د. شريف الجوهري
يعد التصميم الهندسي والإنشائي لمحطات الطاقة النووية أحد أهم العوامل التي تسهم في الحفاظ على أمان تصميم المحطات وأمان تشغيلها وإدارتها. ويبدأ ذلك التصميم بعد اختيار الموقع الذي يستند إلى محددات عدة تشمل طبيعته من الناحية الطبوغرافية، والجيوتقنية، والجيوفيزيائية، والهيدرولوجية، والميترولوجية، وغيرها من الاشتراطات التي تحددها الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهيئات الرقابة النووية في الدول المختلفة. وتتضمن هذه المرحلة مجموعة من الاعتبارات والمحددات التصميمية التي تؤثر في التصميم الهندسي والإنشائي للمحطات.
دراسة الأحمال
يعتمد التصميم الإنشائي لمحطات الطاقة النووية على دراسة الأحمال المتوقعة عليها. وتشمل تلك الأحمال القوى والموجات الاهتزازية الأفقية والرأسية التي يمكن أن تنشأ عن بعض الظواهر الطبيعية، مثل الزلازل والسيول والتسونامي أو القوى التصادمية، أو الانفجارية المحتملة التي قد تحدث بفعل الإنسان، مثل حوادث الطائرات والانفجارات. كما تشمل الأحمال الداخلية الناتجة عن أحمال معدات المفاعلات في ضوء الظروف العادية والحوادث.
وتظهر أهمية تصميم محطات الطاقة النووية في تكلفتها التي تقدر بنحو 10% من إجمالي تكاليف رأس المال اللازم لإنشائها. لذا فإنه في حالة وجود عيوب تصميمية سيكون لذلك عواقب وخيمة أثناء إنشاء المحطات النووية ثم أثناء تشغيلها. ونتيجة لتحليل الحوادث السابقة فقد تقدمت الدراسات المنهجية الخاصة بتحسين التصميم الإنشائي والوظيفي لمحطات الطاقة النووية لتتواءم مع اشتراطات ومعايير الأمان النووي في بلدان العالم، مما أدى إلى تحسينات كبيرة في عملية التصميم الإنشائي لتلك المحطات، ولاسيما في التوزيع المعماري لمكونات المحطات النووية، وتبسيط التصميم، واستخدام أنظمة المحاكاة والنمذجة باستخدام الحواسيب المتطورة للوصول إلى تصميم آمن يتحمل جميع الأحمال، سواء في فترات التشغيل العادية أو في فترات الحوادث.
غرف التشغيل وفراغاته
يراعى في التصميم المعماري للمحطات النووية أن توضع الهياكل والأنظمة والمكونات التي تحتوي على كميات كبيرة من المواد المشعة في فراغات وأمكنة خاصة، كما يجب فصلها بطريقة أو بأخرى حتى لا يتعرض العاملون للإشعاع الناشئ عنها أثناء تشغيل المحطات أو التفتيش الروتيني أو الدوري أو أثناء صيانتها. لذا، يجب استخدام عناصر إنشائية وفق قطاعات وأبعاد كبيرة كافية وأساليب تدريع لتوفير الحماية والأمان من الإشعاع.
وتصنف غرف وفراغات التشغيل داخل المحطات النووية على أساس ظروف ومستويات الإشعاع، فتوضع الغرف والفراغات العالية الإشعاع -مثل منطقة قلب المفاعل التي تتطلب رقابة إشعاعية- في منطقة خاصة بها لتقييد الوصول إليها والتحكم فيها. وتتدرج الفراغات بعد ذلك طبقاً لمستويات الإشعاع حتى الوصول إلى أمكنة خالية تماماً من مستويات الإشعاع مثل أمكنة الخدمات الثانوية.
ويجب أن يكون تصميم الأجزاء الداخلية للوقود والمفاعل متوافقًا، بحيث يتم تجميع كل مكون بشكل صحيح في المكان المناسب عند تجميع المفاعل. وبعد تحميل الوقود في قلب المفاعل، يجب التحقق من أن الوقود الداخلي والمفاعل وضعا بشكل صحيح. كما يجب تصميم وتثبيت الأجزاء الداخلية لقلب المفاعل بحيث تحافظ على موقعها أثناء ظروف التشغيل والحوادث المفترضة، مع تحمُّل جميع الأحمال التي تصادفها خلال هذه الظروف دون تعريضها لإغلاق المفاعل أو تبريده.
