د.عبدالله بدران
كثيرة هي الكتب التي تحدثت عن أنواع الحكومات، والمهام المنوطة بها، والخطط التي تعدها، والاستراتيجيات التي تطرحها، والتطورات التي طرأت عليها، لكن الكتب التي تطرقت إلى الحكومات المعرفية وأشكالها الحديثة في القرن الحادي والعشرين نادرة في اللغات العالمية، وأقل ندرة في اللغة العربية. وهذا يعني أن إصدار أي كتاب يتناول هذا النوع الحديث من الحكومات سيمثل لمؤلفه تحديا كبيرا في ضوء قلة المراجع وتسارع التطورات الحاصلة في هذا المجال.
والكتاب الذي نشره المستشار خالد الحشاش بعنوان (الحكومات المعرفية: قراءة استشرافية لشكل الحكومات في القرن الحادي والعشرين) هو أحد الكتب النادرة التي تطرقت إلى هذا الموضوع وطرحته باللغة العربية، ليكون مرجعا للمعنيين، ولبنة في صرح العطاء المعرفي العربي، ومنهلا ثرا يستفيد منه كل قراء العربية.
ويوضح أهمية هذا الإصدار الأمين العام للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية الدكتور خالد مهدي في مقدمة الكتاب فيقول:” يأتي هذا المنتج الفكري ليعزز أهمية دور الحكومات في منظومة المستقبل القريب ذات الدعائم المعرفية والركائز الإبداعية في بنيتها التشريعية والتعليمية والإدارية. ويبرهن الكاتب أن دور الحكومة ضرورة حتمية لتفعيل التحول ضمن كيان الدول إلى الاقتصاد المعرفي من خلال التزام الحكومة بالدور التنظيمي والرقابي، بعيدا عن الدور التشغيلي الذي يعيق الاستدامة الاقتصادية والمالية. وهنا يأتي وصف الحكومة المعرفية دالا على امتلاكها خصائص تمكينية لخلق رؤوس الأموال الخمسة التي أسهب الكاتب في تعريفها وأوضح خواصها”.
قرن المعرفة
يرى الكاتب أنه مع بداية الثورة الرأسمالية الصناعية وانتشار مبادئها، تشكلت ملامح مفهوم الحكومات المعاصرة ودورها في تصريف شؤون الحياة ضمن دوائر الأمن والعدالة والمشاريع العامة والحماية، بعيدا عن الأنشطة والأعمال الاقتصادية باعتبارها من اختصاص مؤسسات القطاع الخاص طبقا لمبادئ حرية الأسواق التي دعا إليها المفكر آدم سميثSmith Adam ، وهي مبادئ واجهت العديد من انتقادات المدارس المناهضة للفكر الرأسمالي. وعلى الرغم من ذلك، سادت تلك المبادئ في معظم الدول الصناعية والرأسمالية حتى بداية القرن العشرين حينما عجزت مؤسسات القطاع الخاص عن التصدي للكساد الكبير عام 1929، ليُعلَن عن مرحلة تأريخية جديدة لأدوار الحكومات ضمن النشاط الاقتصادي العام، وهي مرحلة سجلت العديد من الإنجازات والإخفاقات والتناقضات في كيفية إدارة موارد الدولة بطرق اقتصادية تسعى إلى تحقيق القيمة العامة التي تبحث عنها الشعوب والأفراد طبقا لمجريات العصر وطبيعة التطور التقني والمعرفي السائد.
وشهد القرن الحادي والعشرون، قرن المعرفة والابتكار، تطورات كبيرة في الواقع المعرفي والرقمي وواقع الأشياء، وهي عوالم ستغير مجرى التاريخ والحياة نحو المجهول الذي لا يمكن التنبؤ به حاليا، مما يتطلب بذل جهود مضاعفة من قبل الحكومات لاستشراف المستقبل تمهيدا لوضع الخطط الاستباقية التي تساعد على فهم توجهات القرن الحادي والعشرين وإدراك أدواته التنافسية المعاصرة ومعرفة طرائق ريادته وقوام إنتاجيته القائمة على الاستخدام الكثيف للمعرفة والابتكار والتكنولوجيات الناشئة في مشهد لا يتصل بالقرن العشرين.
وقد صاحب تلك التحولات الجذرية تغيرات جوهرية في طبيعة المجتمعات وتركيبتها الديموغرافية نجم عنها تفضيلات واهتمامات وتطلعات باتت جزءا من اهتمام الأسواق العالمية ومستهدفات الحكومات لتحقيق المقاصد العامة وتحسين جودة الحياة، مما وضع الحكومات في خط المواجهة مع الواقع المعرفي والرقمي، وهذا يتطلب استجابة سريعة عبر بناء وتطوير رؤية وفكر معاصر يبحث في أدوات وطرق وبرامج الحكومات في الألفية الثالثة.
استشراف آفاق المستقبل
يركز الكتاب في بابيه الكبيرين اللذين يضم كل منهما فصلين متخصصين على قضية استشراف المستقبل باعتبارها قضية مركزية وحيوية لجميع الدول، ومن ثم يجب أن تكون حكومات المستقبل حكومات معرفية قادرة على التنبؤ بالتطورات المستقبلية واستشراف آفاقها، تمهيدا لكيفية التصرف حيالها والتعامل السليم معها. وهذا يعني التخطيط الدقيق للمستقبل، والتفكير السليم بكيفية إدارة تلك التطورات بما يسهم في تحقيق الأهداف المنشودة لكل دولة من حيث التطور والتنمية والرخاء والرفاهية.
