د.أحمد عبد الحميد
لطالما كان الترابط بين البيئة الطبيعية وصحة الإنسان مصدر قلق، لكن خطر تفشّي الأوبئة يضعه اليوم في مركز الصدارة. وفي الوقت الحالي، بات واضحاً أن البيئة الطبيعية الصحية هي شرط أساسي لصحة البشر.
هذه العبارة كانت إحدى الخلاصات الرئيسية لتقرير (الصحة والبيئة في البلدان العربية) الذي شارك أكثر من 150 أستاذاً وخبيراً من جامعات ومراكز أبحاث عربية وأجنبية في إعداده ومراجعته، وصدر عن المؤتمر السنوي الثالث عشر للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) الذي عقد يومي 10 و11 نوفمبر الماضي في بيروت ضمن سلسلة تقارير (وضع البيئة العربية)، الذي رعته جهات عدة منها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
وكانت كلية العلوم الصحية في الجامعة الأمريكية ببيروت الشريك الأساسي في إعداد التقرير، وساهم باحثون من جامعة الخليج العربي في البحرين، وجامعتي القاهرة والإسكندرية ومؤسسة كيمونيكس للاستشارات البيئية في مصر، وجامعة القديس يوسف في بيروت في إعداده، إضافة إلى المركز الإقليمي لصحة البيئة التابع لمنظمة الصحة العالمية. وتَشارَك في تحرير التقرير الذي ضم سبعة فصول الأمين العام لـمنتدى (أفد) نجيب صعب، ورئيسة قسم الصحة البيئية في الجامعة الأمريكية ببيروت الدكتورة ريما حبيب.
تكامل الصحة والبيئة
في الفصل الأول يركز التقرير على التكامل بين الصحة والبيئة، وذلك وفقاً لمعادلة تقوم على استحالة وجود مجتمع إنساني يتمتع بصحة سليمة إذا كانت البيئة الطبيعية ملوثة، في مقابل استحالة الوصول إلى بيئة سليمة في مجتمع تتدهور فيه صحة الإنسان. إن معدل الوفيات المنسوبة إلى العوامل البيئية آخذٌ في الارتفاع، وهو يقدّر حالياً بنحو 23 % من مجموع الوفيات في المنطقة العربية. ويسلِّط التقرير الضوء على المخاطر الصحية البيئية الرئيسية التي تواجهها المنطقة، مع التشديد على التوصيات والدروس التي يمكن تعلّمها من الأزمات البيئية والصحية، السابقة والحالية، بما في ذلك جائحة كورونا (كوفيد-19).
وتواجه المنطقة العربية مجموعة من العوامل الخطرة المؤثرة في الصحة، منها ممارسات التنمية غير المستدامة، وحالات الطوارئ الإنسانية الناجمة عن النازحين واللاجئين، والتوسّع الحضري السريع، وتضاؤل الموارد الطبيعية، وتدهور الأراضي. وقد أدّت عوامل الخطر هذه إلى العديد من العواقب الملحوظة، كتلوث الهواء وإدارة مياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة على نحو غير ملائم، وأخيراً جائحة كورونا. ويُعدّ تلوث الهواء من أكثر المشكلات البيئية شيوعاً في البلدان العربية، وتتزايد الوفيات الناتجة من سوء نوعية الهواء بشكل ملحوظ. كما أن العصرنة والنمو السكّاني يولّدان المزيد من النفايات، التي تُعالج بعد ذلك بطريقة سيئة، الأمر الذي يزيد المخاطر الصحية تفاقماً.
وكشفت جائحة كورونا المستمرة منذ نهاية 2019 ضعف أنظمة الرعاية الصحية في المنطقة العربية، والقدرة المحدودة في معظم البلدان على التعامل مع الأزمات الصحية الطارئة. كما أظهرت الجائحة أنه لا يمكن الحفاظ على صحة الناس فقط باستهداف المجموعات التي يمكنها تحمّل تكاليف خدمات الرعاية الصحية. فالهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة هو وجوب توفير “الصحة للجميع”، لا للقادرين فحسب.
وتظهر التقديرات أن أكثر من 676 ألف مواطن عربي سيفقدون حياتهم قبل الأوان سنة 2020 نتيجة التعرض للمخاطر البيئية التقليدية. وسيرتفع هذا الرقم مع ظهور مزيد من عوامل الخطر البيئية وتأثيراتها، بما فيها الجوع وسوء التغذية. لذا تستدعي التحديات التي تواجهها المنطقة العربية تحولاً كبيراً في طريقة إدارة أولويات الصحة البيئية.
