د. أكرم أبوزيد
أستاذ مشارك، بيولوجيا الخلية والوراثة في جامعة قناة السويس (مصر)
بعد أن أثبتت الخلايا الجذعية فائدتها الكبيرة في علاج عدد من الأمراض المزمنة، وبدأ الباحثون بتطبيقات تجريبية لها في مجالات طبية أخرى، تنبه عدد من العلماء إلى إمكانية الاستفادة منها في تخليص الجسم من السموم المتنوعة، عن طريق فتكها بتلك السموم والقضاء عليها قبل أن تستشري في جسم الإنسان وتحدث به عاهات عدة، أو تودي به إلى الوفاة. والخلايا الجذعية، التي تسمى أيضًا الخلايا الجذرية (Stem Cells)، خلايا حية غير متخصصة، وهي المواد الخام في الجسم، وتتولد منها جميع الخلايا الأخرى ذات الوظائف المتخصصة. وفي الظروف المُناسبة في الجسم أو المختبر تنقسم الخلايا الجذعية لتكوّن مزيدًا من الخلايا.
وقد تتمايز إلى خلايا متخصصة، مع تميزها بقدرتها على الانقسام لتجدد نفسها باستمرار. والخلايا الجذعية من المكتشفات الطبية الحديثة نسبيًا، ويُعول عليها أن تكون مصدرًا مهمًّا لعلاج الكثير من الأمراض المزمنة والإصابات الخطيرة، كأمراض الكلى والكبد والبنكرياس وإصابات الجهاز العصبي والجهاز العظمي. وهذه الخلايا الوليدة إما أن تصبح خلايا جذعية جديدة (ذاتية التجديد) أو خلايا متخصصة (متمايزة) ذات وظيفة متخصصة أخرى، مثل خلايا الدم أو خلايا الدماغ أو خلايا عضلة القلب أو الخلايا العظمية، ولا توجد خلايا أخرى في الجسم لها هذه القدرة الطبيعية على توليد أنواع خلايا جديدة.
وتنتشر الخلايا الجذعية في الأعضاء وتستمر في الانقسام والتكاثر، وتبقى طويلة الأمد حتى آخر عمر الإنسان دون تغيير، لكنها قادرة على التخلق والتشكل والتمايز الخلوي للتحول إلى خلايا متخصصة، ومهمتها صيانة وترميم وتعويض ما يتلف ويفقد من الخلايا في الأنسجة والأعضاء المخلَّقة المتضررة يوميا داخل الجسم.
عزل الخلايا الجذعية
من الحقائق العلمية المعروفة في التنوع البيولوجي أن السّموم الطبيعية هي مواد كيميائية تصنعها النباتات أو الحيوانات لاستخدامات شتى، وأن بعضها قوي جدًا فتفتك بالبشر خلال زمن قصير جدًا، وبعضها أقل قوة فتحدث بهم عاهات مستديمة، أو تسبب لهم اضطرابات متنوعة تدوم أيامًا عدة أو ساعات ثم تذهب آثارها.
لكن ماذا لو تعرض إنسان لسم حيواني، واستفحلت الإصابة فأصابت مساحة واسعة من الجسم وأتلفت الخلايا الجذعية به، وتجاوزت قوة تدمير السّموم قدرة الخلايا الجذعية على صيانة وترميم ما يتلف من الخلايا في الأنسجة والأعضاء البشرية لتعويض خلايا الجسم الميتة والتالفة؟
في هذه الحال لا بديل عن نقل الأعضاء المعطوبة، واستبدالها. ونظرا لصعوبة تعويض أعضاء الإنسان وأنسجته، وأزمة وجود المتبرعين المناسبين، فقد نشأت فكرة تقنية عزل الخلايا الجذعية وزراعتها مختبريا في أطباق تحتوي على سائل مغذ لإنتاج عدد وفير منها، حيث باستطاعتها بعد تعرضها لإشارات كيميائية أن تتمايز بمسارات مختلفة لذات النوعية للنسيج الاصلي، وليس خلايا العضو الذي توجد فيه فحسب. فعلى سبيل المثال، يُمكن للخلايا الجذعية المستنبتة مختبريا من شخص ما أن تكوّن الخلايا العصبية وخلايا الدم، والعضلات المتطابقة نسيجيًا مع الشخص نفسه.