ويتطرق الكتاب الذي جاء في 605 صفحات مرفقة بجداول وأشكال كثيرة إلى أهمية جودة المعرفة التي ترتبط بالتطور العلمي والبحثي التاريخي والمستقبلي للمجتمعات الإنسانية، مبينا أن تراكم المعارف والرقي الحضاري يفضي إلى أمرين هما تحقيق الشراكة المعرفية والمسؤولية المعرفية، وبدورهما يجتمعان ضمن سلم استدامة المعرفة، المدخل الأساسي لبناء مجتمع المعرفة، الذي يتسق وطبيعة العالم الذي يسير بوتيرة متسارعة مدفوعة بتأثيرات القوة الحاسوبية المتطورة والتكنولوجيات الرقمية والعولمة والتغيرات الديموغرافية والمناخية، على نحو غير من ملامح حياتنا وثقافتنا وطرق اتصالنا وإدارة أعمالنا.
ويسعى الكتاب إلى فهم طبيعة حكومات المستقبل من منظور المعرفة والتكنولوجيا والأنشطة الابتكارية، تمهيدا لتأصيل مفهوم الحكومات المعرفية الذي يعد أقرب أنموذج ربما يحاكي متطلبات القرن الحادي والعشرين وتلبية احتياجاته. فتعبير الحكومات المعرفية تعبير فلسفي يعكس درجة النضج المعرفي والفكر الاستشرافي لكل الممارسات والأنشطة والخطط التنموية والاستراتيجيات في الدولة، والتي تدور حول موضوعات محددة كمفهوم القيمة العامة والحلول الرقمية ووظائف المستقبل. ولتحقيق المقاصد، اعتمد الكتاب على القواعد الفلسفية التي يمكن الاستدلال من خلالها على المفهوم العميق لدور الحكومات في المستقبل، وهي قواعد تستند إلى الدراسات العلمية والتقارير الدولية التي تم توظيفها والاستعانة بها لتعزيز وتقوية متن الكتاب، مع عدم إغفال الإرهاصات التاريخية التي كونت تلك القواعد الفلسفية وسهلت من فهمها وإحاطتها.
وفي الفصل الرابع والأخير يطرح المؤلف مجموعة من المقترحات الاسترشادية التي من شأنها تعزيز برنامج تحول الحكومات نحو مفهوم الحكومات المعرفية، وفي مقدمتها منظومة التعليم، وأشار إلى منظومة منصات الأعمال المستقلة كمدخل نحو مفهوم الحكومات الرشيقة، إضافة إلى مقترح استرشادي بشأن بناء مفهوم الحكومات المعرفية.
ويقول في ختام ذلك الفصل: إن الخيار الاستراتيجي لبناء وتبني مفهوم الحكومات المعرفية أشبه بسفينة النجاة للدول ضمن عقود القرن الحادي والعشرين، وهو خيار يعتمد كليا على وفرة القياديين الذين يعملون على زيادة جودة المعرفة وقيمتها الاقتصادية وحجم المخزون منها والقدرة على إنتاجها وتحويلها إلى فرص اقتصادية تسهم في تعزيز الناتج المحلي الإجمالي، على نحو يمكن الدول من تحقيق القدرة التنافسية والريادة الإنتاجية وتحسين جودة الحياة.
مباحث ثرية
تضمن الباب الأول من الكتاب فصلين: الأول بعنوان (المؤسسات العامة والابتكار)، وضم مبحثين هما: المؤسسات العامة، والابتكار في المؤسسات العامة. في حين تضمن الفصل الثاني الذي حمل عنوان (مسائل في القيمة العامة) ستة مباحث هي: مفهوم القيمة العامة، والمالية العامة للدولة، والخيار العام، والنفقات والإيرادات العامة، ونظرية الرفاهية الاقتصادية، والتنمية الاقتصادية وأبعادها الاجتماعية والبيئية.
أما الباب الثاني فتضمن فصلين أيضا: الأول بعنوان (الأسواق وأسواق العمل في الألفية الثالثة)، واستغرق نصف عدد صفحات الكتاب، وضم أربعة مباحث هي: تكنولوجيات الألفية الثالثة (كالبيانات الضخمة، والجيل الخامس للأنظمة اللاسلكية، والبلوك تشين، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والطابعات ثلاثية الأبعاد، والواقع المعزز، والواقع الافتراضي)، والتعليم ومهارات القرن الحادي والعشرين (كالتعليم المبكر للأطفال، والتعلم مدى الحياة، والتعليم المدرسي، ومهارات القرن الحادي والعشرين)، والوظائف ومستقبل أسواق العمل (كأثر التكنولوجيا على بيئات الأعمال، والأعمال المستقلة، والوظائف المستقلة، ووظائف المستقبل)، فيما تطرق المبحث الرابع إلى موضوع تصنيف المهن الإبداعية والمعرفية (كالتصنيف الدولي للمهن، وتصنيف الوظائف الإبداعية والمعرفية، والوظائف العلمية).
أما الفصل الرابع المعنون (التطبيقات المعرفية في الألفية الثالثة)، فضم ثلاثة مباحث هي: الاقتصاد المعرفي والأسواق المعرفية، والمدن المعرفية، والحكومات المعرفية.