يشهد جميع من ولد في زمن الخمسينيات وعاش إلى يومنا هذا تغيرا لم تشهده البشرية خلال قرون طويلة من العلوم والتجارب؛ فبعد الثورة العمرانية وغزو الفضاء وثورة الاتصالات أصبح العالم يستهلك مقدراته الطبيعية بسرعة هائلة ومخيفة تستوجب إيجاد حلول جديدة وفعالة ليتمكن من الاستمرار في الحياة ومواكبة متطلباتها.
وبعد أن بلغ عدد سكان الكرة الأرضية نحو 8 بلايين نسمة، سعت المنظمات العالمية المعنية بالمياه إلى تحديد حجم المياه الطبيعية العذبة المتوافر حاليا. وكان الخبر الصاعقة أن نسبة 3 % فقط هي المياه العذبة الصالحة، للاستهلاك والزراعة والصناعة أما البقية فهي مياه مالحة.
وعلى الرغم من ضآلة الكمية نسبة إلى حجم المياه على وجه الكوكب، فإنها مازالت تغطي نسبة %60 من الحاجات العامة، لكن كانت المفاجأة عندما بينت الإحصاءات أن مياه الشرب لا تتجاوز 0.005 % ، وأن النشاط الصناعي يستهلك %0.995 ، وأن الزراعة تستهلك %2.0، أي بمعدل %70 من المياه الصالحة للاستخدام.
وحاليا نحن أمام مفترق طريق يعيه كل فطن وتؤكده كل الاتجاهات، ومفاده أن العالم مقبل على أزمة مياه عذبة وأزمة غذاء ما لم يتم العمل على إيجاد حلول فعلية لوقف نزيف المياه وإيجاد بديل لإنتاج المحاصيل بطرق وتقنيات ذات كفاءة عالية، دون الإخلال بالتوازن البيئي المتضرر أصلا من النهضة العمرانية.
أولى محاولات الزراعة المائية
في عام 1665 ظهر أول سجل علمي لمحاولات الزراعة المائية لباحثين غربيين، وكانت متفرقة وعلى استحياء, واستمرت حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وظلت حبيسة المختبرات وغير مقبولة مجتمعيا، لكن في مساحاتهم الخاصة كان بعض المزارعين يجرون تجارب ناجحة لزراعة مائية حقيقية حتى أصبحوا يتقنونها ويبرعون فيها ويبشرون بأنها الحل الواعد لمشكلة الغذاء.
وظل السؤال يخيم على كل المزارعين والمهتمين بالشأن الغذائي: ماهي الزراعة المائية؟ وكيف تعمل؟ وهل هي آمنة أم خطرة على صحة الإنسان؟ وهل هي مكلفة؟ وكيف يمكن للزراعة المائية أن توفر المياه؟
فالزراعة المائية إحدى تقنيات الزراعة ولكن من دون تربة، وترتكز على أسلوب تغذية النبات عن طريق المحاليل السائلة حيث يتم خلطها بنسب محددة حسب حاجة النبات، والتربة هنا مجرد حاضن وحامل للنبات وجذوره والمغذيات بكل عناصرها، والاستغناء عنها ممكن إذا استطعنا احتضان النبات وجذوره في أي وسط يتوافر فيه عنصر الاستقرار والتغذية الصحيحة.
وهناك أنواع كثيرة من الأوساط التي تتدخل في الزراعة من دون تربة منها: (الكوكوبيت – البيرلايت – الفرموكولايت – الصوف الصخري – الصوف الزجاجي – الحجر البركاني – البوليمر – الورق) وغيرها من المواد التي تدعم مبدأ الاستقرار وإمكانية توصيل الغذاء، وهي تتفاوت في قدرتها على توفير جودة إنتاج ونمو نباتي حسب صفات كل منها.
إن الماء هو من جعل الزراعة المائية تحمل ذلك المفهوم الجديد (الزراعة من دون تربة) بحيث يتم توظيف الماء كوسط حامل للجذور (بعد مرحلة الإنبات من البذرة) وإمكانية تغذيتها عن طريقه -أي الماء- بشكل يفوق أي وسط آخر؛ لأن الماء يقوم بتسريع عملية التغذية بصورة مذهلة تتفوق على بقية الأوساط الزراعية بنسبة تتجاوز %40، بل وثبت أن للماء قدرة على توفير الأكسجين المذاب الذي تحتاج إليه الجذور للنمو بشكل صحي مادام جاريا أو مخلوطا بالهواء العادي.
