاءت على هيئة ثمانية فصول، تطرق في أولها إلى ما سماه (ما قبل الفقاعة)؛ أي ما قبل اختراع الإنترنت وتطبيقاتها العديدة، والهواتف الذكية، وهو يعد بمثابة مقدمة للكتاب. أما الفصل الثاني فتناول الخرائط التي شاعت في الحضارات وكيفية رسمها واستخدام الملاحين لها. وسرد الفصل الثالث موضوع (الضياع) وقصصه والصدمات الناتجة عنه، في حين تطرق الفصل الرابع إلى (التخمين الصائب) الذي استخدمته البشرية وأرشدها إلى الطرق السليمة برا وبحر، وجاء الفصل الخامس بعنوان (أساطير حضرية في الملاحة)، والسادس بعنوان (خرائط وبوصلات)، وتناول في السابع استخدام النجوم في الملاحة ، وفي الفصل الثامن والأخير الاهتداء بالشمس والقمر في الملاحة.
البوصلة وخرائط الموانئ
يتناول الكتاب إنجازات الحضارة العربية والإسلامية في مجال الملاحة وأدواتها ، ولاسيما استخدامها الواسع للبوصلة المغنطيسية التي ظهرت للمرة الأولى في القرن الثالث عشر في دول البحر الأبيض المتوسط. وباستخدامها تمكن البحارة من أن يخطوا طريقهم في الضباب، والأيام الغائمة. ورافق استخدام البوصلة في الغرب ظهور مفاجئ لنوع جديد من الخرائط دعاها المؤرخون بخرائط الموانئ. وعلى النقيض من الخرائط السابقة، فقد رسمت هذه الخرائط من أجل الملاحة بشكل أساسي. يدعو الكثيرون هذه الخرائط بالخرائط الأولى الحقيقية لأنها أظهرت اتجاهات متسقة ومقياسا دقيقا نسبيا.
وحينما تحدث عن مسارات النجوم في السماء، أشار إلى ضرورة معرفة الملاح للعلاقة الرياضية التي تحول مواقع النجم إلى إحداثيات محلية. وقد حل الرياضي العربي الجياني مسألة مسح حركات النجوم بالنسبة إلى مراقبين على الأرض في مواقع مختلفة في كتابه (كتاب الأقواس غير المعروفة على كرة) الذي نُشر نحو العام 1060م.
جداول الطول والعرض
في الجزء الثاني من الكتاب يتناول المؤلف عشرة موضوعات متنوعة جاءت على هيئة عشرة فصول. تحدث في أحدها عن جداول طليلطة (الأندلسية)، فيقول إنه على الرغم من وجود العديد من جداول خطوط العرض والطول في العالم العربي في القرون الوسطى، فإنه ليس هناك ما يدل على أنها استخدمت في الخرائط والملاحة. وتلك الجداول التي وضعها الفلكي الأندلسي الزرقالي تمثل نافذة فريدة من جغرافية تلك الحقبة.
وكان العرب أول من طور جداول الميل، التي دعيت جداول الظل في عام 860م تقريبا. باستخدام خيط وعصا مع الجداول، يمكنك قياس خط العرض الواقع عليه إلى دقة 1 درجة. في العصور الوسطى ربما اشترى معظم المنجمين جداول من شخص كالزرقالي أو أنهم نسخوها من صديق. وكثيرا ما أنتج صانعو الأجهزة تصاميم هندسية على ظهر الإسطرلابات لمعرفة الميول مستغنين عن الحاجة إلى الجداول المؤلفة.
ولم يبرز الإدراك الكامل لقوة الملاحة السماوية إلا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، بأخذ تقنيات الفلكيين العرب كنقطة للبدء. وإحدى الأدوات الرئيسة للملاحة السماوية هي أداة تعطي قياسا دقيقا لارتفاع جسم ما في السماء. وقد طور العرب جهازا بهذا الصدد دعي الربعية (Quadrant) للفلك والتنجيم. تقيس هذه الأداة ربع دائرة، ومن هنا جاءت تسميتها. وهي تحدد ارتفاع نجم ما.
زملاؤنا الجوالون
يتطرق المؤلف إلى من سماهم (زملاء جوالين) ، وهم الكواكب ، لاسيما الكواكب الأكثر إضاءة كالزهرة والمريخ والمشتري، التي تعمل كمنارات مؤقتة ترشد المسافرين، لكنها تتحرك أمام خلفية ثابتة للنجوم، كما توحي بذلك كلمة (جوال)، وليست موثوقة في الملاحة كالنجوم. مع ذلك يمكنك استخدام الكواكب في الملاحة، خصوصا إذا امتلكت بعض الفهم لحركتها.
يمكن مقاربة هذا الكتاب بإحدى طريقتين، كما يقول المؤلف، فيمكنك من جهة قراءته لفهم التحديات التي واجهها الرحالة وهم يحاولون العثور على طريقهم عبر مسافات طويلة، والطريقة التي عالجوا فيها مشكلات صعبة باستخدام مهاراتهم. من جهة أخرى، يمكن استخدام هذا الكتاب كفرصة لاحتبار مهاراتهك في الملاحظة، وزيادة تقديرك لبيئتك، وربما تطوير خبرات تبقى معك طوال الحياة.