ويوصي التقرير الدول العربية بالعمل بمزيد من الجدية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتعاون في ما بينها للاتفاق على سياسات بيئية قوية مشتركة، وتصميم استراتيجيات أكثر فاعلية للحدّ من تغيُّر المناخ والتكيُّف، تُركّز على الصحة إجمالاً، وبصورة عامة، تحسين تقويمات المخاطر الصحية وجمع البيانات لتزويد صانعي السياسات العرب بالأدوات الصحيحة لمواجهة التحديات البيئية والصحية المحيطة.
موارد المياه والصرف الصحي
يتطرق التقرير إلى مشكة المياه في الدول العربية، فيرى أن الافتقار إلى خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية الآمنة يعد أحد المخاطر البيئية الرئيسية التي تواجه المجتمعات العربية. وقد سلّطت جائحة كورونا الضوء على أهمية خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة في المنطقة. والأكيد أن توفير إمدادات المياه السليمة الكافية، والصرف الصحي المناسب ومرافق غسل اليدين، إلى جانب زيادة الوعي، أمور ضرورية للحدّ من انتشار أي عدوى، بما في ذلك فيروس كورونا المستجد. لكن البيانات الأخيرة تنطوي على أرقام مقلقة؛ إذ يفتقر نحو 50 مليون عربي إلى خدمات مياه الشرب الأساسية، كما أن 74 مليون شخص في المنطقة لا يحصلون على خدمات الصرف الصحي الأساسية. وتظهر التقديرات أن خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة السيئة هذه هي السبب في حدوث 40 ألف وفاة مبكرة سنوياً، كان في الإمكان تجنّبها.
وهناك تسع دول فقط من أصل 22 دولة عربية تسير على الطريق الصحيح لتحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة من حيث المياه النظيفة والصرف الصحي. وتواجه المنطقة عدداً كبيراً من العوائق التي تمنع التقدم نحو تحقيق هذا الهدف، بما في ذلك الصراعات وعدم الاستقرار، التي أثّرت في أنظمة إدارة المياه. لذا يتعيّن على الحكومات تطوير وتنفيذ برامج متكاملة للمياه والصرف الصحي، والتزام التمويل والتنفيذ سريعاً.
تلوث الهواء
يرى التقرير أن النمو الاجتماعي والديموغرافي والاقتصادي في العالم العربي أدى إلى زيادة الطلب على الطاقة والسيارات في السنوات الأخيرة. وقد ساهم ذلك، إضافة إلى عوامل أخرى، في زيادة تلوث الهواء إلى معدلات باتت تشكّل خطراً كبيراً على السكان. وغالباً ما تتجاوز المستويات المسجّلة لتلوث الهواء ما بين خمسة وعشرة أضعاف الحدود التي وضعتها منظمة الصحة العالمية. وتعدّ مدن عربية عدة من المدن الـ20 الأكثر تلوثاً في العالم. وفي كثير من البلدان في المنطقة العربية سُجّل ارتفاع كبير في عدد الوفيات التي تُعزى إلى تلوث الهواء الداخلي والخارجي. كذلك، فإن العبء الإجمالي للمرض الناجم عن تلوث الهواء آخذ في الازدياد، مع ارتفاع معدل انتشار أمراض القلب والرئة، والإصابة بالسرطان، والمزيد من حالات الربو. وقد أشاع ظهور فيروس كورونا وانتشاره إحساساً إضافياً بالضرورة الملحّة لتحسين نوعية الهواء، إذ أظهرت الدراسات أدلّة على العلاقة بين تلوث الهواء وزيادة الحالات وحدّتها.
ومن أجل إدارة جودة الهواء على نحو صحيح في المنطقة، يتعيّن تحسين تقويمات المخاطر الصحية بناءً على دراسات رصد الهواء والنمذجة. فإدارة المخاطر ستزوّد صانعي السياسات العرب بالأدوات الصحيحة للسيطرة على التهديدات الصحية، وتخصيص الموارد، وترتيب البدائل العلاجية، مما يؤدي في النهاية إلى الحدّ من تأثير تلوث الهواء في الصحة العامة.