ولما كنا نستخدم الماء كوسط بدلا من التربة، فمن المفيد أن نذكر أن صفات الماء الفيزيائية كثيرة ومتعددة، لكن أهم ما نحتاج أن نلتفت إليه في الزراعة هما صفتين:
أولا- الأس الهيدروجيني أو مقياس PH:
وهو المقياس الذي حدده العلم الحديث بالدرجات من 1 إلى 14 ، بحيث يكون الماء الطبيعي عند درجة 7 – أي المتوسط بالتدريج- وأي ارتفاع في الرقم سيجعل الماء يتحول إلى محلول قلوي، وأي انخفاض سيحوله إلى محلول حمضي، فالبشر مثلا بطبيعتهم الفطرية يستسيغون الماء البسيط القلوية مثل 7.2 إلى 8.0؛ لأن دم الانسان يميل إلى القلوية (7.35 – 7.45)، أما السبب الذي يرفع التدرج أو يتسبب في انخفاضه فهو نوع المواد المعدنية المخلوطة والمذابة فيه ونسبتها، فالبوتاسيوم والصوديوم من القلويات، والكلور والكبريت يعتبران حمضين إذا ما تمت إضافتهما وإذابتهما في الماء.
أما فيما يختص بالزراعة المائية فمن الأفضل لإبقاء عملية النمو متوازنة وضمان أفضل امتصاص للجذور موازنة المغذيات بنسب تجعل الماء يقع ما بين PH (5.5 – 6.45)، بحيث ترتفع نسبة سيولة الماء وقدرته على حمل المحاليل والمعادن المغذية بشكل أسرع إلى الجذور.
ثانيا- كمية المحلول المذاب في الماء ppm:
وهي وحدة قياس الأملاح في الماء لمعرفة كمية المعادن المذابة فيه (جزء في المليون)، ويعرف عن ماء الشرب أن النسبة المقبولة من المعادن لشرب الإنسان منه تراوح بين 150ppm و600ppm ، وأن أي ارتفاع لكمية المعادن المذابة سيشعر الإنسان بها.
وفي الزراعة المائية يتم تغذية النبات عن طريق الماء عبر تذويب المعادن المطلوبة بنسب تراوح بين 600ppm و2000ppm حسب عمر النبات وحجمه ونوعه ونوعية المحلول المضاف إليه، فالنباتات تختلف بطبيعتها الفيزيائية وتركيبتها الكيميائية وحاجتها إلى المعادن.
دور المعادن
المعادن هي المواد التي تغذي النباتات لتنمو وتنتج، وهي أكثر الأمور التي يخوض فيها العامة بالجدل كونها مواد كيميائية بالمفهوم العام. ونحن نقول: ما هو السماد في الأساس؟ أليس هو مجموعة من المعادن الموجودة في التربة والتي يقوم النبات (بواسطة البكتيريا) بتفكيكها وإذابتها مع ماء الري لتمتصها الجذور.
والمعادن المغذية هي في الأصل ثلاث مجموعات تم تقسيمها بناء على حجم الحاجة إليها لنمو النبات:
الأولى- العناصر الكبرى:
هي (الأكسجين O والهدروجين H والكربون C) وهي عناصر يتلقاها النبات تلقائيا من دون تدخل من الإنسان بمجرد أن يتم ري النباتات. وهناك معادن أخرى هي (النيتروجين N والفسفور P والبوتاسيوم K) تضاف إلى التربة بكميات كبيرة لأنها العناصر الأكثر طلبا من النباتات بصورة عامة، وهي تعرف بسماد NPK.
الثانية- العناصر الصغرى:
وأهمها (المغنيسيوم Mg والكالسيوم Ca والكبريت S)، وهي معادن يطلبها النبات كأساس في تكوينه ونموه، لكن بكميات أقل بكثير من العناصر الكبرى.
ثالثا- العناصر الحيوية:
وأهمها (الحديد Fe والمنغنيز Mn والزنك Zn والنحاس Cu والمولبيديوم Moوالبورون B والكلورين Cl)، وهي عناصر ضرورية لاكتمال صفات النبات كالطعم والشكل واللون والرائحة، كما أنها تمثل كميات قليلة جدا ويحتاج إليها النبات بكميات متفاوتة.
أما الضوء فيؤثر في النبات عندما تكون كثافته عالية فيخترق سطح الورقة ويصل إلى خلايا النبات ويندمج في مادة الكلوروفيل المسؤولة عن عملية البناء الضوئي، ويتمكن عندها النبات من النمو وتكوين مزيد من الخلايا. والضوء الصناعي المرئي في مصابيح البيوت غالبا لا يكفي للنمو؛ لأن كثافة الموجة الحاملة له ضعيفة، ومن السهل أن ينكسر على وجه الأوراق ولا يخترقها، لذا ينصح الراغبون في الزراعة الداخلية البعيدة عن الشمس بتوفير الإضاءة الخاصة بالنمو(Growing light).