تقنية آمنة
كشفت البحوث العلمية المكثفة بدقة مذهلة عن تفاعل الخلايا الجذعية الخاصة بالأنسجة ودورها في مواجهة مخاطر السّموم المتنوعة ولاسيما الكيميائية، كما تم اكتشاف آليات استجابات الخلايا الجذعية للإشارات الذاتية التي تتولد بالجسم حال تسمّم الخلايا في الأنسجة والأعضاء المختلفة، التي تشكل في حقيقة الأمر إشارات نداء واستغاثة. تحدث هذه الاستجابات بصورة متسارعة ونشطة إذا تنبهت مستقبلات الخلايا الجذعية وتكون موجهة لمواجهة الإصابة بلدغة عقرب، أو عضة ثعبان، أو إذا تراكمت السّموم بالخلايا الموجودة في الأنسجة والأعضاء.
تتناسب الاستجابات مع درجة السُميّة تناسبًا طرديًا، فبقدر ما تكون قوة الإشارات القادمة لمستقبلات الاستشعار بالخلايا الجذعية يكون توجيه مهمتها بكل أنشطتها وعملياتها الحيوية لصيانة وترميم أو تعويض ما يتلف ويفقد من ذلك النسيج ومساعدته على تجديد خلاياه.
وأظهرت تقنية عزل الخلايا الجذعية من أنسجة وأعضاء الإنسان وزراعتها مختبريا لإنتاج عدد وفير منها أنها آمنة، كما أن نتائجها مشجعة. وعلى سبيل المثال، يستخدم الباحثون الخلايا الجذعية لفحص تأثير السُميّة واكتشاف مستويات السّموم المحتملة للعقاقير والطعوم قبل المعالجة بها. وأظهرت أبحاث شملت نشاط وتطوير هذه العقاقير والطعوم المختلفة أنه تم التخلص كلياً من تأثيرات السُميّة السلبية وتراكم السّموم في مجرى دم الأشخاص الذين يتناولون هذه العقاقير والطعوم، ما أدى إلى انخفاض نسبة الوفيات بين المرضى، وهو ما أثبته العلم والإحصائيات أخيرًا.
مضخة الصوديوم والبوتاسيوم
نظرًا لحاجة الخلايا إلى كميات كبيرة من الطاقة تتوجه الخلايا الجذعية لتوفير تلك الطاقة اللازمة للخلايا التي أصيبت وتراكمت السّموم فيها. وعادة ما تؤدي السموم إلى انتفاخ الخلايا بكميات زائدة من الماء بسبب تعرض غشائها لخلل في نفاذية الأملاح، لذا تحتاج إلى طاقة كبيرة لطرد الصوديوم ومعه الماء الزائد خارج الخلية، والإبقاء على البوتاسيوم داخلها، وهو ما يعرف بعملية مضخة الصوديوم والبوتاسيوم.تعمل الخلية على نقل أيونات البوتاسيوم والصوديوم عكس تدرج التركيز، ولها دور كبير في ثبات التركيز الأيوني على جانبي غشاء الخلية العصبية والعضلية.
وتسمح هذه المضخة بإدخال اثنين من أيونات البوتاسيوم مقابل إخراج ثلاثة أيونات صوديوم. وهذه المضخة هي المسؤولة عن ظاهرة عودة الاستقطاب للخلايا العصبية بعد ظهور جهد الفعل. واللافت في الأمر أنه إذا لم تستجب الخلايا الجذعية بالتوجه نحو الخلايا المصابة أو المريضة لأتلفت عملية الأيض في السيتوبلازم وتوقف التنفس الخلوي، لذا تنفذ الخلايا الجذعية عملية استراتيجية تمثل غالبًا جسر انتقال لعدد ملائم من عُضيات الميتوكوندريا لإنتاج طاقة أكبر من الأدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP)، لتضمن لها توفر الطاقة اللازمة لإتمام تفاعلات الهدم وتكسير السّموم ومواد البناء والالتئام، التي تشتمل على نشاط زائد لتكوين جزيئات وبروتينات جديدة، وهذه لا تتم إلا في وجود كمية كبيرة من الطاقة العالية الممثلة في صورة جزيئات الأدينوسين ثلاثي الفوسفات.
أبحاث سريرية واعدة
أظهرت الأبحاث نتائج مشجعة وواعدة عند نقل الخلايا الجذعية المستمدة من نخاع عظام متطوعين وتحفيزها ثم حقنها في المرضى المصابين بتمزق الأوعية الدموية وخطر النزيف الدموي المفاجئ الناجم عن لدغة عقرب أو عضة ثعبان أو تسمّم مدمر للخلايا، إذ كوَّنت الخلايا الجذعية شرايين جديدة بكفاءة عالية وقلصت احتمالية الحاجة إلى البتر.
