محمد المندعي
لطالما كانت الخفافيش (الوطاويط) مكروهة طوال التاريخ وفي شتى الثقافات، ولطالما نسجت عنها حكايات الرعب وقصص الخوف، وصورت عنها الأفلام صورة نمطية سلبية؛ باعتبارها كائنات ليلية تظهر في الظلام الدامس وتحاول الانقضاض على فرائسها، أو لتصويرها كمصاصي دماء لاستخدامها في الأفلام والروايات التي تتناول القصص المرتبطة بذلك. لكن الحقيقة تخالف تلك الروايات والأفلام، فالخفافيش كائنات مهمة لجميع المجتمعات في الأرض؛ فهي تساعد على مكافحة الحشرات ونثر البذور وتأبير أزهار الكثير من النباتات التي توفر الغذاء للإنسان والكائنات الأخرى، كما أنها مفيدة لاقتصادات الدول.
وعلى سبيل المثال، فمستعمرة واحدة من 150 خفاشا بنيا كبيرا تأكل نحو 1.3 مليون حشرة ضارة بالمحاصيل، وفي عملية حسابية تقريبية لمكافحتها للبعوض، وجد العلماء أن الخفاش الواحد يأكل نحو 500 بعوضة في الساعة وفي الليلة الواحدة يلتهم نحو 5000 بعوضة، وإذا فرضنا وجود مستعمرة من 200 ألف خفاش فستأكل بليون بعوضة كل ليلة، فضلاً عن أن فضلاتها تستخدم كسماد، وتدخل في صناعة الصابون والبنزين والمضادات الحيوية، ومن خلال استخدامها للموجات الصوتية ومعالجة الإشارات فقد ألهمت الإنسان وضع نماذج لأنظمة السونار.
الخفافيش مأوى للفيروسات
تتفاوت الخفافيش في الشكل والحجم، فكتل أجسامها تراوح بين غرامين للخفاش الطنان Bumblebee bat ثاني أصغر الثدييات المعروفة، وكيلوغرام في بعض الأنواع التي تسمى الثعالب الطائرة والتي يبلغ طول أجنحتها نحو مترين. ومن بين الثدييات تعد الخفافيش هي الثانية بعد القوارض في ثراء الأنواع، بأكثر من 1300 نوع معروفة حالياً، وهذا يشكل نحو خمس أنواع ما يسمى (اللبائن) في العالم.
وتتوزع الخفافيش على نطاق واسع على الأرض، وتوجد في كل القارات عدا القارة القطبية الجنوبية، وهي الثانية في الانتشار بين الثدييات تسبقها فقط الرئيسيات بسبب التوزيع الواسع للبشر. ونظرا لقدرتها على الطيران فقد استعمرت العديد من الجزر في المحيطات.
وأصبحت الخفافيش معروفة كمستودع لأنواع متعددة من الفيروسات التي تؤثر على صحة الإنسان والحيوان وتكون مميتة في معظم الحالات، مثل: فيروسات نيباه، و هندرا، وإيبولا، وماربورغ، وسارس، وتعرف بالفيروسات الحيوانية المنشأ Zoonoses وهي تنبثق من الحيوانات وتصيب البشر.
وتم عزل نحو 200 نوع فيروسي من الخفافيش، وتبين أن هذه الكائنات تمتلك أجساما مضادة للعديد من الفيروسات، وهذا أدى إلى تعاظم القلق من هذه الحيوانات والاهتمام المتزايد بها في السنوات الأخيرة؛ لأن تفشي الأمراض الفيروسية أدى إلى انتشار الرعب والفزع في المجتمعات.
والتنوع الهائل في الفيروسات التي تؤويها الخفافيش هو انعكاس لتنوعها، وأيضاً قدرتها على الطيران لمسافات شاسعة، وكذلك سلوكها في وجودها في مستعمرات كثيفة العدد. وعلى سبيل المثال، فإن كهف بركن Bracken يحتوي على نحو 20 مليون خفاش مكسيكي عديم الذيل، وهذه تشكل أكبر مستعمرة للفقاريات من ذوي الدم الحار غير بشرية في العالم.
وقلما تنتقل الفيروسات من الخفافيش إلى البشر. ومسببات الأمراض هي موجودة من حولنا منذ فترة طويلة, لكن تزايد الإصابة بها ليس خطأ الخفافيش، فالإنسان بدأ بالزحف إلى داخل أراضيها وخاصة في المناطق الاستوائية، ما أدى إلى زيادة خطر الاتصال بهذه الحيوانات، فمثلاً: في ماليزيا أنشئت مزارع الخنارير التجارية في مناطق عيش الخفافيش، وهو ما أفضى إلى تفشي مرض نيباه لأول مرة عند الإنسان عن طريق الخنازير.
