محمد البسام
كاتب علمي، ماجستير في إدارة الأعمال (الكويت)
” لاغنى عن العلوم المزودة بأدوات أفضل، ويجب أن تتقلص أوجه عدم المساواة في مجال العلوم، كما يجب أن تتسم بقدر أكبر من التعاون والانفتاح. وفي الواقع، فإن تحديات اليوم تشمل الكوكب عموماً، سواءً كانت متعلقة بتغيُّر المناخ أو بفقدان التنوع البيولوجي أو بسلامة المحيطات أو بالأوبئة، فعلينا حشد جهود العلماء والباحثين من العالم أجمع”. بهذه العبارات قدمت المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم الثقافة (يونسكو) أزولاي أودري للتقرير الجديد الذي أصدرته المنظمة في مجال العلوم، والمعروف بـ” تقرير اليونسكو للعلوم”.
وهذا التقرير، الذي يصدر مرّة كل خمس سنوات ويتضمن عرضاً لأحدث الاتجاهات السائدة في مجال حوكمة العلوم وعرضا للسياسات العلميّة في العالم، يشير بصورة واضحة إلى ازدياد الإنفاق في مجال العلوم على الصعيد العالمي بنسبة 19% بين عامي 2014 و2018، وزيادة عدد العلماء بنسبة 13.7%، في حين أصبحت هذه الزيادة أكبر في ضوء تفشي جائحة (كوفيد-19).
ويرصد الإصدار الأخير من التقرير، الذي صدر بعنوان “السباق مع الزمن من أجل التنمية بذكاء أكبر”، التقدم المُحرز على صعيد تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030، فضلاً عن التقدّم الحثيث للثورة الصناعية الرابعة، ويرصد تأثير جائحة (كوفيد-19) في مجالَي البحث والابتكار على مستوى العالم. لكن في الوقت نفسه تخفي هذه الأرقام وراءها تفاوتاً كبيراً؛ إذ ينفرد بَلَدان فقط بثلثي التقدم المحرز في مجال الإنفاق على البحث العلمي وهو ما يعادل تقريباً 63%، وهما الولايات المتحدة الأمريكية والصين، في حين لا تزال أربعة بُلدان من أصل خمسة متخلفة عن الركب بدرجة كبيرة، حيث تستثمر أقل من 1% من إجمالي ناتجها المحلي في البحث العلمي، ولذلك لا يزال المشهد العلمي مقترناً بالقوة إلى حدٍّ كبير.
ثورة الذكاء الاصطناعي
أفرد التقرير مساحة كبيرة للحديث عن التطورات التي أحدثتها الثورة الصناعية الرابعة في العالم، ولاسيما الذكاء الاصطناعي والتحكم الآلي، والتغيير الكبير الذي أدخلته تلك الثورة على جميع مجالات الحياة.
ويبين التقرير أن مجالَي التحكم الآلي والذكاء الاصطناعي يتّسمان بحيوية خاصة، إذ شهدا نشر أكثر من 150 ألف مقال خلال عام 2019، كما ازدهرت البحوث في هذين المجالَين في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا، حيث ساهمت في 25.3% من المنشورات الصادرة في هذا المجال في عام 2019، في حين أسهمت هذه البلدان في 12.8% فقط من المنشورات خلال عام 2015. واعتمد أكثر من 30 بلداً خلال السنوات الخمس الأخيرة استراتيجيات محدّدة، ومن بين هذه البلدان هناك الصين وروسيا والولايات المتحدة والهند وموريشيوس وفييتنام.
المنشورات العلمية
لا يزال الدرب طويلا قبل أن تتمكن العلوم من الإسهام بكل إمكاناتها في خدمة التنمية المستدامة، لذا فإنه يحث على العمل على توفير الأدوات اللازمة للعلوم.