يؤدي النزيف الدموي بسبب لدغة عقرب أو عضة ثعبان عادة إلى هبوط مفاجئ في ضغط الدم، فتتنبه له الخلايا الجذعية النسيجية بواسطة الإشارات المختلفة التي تنبعث من حطام الخلايا المتمزقة أو الميتة. وتعتبر تلك المستشعرات إشارات منشطة تحث مستقبلات الخلايا الجذعية على توجيه سلوكها بكل أنشطتها وقدراتها الحيوية لتمر بسهولة من خلال الشعيرات الدموية نحو الخلايا المصابة.
لا يكون محصلة ذلك صيانة وترميم الخلايا فحسب ولكن أيضًا تجديد وتعويض ما تلف من الخلايا في الأنسجة والأعضاء، وحينما تنبهت الخلايا الجذعية – سواء لتعرض الجسم لسّموم مثل العناكب والعقارب والثعابين، أو نتيجة لمرض داخلي أدى إلى تراكم السّموم في الخلايا كالسرطان مثلًا، أو غزو ميكروبي كثيف من فيروسات فتاكة وبكتيريا تفرز سمومها التراكمية في الخلايا والأنسجة- فإنها تتخذ الإجراءات اللازمة لتنقسم وتتكاثر بمعدلات أعلى من معدلها الطبيعي انقسامًا خلويا غير متماثل إلى خلايا جذعية بنوية متجددة وأخرى خلايا متخصصة تنمو، ومن ثم تتطور إلى الخلايا المطلوبة لتجديد وتعويض ما فقد من الخلايا تعويضًا سريعًا، لكي تحد من انتشار تأثير السموم في الأنسجة والأعضاء، ومن ثم التعويض بالسوائل ثم بالخلايا الدموية.
الخلايا الجذعية المستحثة
يكثف العلماء أبحاثهم على الخلايا الجذعية المستحثة Induced Stem Cells، وهي نوع من الخلايا الجذعية يتم اشتقاقه اصطناعيًا من خلايا غير وافرة القدرة، عادة من خلايا جسدية بالغة، بطرائق معينة لاستخدامها في الحد من تأثير السموم على البشر.
وتشبه الخلايا الجذعية المستحثة ذات القدرات المتعددة الخلايا الجذعية وافرة القدرة في العديد من الجوانب، مثل الخلايا الجذعية الجنينية، مثل تعبير جينات وبروتينات خاصة بالخلايا الجذعية، وزمن التضاعف، وتشكيل أجسام مضغية الشكل، وتشكيل الأورام المسخية.
وتم إنتاج الخلايا الجذعية المستحثة وافرة القدرة للمرة الأولى عام 2007 من خلايا بشرية، خلال سلسلة تجارب أجراها فريق الباحث شينيا ياماناكا في جامعة كيوتو باليابان، وفريق الباحث جيمس تومسون في جامعة ويسكونسين-ماديسون الأمريكية. ويشكل ابتكار الخلايا الجذعية المستحثة وافرة القدرة خطوة مهمة في أبحاث وزراعة الخلايا الجذعية؛ لأنها قد تمنح الباحثين فرصة للحصول على خلايا جذعية وافرة القدرة، وهو نوع مهم للأبحاث دون إجرائها على حيوانات التجارب، ودون استخدام الأجنة المثير للجدل.
وتكمن أهمية هذا النوع من الخلايا الجذعية في أنها مستحثة ومعاد برمجتها صناعيًا من الخلايا الجسمية (الجسدية)، فيمكن من خلالها حل مشكلات كبيرة كرفض الجهاز المناعي لنقل زراعة الخلايا والأعضاء لكونها من نفس خلايا المريض، إضافة إلى موضوعات أخرى تتعلق بأخلاقيات أبحاث واستخدامات الخلايا الجذعية.
ولكل هذه الأسباب وفرت الخلايا الجذعية المستحثة تطبيقات جديدة واعدة ذات مجالات علاجية ووقائية واسعة. ويمكن إعادة برمجة أنوية الخلايا الجسدية المأخوذة من شخص بالغ لتصبح خلايا جذعية وافرة القدرة، ما يعني أن لديها قدرات على التخلق والتشكل لتكوين أنواع متعددة من الخلايا المتخصصة في الأنسجة والأعضاء المختلفة.
وتظهر الأبحاث التي أجريت حديثًا على هذا النوع من الخلايا الجذعية إمكان إنتاج كميات كبيرة من الصفائح الدموية للمرة الأولى في العالم باستزراع خلايا جذعية مستحثة منتجة صناعيًا، وقد تستخدم كعلاج مكمل للسيطرة على حالات تمزق الأوعية الدموية وخطر النزيف الدموي الناتجة من الإصابة بالسّموم.