النفايات الصلبة
يسلط التقرير الضوء على مشكلة النفايات الصلبة التي بات توليدها يتزايد في المنطقة العربية بمعدّل يُنذر بالخطر، نظراً إلى النمو السكاني والتغيُّرات في أنماط الاستهلاك والإنتاج. ويجري التخلص من 53 % من كل النفايات برميها عشوائياً. ويؤدي هذا إلى تلوث خطير للهواء والتربة والمياه، بما له من آثار كبيرة في صحة السكان. ووجدت الدراسات انتشاراً كبيراً لاضطرابات الجهاز التنفسي، مثل ضيق التنفس والتهاب الحلق والسعال، إلى جانب ارتفاع درجة الحرارة والتهابات العين والجهاز الهضمي، من مجموعة مشكلات صحية تُعزى – إلى حد كبير – إلى الإدارة غير السليمة للنفايات.
كما أن قطاع الرعاية الصحية نفسه يعدّ مساهماً رئيسياً آخر في تدفّق النفايات الخطرة، التي لا توجد قوانين تحكم التعامل معها في دول عدة. وزادت جائحة كورونا استعمال العناصر ذات الاستخدام الواحد، مثل الأقنعة والقفازات وعبوات تعقيم اليدين، التي ينتهي جزء كبير منها في البحار وعلى الشواطئ.
البيئة البحرية
وكان للبيئة البحرية نصيب وافر من مساحة التقرير، وأظهر أن التصريف المباشر لمياه الصرف الصحي غير المعالجة في المناطق الساحلية، والتنقيب عن النفط واستخراجه في البحر، والمواد البلاستيكية الدقيقة، يؤثر في صحة المجتمعات العربية.
وتُنتج الدول العربية حالياً نحو 12 بليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي سنوياً، يُعالج أقل من 60 % منها، ويعاد استعمال نصف كمية المياه المعالجة فقط. أما الكمية المتبقية، من مياه مبتذلة أو معالجة جزئياً، فتصرف في البحار ومجاري الأنهار. وتؤدي مياه الصرف الصحي إلى انتشار مسببات الأمراض بين البشر.
كما يؤدي استهلاك المأكولات البحرية الملوثة بسموم الطحالب إلى عدد كبير من متلازمات التسمم بالمأكولات البحرية. ويؤدي تراكم الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في السلسلة الغذائية، من طريق الأسماك والمحار، إلى عواقب على صحة الإنسان.
تغيُّر المناخ
لايمكن لأي تقرير بيئي أن يغفل مشكلة تغير المناخ، لاسيما إذا كان يتطرق إلى العلاقة بين الصحة والبيئة، وهو ما فعله هذا التقرير، إذ أظهر أن تغيُّر المناخ يشكل خطراً صحياً عالمياً، تشمل آثاره المباشرة، التي تظهر من ارتفاع درجات الحرارة والظواهر الجوية المتطرفة وارتفاع مستوى سطح البحر، أمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض الجهاز التنفسي وضربات الشمس. ومن أبرز الآثار غير المباشرة انتشار الأمراض المنقولة من طريق المياه والأغذية والحيوانات والحشرات، وانعدام الأمن المائي والغذائي، والنزوح والهجرة القسرية، والتأثيرات في الصحة العقلية والمهنية. كما يؤثر تغيُّر المناخ على نحو غير مباشر في الصحة بإعاقة التنمية المستدامة وتفاقم الفقر.
وتفيد المعلومات المتاحة أن تغيُّر المناخ فرض بالفعل عبئاً صحياً في المنطقة العربية، مما أدى إلى زيادة الوفيات ونسبة انتشار الأمراض من الأمراض المعدية وغير المعدية. ومن المتوقع أن تؤدي زيادة الحرارة درجة مئوية واحدة إلى زيادة معدل الوفيات بنسبة 3 %.
ولم يحظ تأثير تغيُّر المناخ على صحة السكان العرب بالاهتمام الكافي حتى الآن. وتفتقر المنطقة – إلى حدٍ كبير – إلى خطط التكيُّف الوطنية التي تتناول الاستجابات التشريعية والعملية، بناءً على المخاطر الصحية المتوقعة لموجات الحر والظواهر الجوية الشديدة وتلوث الهواء والأمراض المعدية. ومن المهم للمنطقة أن تكتسب فهماً أفضل للعوامل المختلفة التي تؤثر في نتائج تغيُّر المناخ على الصحة، من أجل تصميم استراتيجيات فعالة للتخفيف والتكيُّف.