أنظمة الزراعة المائية
ثمة أنظمة عدة للزراعة المائية تختلف كليا في الشكل وتشترك جميعها في المضمون، ولها صفات تعتمد على نوعية المحصول المراد استنباته، وأهم هذه الأنظمة:
أولا- نظام التدفق المستمر NFT (Nutrition film tech):
وهو نظام يتكون من مواسير وقنوات يجري فيها الماء بصورة مستمرة ليصل إلى الجذور ويغذيها بالماء والمعادن، ويتجدد من خلال نزوله إلى خزان تجميع (سقوط حر) يكتسب من خلاله بعض الأكسجين ويعاد ضخه إلى النباتات مرة أخرى. وهو مناسب جدا لزراعة الخس والفراولة والورقيات، مثل الكزبرة والشبت والبقدونس، ويوفر كميات مياه كبيرة لأن المياه يعاد تكرارها وتدويرها مرارا.
ثانيا- نظام العلب البلاستيكية (Dutch Bucket):
يتمثل في علب غالبا ما تكون بلاستيكية تعبأ بأحد الأوساط الزراعية المناسبة (كوكوبيت) وتغذى بالماء المحتوي على العناصر المغذية من الأعلى، حيث تحتفظ بكمية بسيطة من الماء في قاع العلبة لتقليل فترات الري وتشغيل المضخات. وهذا النظام يصلح لزراعة الخضراوات الثمرية كالطماطم والخيار والكوسا والفلفل.
ثالثا- نظام التغذية بالرذاذ الهوائي (Aeroponic):
وهو من الأنظمة التي تمتاز بتقنين عال جدا للمياه بحيث يعمل النظام بأقل كمية ماء يتم رشها على الجذور بعد خلطها بالهواء والمعادن المغذية. وهذا النظام يحتاج إلى طاقة كهربائية لأن المرشات تعمل بمضخات كهربائية، ويمكن زراعة الورقيات البسيطة في هذا النظام أو الفراولة لأنها ذات جذور قصيرة ويسهل ترطيبها، أما الثمريات فإنها تحتاج لضخ ماء متواصل.
رابعا- نظام الجذور العائمة (Fluting roots Tech):
وهو نظام يعتمد كليا على الماء في حمل وتغذية النبات عن طريق تركيب النباتات في ألواح من الفوم العائم وترك جذورها تسبح في وسط غني بالمغذيات. ويمتاز هذا النظام بقدرته على الإنتاج الكبير للورقيات كالخس والبصل الأخضر والنعناع.
خامسا- نظام الأحيومائي (السمكي) (Aquaponic):
وهو نظام خال من المحاليل المغذية، إذ تعتمد تغذية النباتات على الفضلات الناتجة عن تربية الأسماك في أحواض منفصلة تشكل نظاما تكافليا بين النبات والسمك، بحيث ينتج السمك الفضلات وتقوم النباتات بتنقية المياه. وبهذا النظام يمكن للمزارع إنتاج لحوم الأسماك إضافة إلى الخضراوات.
الزراعة المائية والنظم المستدامة
من مزايا الزراعة المائية عدم استهلاكها لكميات كبيرة من المياه وعدم حاجتها إلى أن ترتبط بمصادر مياه ضخمة؛ فلقد وفرت لنا تكنولوجيا توليد الماء من رطوبة الهواء إمكانية العمل دون حفر الأرض أو الحاجة إلى حرق الوقود الأحفوري لتحلية مياه البحر.
إن النقلة النوعية التي حققتها التكنولوجيا في تحقيق حلم النظام المستدام أصبحت واقعا ملموسا، وصار بإمكان الدول العمل على بنائه وتشغيله. وسنستعرض بعض المكونات التي تم تفعيلها للحصول على النظم المستدامة.
أولا- توليد المياه بواسطة التكثيف الهوائي للرطوبة:
بعد أن ثبت علميا أن كمية الماء الموجودة في الهواء على هيئة بخار تعد كمية ضخمة ويمكن الاستفادة منها بشكل مثمر – لأنها بلا أي أملاح – إضافة إلى نقاوتها، صنعت شركات عديدة مولدات مياه من البخار ذات كفاءة عالية تصل إلى 400,000 غالون يوميا للمحطة الواحدة، وهو أمر يمكنها من تغطية الحاجة لمياه الري بسهولة لإنتاج كميات كبيرة من الخضراوات والفواكه والأعلاف الحيوانية ومياه الشرب.