ويذكر التقرير أنه على صعيد المنشورات العلمية هناك زيادة في التعاون العلمي الدولي خلال السنوات الخمس الأخيرة، لكن ذلك التعاون يشمل منشوراً واحداً من كل أربعة منشورات. وعلى الرغم من الزخم الجماعي الكبير الذي تَوَلَّد نتيجة المعركة ضد كوفيد-19، لا يزال طريق البحث العلمي في جزء كبير من الكرة الأرضية يواجه تحديات متنوعة. وشهد العالم زيادة كبيرة في المنشورات العلمية المعنية بتطبيقات الثورة الصناعة الرابعة ولاسيما الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة.
وعلى سبيل المثال، لا يزال معظم الباحثين عاجزين – إلى حد كبير- عن الانتفاع بأكثر من 70% من المنشورات. ويوثّق التقرير الجهود المبذولة من أجل تذليل هذه العقبات التي تُسفر عن حدوث تفاوت وانعدام الفعالية. وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب العمل بنماذج جديدة لنشر المعارف العلميّة وتعميمها في المجتمع. وهذه هي الغاية التي تصبو إليها اليونسكو، التي تعمل منذ عام 2019 على إعداد وثيقة تقنينية عالمية في مجال العلم المفتوح. وإذا اعتُمدت التوصية خلال المؤتمر العام المقبل لليونسكو الذي سيعقد في نوفمبر 2021، فستزوّد المجتمع الدولي بتعريف وبإطار مشتركَين من أجل تطوير العلم الذي يمتاز بقدر أكبر من الشفافية والشمولية والفعاليّة التي يحتاج إليها العالم.
ولا يزال الاستثمار أقل بكثير في مجالات البحث الأخرى، على الرغم من أهميتها المحورية لمستقبل الكرة الأرضية؛ فقد صدر 2500 مقال فقط خلال عام 2019 عن احتجاز الكربون وتخزينه، أي بمعدل يقل بستين مرة عن المقالات الصادرة في مجال الذكاء الاصطناعي. وما فتئت البحوث في مجال الكربون تتراجع في ستة من البلدان العشرة الرائدة في بحوث هذا الميدان (كندا وفرنسا وألمانيا وهولندا والنرويج والولايات المتحدة، وتعتبر الأخيرة الرائدة الحالية في هذا المجال). وعلى المنوال نفسه، يبقى مجال الطاقة المستدامة غير مستكشف على نحو كافٍ، إذ بلغت نسبة المنشورات في هذا المجال في عام 2019 نحو 2.5% على الصعيد العالمي.
وتسببت جائحة كورونا في خسائر بشرية واقتصادية فادحة، لكنها أدت أيضا إلى تنشيط أنظمة إنتاج المعرفة، وكان هناك حشد غير مسبوق، وسباق محموم لصناعات العلوم الحيوية لتطوير العلاجات واللقاحات. وازداد عدد الأبحاث المتعلقة بالفيروسات الجديدة أو التي عاودت الظهور خلال الأوبئة، وكان هناك 7471 منشورًا عن هذا الموضوع في عام 2019، بلغ نصيب الولايات المتحدة منها 35%.
التنوع في مجال العلوم
يشدِّد التقرير على أهمية التنوّع في مجال العلوم، إذ يجب أن تشارك البشرية جمعاء في تطوير هذا الميدان الحيوي. ويُشير إلى أنّ النساء يمثّلن ثلث عدد الباحثين في العالم فقط. وإذا كان التكافؤ بين الجنسين شبه مُحقّق في مجال علوم الحياة، فإنّه لا يزال بعيد المنال في عدد من القطاعات التي تكتسب أهمية متزايدة. فعلى سبيل المثال، تمثّل النساء 22% فقط من العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يمثل معضلة حاضراً ومستقبلاً لأنه لا يمكننا السماح بتكرار أوجه عدم المساواة في المجتمع أو استفحالها، في كنف علوم المستقبل.
