محمد المندعي
كاتب علمي (اليمن)
لطالما حلم الإنسان بالإكسير السحري الذي يتمتع من خلاله بشباب دائم، وحياة مديدة. ولا يزال هذا الحلم يلازمه حتى اليوم، ويأمل تحقيقه في ضوء التطورات التي شهدتها العلوم المعنية بذلك. ويجهد العلماء والباحثون في علم دراسة الشيخوخة لإيجاد ترياق ناجع لعلاج شيخوخة الخلايا والحد من تقدمها، ومن ثم العودة بها سنوات طويلة لتكون فتية وشابة. ويبدو أن العلاج باستخدام الأكسجين مُفْرِط الضَّغط سيكون واعدا في هذا الشأن وفق دراسات عدة نشرت حديثا.
فقدان الوظائف البيولوجية
تعرف الشيخوخة بأنها الفقدان التدريجي للوظائف البيولوجية الذي يحدث مع التقدُّم في السن. وهناك سبب رئيسي يكمن وراء الهَرِم، هو حدوث تراكم بطيء، لكنه منتظم، في تلف الخلايا والجزيئات. ومردّ هذا التلف المنتظم عمليات الأكسدة ونواتجها الضارة القادرة على مهاجمة البروتينات والدنا(DNA).
ومن أهَمَّ النظريات المُفسَّرة للشَّيخُوخَة ما اكتشفتُه عام 1984 العالمتان إليزابيث بلاكبيرن وتلميذتها كارول غرايدر من أن نهايات الكروموسومات (الصبغيات) تحمل تركيباً يُسمَّى الغطاء الطرفي أو التيلومير، وهو شريط DNA مُستنسَخ من ست قواعد، والمسؤول عن بنائها جين يُسمَّى «تيب 1 – »TEP1 موجود على الكروموسوم 14، وهو الآمر الناهي في بناء إنزيم يُسمَّى الإنزيم الباني للأغطية الطرفية في الكروموسوم أو«تيلوميريز »Telomerase. وهذا الإنزيم يحافظ على بقاء مقدرة الخلية على الانقسام عن طريق تحكُّمه في بناء التيلومير الذي يقلّ وجوده تدريجياً مع تقدُّم العمر، وفي النهاية تقصر التيلوميرات حتى تصبح مجرَّد عقدة أو نتوء. وعند تلك النقطة تفقد الخلايا القدرة على الانقسام وتُصاب بالشيخوخة ثمّ تموت، وهو ما يُسمِّيه العلماء بالموت المبرمج للخلية. ومن ثَمَّ فإن الشيخوخة هي أمر مبرمج وفق أرفع مستويات البرمجة، وذلك لأنها تمس DNA الخلية.
إن الهرم والشيخوخة اللذين يُصيبان الخلايا الجسمية لا يُصيبان الخلايا التناسلية للإنسان (الحيوانات المنويّة والبويضات)، بمعنى أن الحمض النووي للخلايا التناسلية يحافظ على طوله، وهو لا يزيد ولا ينقص، ويبقى كما هو؛ نظراً لوجود إنزيم التيلوميريز الذي يعمل بشكلٍ خاص أثناء انقسام الحمض النووي للخلية فيقوم بتعويض وإصلاح المنطقة التي لا تجري مضاعفتها. وهذا الإنزيم يعمل بدقة متناهية لكي يحافظ على الكروموسومات ويحميها من النقصان. وفي العام 2009 نالت بلاكبيرن وغرايدر وجاك شوستاك معاً جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب لاكتشافهم قصة التيلومير.
علاج تاريخي
يتضمن العلاج بالأكسجين مُفْرِطُ الضغط تنفس الأكسجين النقي في بيئة مضغوطة. وهو علاج معروف لمرض تخفيف الضَّغْط (داءُ الغُوَّاص) الذي يعد أحد المخاطر المحتملة للغوص (غوص سكوبا). وفي غرفة هذا العلاج يزداد ضغط الهواء مرتين إلى ثلاث مرات أعلى من ضغط الهواء الطبيعي، ومن ثم تجمع الرئتان كمية من الأكسجين أكثر بكثير مما تتنفسه عند ضغط الهواء الطبيعي. وحينما يحمل الدَّم هذا الأكسجين الإضافي إلى جميع أنحاء الجسم فإنه يساعد على محاربة البكتيريا وتحفيز مواد تسمى عوامل النمو والخلايا الجذعية التي تعزز الشفاء.