وتلك المحطات تعمل بالطاقة الشمسية أو طاقة الرياح أوبنظام التبادل الحراري.
ثانيا- استخراج المعادن المغذية من المخلفات العضوية لتغذية النباتات:
وهو أسلوب تسريع للواقع الطبيعي لتحلل المواد العضوية، فمن خلال عمليات الكومبوست التي ترتكز على دفن النفايات العضوية في التربة بطريقة معينة تحفز البكتيريا اللاهوائية والهوائية على تحللها وإرجاعها إلى صفاتها الأصلية التي يمكن إذابتها في الماء وتغذيتها للنبات. وانتشرت حديثا عملية تربية دودة الأرض الحمراء التي تهضم وتفكك النفايات العضوية وتخصب المكونات لتحولها إلى سماد صاف نظيف ومعقم، وذلك بسبب قدرتها الطبيعية على تنظيف الأرض من أي معادن ثقيلة أو مخلفات ضارة، وهذه الطريقة تعد أسرع من أسلوب الكومبوست.
ثالثا- توفير البيئة المناسبة للنبات (الحرارة والرطوبة والحماية)
نجحت في هذا المجال معظم المحميات الزراعية التي تسمى (البيوت الخضراء) والتي يمكن من خلالها تبريد المحيط أو تدفئته حسب حاجة وطبيعة النبات، ليكون بحالته الفطرية التي تمكنه من تقديم أعلى درجات الإنتاج الغذائي والنمو الخضري. وقد تطورت هذه التكنولوجيا بعد أن ظهرت محميات حديثة لها القدرة على التحكم في كل التفاصيل، ومنها التحكم في الغازات المحيطة بالنبات وتعزيز غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يرفع قدرات النبات على الإنتاج لدرجات قد تبلغ 4 أضعاف الإنتاج النمطي المعهود دون أي تدخل هرموني أو استخدام أي مبيدات أو مواد ضارة بحيث تكون العملية طبيعية %100، لكن في ظروف مثالية عالية الدقة.
رابعا- بنك البذور وتعددية الأصناف:
مع الثورة العلمية الأخيرة في تهجين أنواع من البذور ذات صفات عالية الجودة أصبح من السهل الحصول على بذور مضمونة الإنتاج وتحمل مستقبل الأمن الغذائي على عاتقها. وأود أن أبين أن أنواع البذور في المجمل: النوع الأول هو البذور التي تحمل صفات الأمهات الأصلية (وهي بذور تؤخذ من الثمار مباشرة ويعاد زراعتها)، وهي تنتج بشكل متواضع وغالبا ما تكون عرضة للآفات الزراعية بسهولة.
أما النوع الثاني فهو البذور المهجنة التي تم توليفها من أم مؤنثة وأب مذكر يحملان صفات مختلفة ومزايا يتم جمعها في جنين واحد لينعكس الإنتاج بشكل استثنائي مرة واحدة على النبات، والتي لا نستطيع بعدها أخذ بذور من الثمار وإعادة زراعتها؛ لأنها ستفقد الجينات المشتركة من أحد الوالدين وتبقى ضعيفة في الأجيال التي تليها.
النوع الثالث هو النوع الخطر والمرفوض علميا ومنطقيا، وهو البذور المعدلة جينيا والتي تم التلاعب في جيناتها لتصبح شيئا مختلفا وغير موجود في الطبيعة بتاتا. وهي غير معروفة النتائج والأثر وغالبا ما تظهر آثارها بعد عشرات السنين، على الرغم من قدراتها العالية على الإنتاج وعدم وجود حاجة لرشها بالمبيدات لأنها تحمل صفات المبيد داخلها بسبب التعديلات الجينية عليها.
فيما سبق استعرضنا الكيفية التي يمكن بها للتكنولوجيا أن تغير بوصلة مفهوم الأمن الغذائي، تمكننا من إيجاد حلول عملية لتوفير المواد الغذائية والأعلاف دون التأثير على البيئة بصورة سلبية، ومن تقليل النفايات العضوية واستعادة الاستفادة منها.
ويبقى الأمر رهنا بالقدرة الاقتصادية على إنشاء مشروعات ضخمة للزراعة المائية يعجز الفرد العادي عن إقامتها إذا لم يكن يمتلك رأس مال ضخما وقدرة تسويقية عالية. وقد أخذت الدول الغربية وبعض دول الشرق الأوسط تهتم بهذا النوع من الزراعة، وإطلاق مشروعات متميزة سينتشر صداها في القريب. >