ويجب على العلوم حشد البشرية تحت مظلتها من أجل مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل. وبهذا الصدد، يحثُّ التقرير على إعادة ثقة الجمهور في العلوم، ويعتبر تبسيط العلوم حليفاً أساسياً لتحقيق هذا الغرض. ولا يكاد يمر يوم إلا وتساهم فيه العلوم برسم ملامح عالم الغد، الأمر الذي يقتضي إعطاء الأولوية للاستدامة، التي تمثل الهدف المشترك للبشرية في السياسات العلمية الطموحة.
العلوم في الوطن العربي
تطرق التقرير إلى حالة العلوم في الأقطار العربية بصورة عامة، وإلى الحالة التي يشهدها كل بلد عربي بصورة خاصة، مشيرا إلى التفاوت الكبير في الإنفاق على البحث العلمي بين دولة وأخرى، وإلى التباين الحاد في عدد المنشورات العلمية الصادرة عن كل منها، وإلى التحديات التي تواجهها كل دولة، وإلى المزايا التي تجمع منطقة معينة كدول الخليج العربي.
من حيث الإنفاق على البحث العلمي فإن الدول العربية لم تتقدم كثيرا؛ إذ ارتفعت النسبة من 0.48% عام 2014 إلى 0.59% فقط عام 2018، وهذا الأمر يعزى بصورة أساسية إلى المشكلات السياسية والصراعات الداخلية التي شهدتها المنطقة، والتي أثرت سلبا في أمور كثيرة أهمها النمو الاقتصادي.
ويبين التقرير أن الإمارات سجلت أعلى زيادة في المنطقة في الإنفاق على البحث العلمي، إذ ارتفع من 0.69% عام 2014 إلى 1.30% عام 2018، تلتها مصر التي استثمرت عام 2018 ما قيمته 0.72% من دخلها العام، مقابل 0.64 عام 2014، مبينا أن الإمارات ضاعفت إنفاقها على البحث العلمي، لتسهم حاليا بما نسبته 0.42% من الإنفاق العالمي على ذلك المجال.
وهذه الزيادة المتفاوتة في الإنفاق على البحث العلمي قابلتها زيادة في عدد الباحثين، حيث شهدت المنطقة العربية متوسط زيادة طفيفة، إذ ازداد العدد من 536 باحثا لكل مليون نسمة عام 2014، إلى 682 باحثا عام 2018.
واحتلت الأردن المرتبة الأولى عربيا في زيادة عدد باحثيها، وتفوقت بذلك على الكثير من دول العالم، حيث سجلت نسبة تقارب 150%، تلتها العراق 60%، ثم البحرين 58%، فالإمارات 20%.
وأشار التقرير إلى عدد من التحديات التي تواجه الدول العربية مثل ندرة المياه وتآكل التربة والتدهور البيئي، في حين تسعى تلك الدول إلى الاستثمار في مراكز حضرية مستدامة عالية التقنية، كمصر، التي حددت مجموعة من مبادئ الاستدامة لمدنها الجديدة، ومنها الحد الأدنى لنصيب الفرد من الأرض وتركيب الألواح الشمسية.
واحتلت دول الخليج العربي مكانة متميزة في بعض التطبيقات التي حدثت نتيجة الثورة الصناعية الرابعة، فقد كانت تلك الدول من بين الأوائل في العالم في إطلاق شبكات الجيل الخامس الخاصة بالاتصالات. وافتتحت السعودية مركزًا متميزا للثورة الصناعية الرابعة يضم عددا من الباحثين المتخصصين، فيما تخطط الإمارات لدمج تقنية بلوكتشين (سلسلة الكتل) في الخدمات والمعاملات الحكومية لاسيما المتعلقة بالأمور المالية. وثمة تحد كبير تواجهه الدول العربية يتمثل في ضمان توفير المؤسسات التعليمية لقوة عاملة مدربة ومؤهلة للعمل في مهن عديدة يحتاج إليها المجتمع. وصار تسخير الثورة الصناعية الرابعة أولوية سياسية واضحة، فقد تبنت السعودية والإمارات استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، وتخطط الجزائر ومصر وتونس لفعل الشيء نفسه، في حين أطلق المغرب برنامجا بحثيا في مجال الذكاء الاصطناعي.