ويوصف العلاج بالأكسجين مفرط الضغط بأنه تطبيق جديد لتقنية قديمة. وتاريخياً، فإن الطبيب البريطاني ناثانيال هينشو ربما كان أول شخص يستخدم الهواء المضغوط في غرفة تسمى الموطن Domicilium لتحقيق بيئة العلاج بالأكسجين مفرط الضغط. ويعود العمل بهذا العلاج إلى عام 1662. في ذلك الوقت ذكر الكيميائي والفيزيائي الإيرلندي روبرت بويل أن هناك علاقة عكسية بين ضغط الغاز وحجمه عندما تكون درجة الحرارة ثابتة. وشكّل قانون بويل الأساس للعديد من جوانب العلاج بالأكسجين مفرط الضغط، بما في ذلك الزيادة الطفيفة في درجة الحرارة المحيطة داخل الغرفة أثناء جلسات العلاج.
وشهد القرنان اللاحقان دراسات عدة عن فوائد استخدام الضغط الزائد للعلاج بالأكسجين. وبحلول عام 1877 اسُتعملت غرف الضغط العالي لمجموعة واسعة من الحالات، على الرغم من النقص العام في الفهم العلمي أو الأدلة حول آلية عملها أو فعاليتها. في بداية الأمر استُخدم في هذه الغرف الهواء المضغوط وليس الأكسجين، بناءً على مخاوف بشأن سُمِّيَّة الأكسجين حتى عام 1917 حينما استخدم المخترعان الألمانيان برنارد وهاينريش دراغر الأكسجين المضغوط لعلاج مرض تخفيف الضغط الناتج عن حوادث الغوص.
منشأة طبية
في عام 1921 بنى الطبيب أورفال كونينغهام غرفة عالية الضغط في مدينة كانساس الأمريكية بعد ملاحظته أن معدلات انتشار المرض والوفيات من جائحة الأنفلونزا الاسبانية كانت أكبر في المرتفعات الأعلى منها في المناطق الساحلية، وهو ما عزاه إلى الضغط الجوي. وبعد ذلك افتتاح كونينغهام منشأة كبيرة للعلاج بالأكسجين مفرط الضغط على شاطئ بحيرة إيري في كليفلاند بأوهايو عام 1928، وكانت على شكل كرة بلغت كلفة إنشائها مليون دولار، ووزنها 900 طن، وقطرها 64 قدما، وارتفاعها خمسة طوابق، وجهزت بـاثنتي عشرة غرفة نوم في كل طابق. كانت المنشأة تعرف باسم كونينغهام سانيتاريوم، وهي أول محاولة في تأريخ البشرية لإيواء الناس في مثل هذا الهيكل الفريد.
والمعلومات المتاحة بشأن العلاجات التي قدمتها المنشأة نادرة. ومع ذلك تشير السجلات التاريخية إلى أنها عالجت مرضى يعانون مجموعة متنوعة من الأمراض، بيد أنها ركَّزت على مرض السكري؛ إذ كان كونينغهام يعتقد أن العديد من الأمراض مثل مرض السكري والسرطان تسببها الكائنات اللاهوائية التي يمكن أن تُقتل بالتعرض للأكسجين. وقد تلقى انتقادات من الجمعية الطبية الأمريكية لأنه فشل في توثيق ادعاءاته بشأن فعالية العلاج بالأكسجين مفرط الضغط على الرغم من الطلبات العديد له لفعل بذلك.
وبعد مدة وجيزة من نشاط تلك المنشأة توقف عملها في عام 1937. وفي العام نفسه استند ألبرت بهنك ولويس شو إلى عمل هاينريش دراغر في علاج مرض تخفيف الضغط، واستخدما الأكسجين بدلا من الهواء المضغوط. وقد أدى عملهما إلى استعمال أول مزيج من النيتروجين والأكسجين والعلاج بالضغط العالي وفقا لشدة الإصابة.
لم يلق العلاج بالأكسجين الكثير من الاهتمام لعلاج حالات طبية بخلاف مرض تخفيف الضغط حتى عام 1956 عندما أبلغ جراح القلب الهولندي إيت بويريما Ite Boerema عن استخدام العلاج بالأكسجين مفرط الضغط كمساعد في جراحة القلب والرئة. ثم ظهرت تقارير واعدة عن توظيف العلاج بالأكسجين مفرط الضغط من قبل الجراح الهولندي ويليم بروملكامب Willem Brummelkamp الذي ذكر عام 1961 أنه ثبط الالتهابات اللاهوائية بالعلاج بالأكسجين مفرط الضغط.
ومنذ ذلك الحين عُدَّ الأكسجين مفرط الضغط أحد العلاجات الممكنة لحالات مرضية عدة مثل التسمم بأول أكسيد الكربون والالتهابات والحروق والرضوض.
الأكسجين والشيخوخة
في تجربة مثيرة للاهتمام، تم عكس عملية الشيخوخة من الناحية البيولوجية للمرة الأولى عن طريق إعطاء البشر العلاج بالأكسجين في غرفة مضغوطة. واستوحى الباحثون المعنيون بالتجربة ذلك من تجربة التوائم التي أجرتها الوكالة ناسا، حيث أُرسل أحد التوأمين إلى الفضاء الخارجي وبقي الآخر على الأرض.