خبايا الخفافيش
وبعيداً عن كون الخفافيش كائنات مضيفة وخازنة للفيروسات القاتلة، فإنها ربما تحتفظ بأسرار لتحسين صحتنا وطول أعمارنا؛ فهي تُظهر خصائص بيولوجية فريدة تشمل المدى العمري الطويل. إذ قدّر باحثون أنها تعيش بين 3 و10 مرات أطول من الثدييات الأخرى مقارنة بحجمها، فذكر أحد خفافيش (برانت) عُلّم في سيبريا عام 1962، ثم استرد بعد 41 سنة وهو مفعم بالحيوية بما يكفي لصيد الفرائس، ومراوغة واجتناب المفترسات. ولا تظهر على الخفافيش أعراض المرض Asymptomatically، فهي لا تبدي أي رد فعل مناعي، كما هو الحال في اللبائن الأخرى، مثل ارتفاع درجة الحرارة أو زيادة كريات الدم البيضاء، وهما العلامتان المؤشرتان على أن الجهاز المناعي استجاب لدخول جسم غريب.
وفي محاولة لمعرفة ما يجري، قارن العلماء جينوم نوعين من الخفافيش: خفاش الفاكهة، وخفاش آكل الحشرات بجينوم الثدييات الأخرى، فتبين أن الجينات المسؤولة عن إصلاح الحمض النووي تم إعادة تشكيلها خلال تطور الخفافيش، وكانت فعالة في التعامل مع دنا DNA المتضرر، كما تشير دراسات جينوم الخفافيش إلى أنها فقدت فرعا كامل من الجينات المرتبطة بالاستجابة المناعية، والتي تؤدي دورا مهما في استشعار الحمض النووي الغريب وتشكيل الجسيمات الالتهابية Inflammasomas في الأحوال الطبيعية.
ويبدو أن لدى الخفافيش مكونات في جهازها المناعي تكون متأهبة ويقظة ومتناغمة مع أي جسم غريب، وهو ما يسمح لها بالسيطرة على تضاعف الفيروس بكفاءة أكبر مقارنة بالبشر والثدييات الأخرى الذين ينشط جهازهم المناعي فقط استجابةً للعدوى. بكلمات أخرى، فقد طورت الخفافيش الامتناع عن الاستجابة الالتهابية لمختلف التهديدات، وربما وصل سباق التسلح الوراثي القائم بين الخفافيش والفيروسات إلى التوازن على نهج: عش و دع غيرك يعش.
حل اللغز
على الرغم من وجود البصمات التطورية للتعايش بين هذين النوعين من الكائنات، فإن الآلية التي تحمي بها الخفافيش نفسها من خطر هذه الميكروبات غير معروفة. ويعتقد العلماء أن المفتاح لفهم هذه التغيرات التطورية هو الطيران؛ فالخفافيش هي الثدييات الوحيدة القادرة على التحليق والتي تحتاج من ناحية إلى الكثير من الطاقة، وتكون مرهقة للأيض الغذائي من جانب آخر. وقلوب الخفافيش تنبض ألف مرة في الدقيقة وعندما تكون في الهواء يزيد معدل أيضها 34 ضعفا مقارنة بثمانية أضعاف في القوارض.
إن الارتفاع في معدل التمثيل الغذائي ينفث بالشوارد الحرة free radicals خارجاً – وهي جسيمات نشيطة تضر بالخلايا وتتلف الحمض النووي والمحفز الأولي للالتهاب Kick-starting – كما تقوم الخفافيش بتعزيز ورفع مستوى معدات إصلاح تلف الدنا ودفاعاتها الأخرى متضمنة خلايا مختصة بكبت نشاط الفيروسات.
ودعماً لفكرة مفادها أن الطيران يغير من فسيولوجيا الخفاش، فقد كشفت مقارنات الجينوم أن ميتوكوندريا (بيت الطاقة الخلوي) هذه الكائنات خضعت لكثير من التغيرات التطورية عن مثيلاتها في الحيوانات الأخرى. ومن المثير للاهتمام أن أفراد الخفافيش تمتلك مجموعة منوعة من الميتوكوندريا وليس نسخا كربونية كما في الكائنات الحية الأخرى. ويظهر أن الميتوكوندريا تحوي آليات متطورة للمساعدة على التخلص من الجذور الحرة الضارة التي تنتج أثناء الطيران.
و أثناء تحليق هذه الحيوانات فإن درجة حرارة أجسامها ترتفع إلى 40 درجة مئوية، وهذا الوسط غير مناسب لنمو الكثير من الميكروبات التي يكون معظمها دقيقا جدا، ويحتاج إلى جو موزون بدقة لتعيش داخل حيوان ثديي طبيعي، ومن ثم لن تبقى إلا الفيروسات القوية التي طورت آليات التحمل، وتكون النتيجة أن الطيران يكسب الخفافيش مناعة ضد الجراثيم، وتدريب الأخيرة على الحصول على حصانة ضدنا.
وإذا استطاع العلماء توجيه الاستجابات المناعية في الأنواع الأخرى إلى التصرف بطريقة مماثلة لتلك التي في الخفافيش، فإن معدل الوفيات المرتبطة بهذه الأمراض لن يكون كما كان في الماضي.
وإجمالا، فإن الخفافيش تمثل أنواعاً نموذجية مهمة لدراسة تطور المناعة ضد مسببات الأمراض، فالمعرفة المستقاة من دراسة هذه الكائنات قد يكون لها أهمية كبيرة في الأبحاث الطبية البشرية مستقبلا.