برهنت التجربة على وجود اختلاف كبير في طول التيلومير لكلا التوأمين؛ فبينما قصرت بعض التيلوميرات للتوأم الفضائي نما بعضها الآخر على نحو كبير على عكس كل التوقعات. من هنا أدرك الباحثون أن التغيرات في البيئة الخارجية تؤثر في التغيرات الخلوية الأساسية التي تحدث مع التقدم في العمر.
أظهر العلماء في دراسة استندت إلى تلك التجربة ونشرت في مجلة Aging أن باستطاعتهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في منطقتين رئيسيتين من الجسم يعتقد أنهما مسؤولتان عن الضعف واعتلال الصحة اللذين يصاحبان تقدم العمر.
فمع تقدم الناس في العمر، تقصر الأغطية الواقية الموجودة في نهايات الكروموسومات – التيلوميرات- مما يتسبب في تلف الحمض النووي وتوقف الخلايا عن الانقسام. في الوقت نفسه، تتكدس الخلايا الشائخة في الجسم مما يمنع تجدد الخلايا. وزيادة طول التيلومير والتخلص من الخلايا الشائخة هما محور العديد من دراسات مكافحة الشيخوخة، ومن ثم يتم تطوير الأدوية لاستهداف تلك المناطق.
وشملت التجربة 35 شخصا ممن كانت أعمارهم تزيد على 64 عاماً، ولم يخضعوا لأي تعديل في نمط الحياة أو النظام الغذائي أو الأدوية. ووضع كل شخص في غرفة الضغط العالي لمدة 90 دقيقة خمسة أيام في الأسبوع على مدار ثلاثة أشهر، في حين كان يتنفس الأكسجين بنسبة 100% من خلال قناع.
تسمح الغرفة المضغوطة بإذابة المزيد من الأكسجين في الأنسجة وتحاكي حالة نقص الأكسجة Hypoxic المعروفة بتأثيرها المجدد للخلايا. فالأيض الفعال يعتمد بشكل كبير على نطاق علاجي ضيق من الأكسجين. وفقًا لذلك، تعد المستويات المنخفضة من الأكسجين، أو نقص الأكسجة، من أقوى المحفزات للتغير الجيني والتغيرات الأيضية والعمليات التجديدية، بما في ذلك تكوين الأوعية وتحفيز تكاثر الخلايا الجذعية، والهجرة، والتمايز.
وقدَّم كل مشارك عينات دم قبل المعالجة وأثناءها وبعدها، وكذلك بعد فترة من الانتهاء من العلاج، ثم جرى تحليل خلايا مناعية مختلفة في الدم ومقارنة النتائج. فتبين أن العلاج بالأكسجين عالي الضغط عكس فعلا عملية الشيخوخة في جانبين من جوانبها الرئيسية: نمت التيلوميرات في نهايات الكروموسومات أطول مما كانت عليه بمعدل 20%-38% لأنواع الخلايا المختلفة، وانخفضت الخلايا الشائخة انخفاضاً ملحوظاً بنسبة تتراوح ما بين 11%-37% من إجمالي عدد الخلايا اعتماداً على نوع الخلية، وهو إنجاز لم يتحقق من قبل.
ورأى الباحثون أن نمو التيلوميرات يعني أن طولها أصبح مثلما كان قبل 25 عاماً، كما أن تقليل نسبة الخلايا الهرمة أفسح المجال لإعادة نمو الخلايا السليمة الجديدة. وأظهرت دراسات أخرى أُجريت على الحيوانات أن إزالة الخلايا الشائخة تطيل العمر المتبقي بأكثر من الثلث.
آفاق واعدة
لما كان تقصير التيلومير اليوم يعد الكأس المقدسة لبيولوجيا الشيخوخة، فإن الباحثين في جميع أنحاء العالم يحاولون تطوير تدخُّلات دوائية وبيئية تسمح بإطالة التيلومير. والبروتوكول العلاجي المتبع في هذه التجربة أثبت فعلا عكس عملية الشيخوخة على المستوى الجزيئي الخلوي الأساسي.
وبينما كانت تجارب سابقة قد بيّنت أن اتباع نظام غذائي صحي وممارسة التمارين الرياضية المكثفة لمدة ستة أشهر يطيلان التيلوميرات بنسبة تصل إلى 5%، فإن هذه الدراسة تمكنت – في غضون ثلاثة أشهر فقط – من تحقيق استطالة تيلوميرية كبيرة بمعدلات تتجاوز بكثير أيا من التدخُّلات الحالية المتاحة أو تعديلات نمط الحياة.
كان حجم العينة في تلك الدراسة صغيرا، وهي تحتاج إلى التكرار، مع زيادة العينة وتنوعها. ومع ذلك فإنها فتحت الباب أمام إجراء مزيد من الأبحاث حول التأثير الخلوي للأكسجين مفرط الضغط وقدرته على عكس عملية الشيخوخة.