أنظمة إنشائية حديثة
شهدت التصاميم الهندسية والإنشائية للمحطات النووية تطوراً كبيراً منذ إنشاء الجيل الأول من المحطات في أوائل الستينيات من القرن الماضي. وأدى تطور تصميم المفاعلات النووية من الجيل الأول إلى الجيلين الثالث والرابع إلى تحسن هائل في مزايا السلامة والأمان النووي، لاسيما فيما يتعلق بالحوادث الداخلية داخل المفاعلات. ويلاحظ أن محطات الطاقة النووية تحتاج إلى إنشاءات هيكلية من الخرسانة وبتصاميم معقدة لتعمل في بيئات مختلفة من ناحية درجة الحرارة ومقاومة الإشعاع، وأن يكون لها القدرة على تحقيق مستويات الأمان اللازمة طوال فترة عملها وخلال دورة حياتها.
وتتضمن محطات الطاقة النووية إنشاءات هندسية معقدة تمثل عناصر مهمة من الهياكل والأنظمة والمكونات (SSC) اللازمة للتشغيل الآمن والموثوق به. وتؤدي هذه الهياكل الإنشائية وظائفها بطريقتين: الأولى أنها تضم الأنظمة والمكونات وتوفر بيئة التشغيل المطلوبة، والأخرى أنه في حالة وقوع أي حادث فإنها تخفف من تأثيرها في احتواء أو حصر انطلاق الإشعاع داخل حدودها الهيكلية.
والخرسانة المسلحة إحدى أهم مواد البناء الهندسية المستخدمة بشكل شائع في المنشآت النووية بسبب عدد من الخصائص المميزة لها، وأهمها القدرة على التدريع (أي الحماية من الإشعاع وخاصة إشعاع غاما)، وسهولة عملية تصنيعها، واستخدام المكونات المتاحة محليًا بشكل أساسي، وتكلفة الإنتاج الأقل نسبيًا، وقوتها الجيدة في الانضغاط.
وظهر حديثا تطبيق الخرسانة العالية الأداء (High Performance Concrete -HPC)
المطورة باستخدام إضافات كيميائية ومعدنية في بناء الهياكل الإنشائية لمحطات الطاقة النووية. وإلى جانب التأثير المفيد، فإن استخدام المواد المضافة في الخرسانة طرح عددًا من التحديات في التصميم والبناء، إضافة إلى احتمال استمرار التشغيل إلى ما بعد عمر التصميم، خاصة بعد 60 عامًا، وكذلك تأثير الأحداث الطبيعية القصوى (كما حدث في حالة حادث فوكوشيما في اليابان)، والأحداث التي يسببها الإنسان (مثل تحطم طائرة تجارية كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر 2001). وأدى ذلك إلى مزيد من التطوير في مجال الحسابات الإنشائية وتصميم الهياكل الخرسانية لمحطات الطاقة النووية لتحمل تلك الظروف.
الإنشاءات الهندسية والحوادث
تقيِّم معظم البلدان سلامة تصميم الهياكل الإنشائية لمحطات الطاقة النووية من خلال تحملها للحوادث المختلفة المتوقع حدوثها، سواء في مراحل التشغيل العادية أم في حالة الحوادث الكبرى. والحوادث الأخيرة لمحطات الطاقة النووية في تشيرنوبيل بالاتحاد السوفييتي (سابقا) وفوكوشيما باليابان كانت مصدر إلهام للتحقق من مستويات السلامة والأمان النووي في الهياكل الإنشائية لمحطات الطاقة النووية.
تبدأ الاختبارات على المنشآت الخرسانية للمحطات النووية بتقييم متانة الهياكل الإنشائية لاختبار مزدوج لانهيار أكبر أنبوب في نظام تبريد المفاعل. وعلى سبيل المثال أثناء عملية تصميم الهياكل الإنشائية مع نوع المفاعلات
VVER-440/230 ، تم اعتبار كسر للأنابيب الخاصة بنظام التبريد لقلب المفاعل، وهي تشمل أنبوبين بقطر 500 مم، بمثابة حادث خارج التصميم (Beyond-design-basis accident-BDBA).
ويعتمد سيناريو الحوادث الكبرى على افتراض تحمل الهياكل الإنشائية لحادث مزدوج نتيجة دمج فقدان انهيار في نظام التبريد الأولي (LOCA) مع الخسارة الكلية لنظام تبريد قلب المفاعل. وخلال هذه الحالة لا يمكن أن تكون منطقة الحادث متاحة بسبب التبريد الخارجي بالمياه وارتفاع مستوى الإشعاع. ومن الممارسة العملية، يجب أيضًا حساب إمكانية المساهمة في ارتفاع درجة الحرارة الناتج عن انفجار الهيدروجين، كما جرى في حادثة فوكوشيما.
إضافة إلى ذلك، تؤثر درجات الحرارة العالية أو المنخفضة في العناصر الإنشائية مثل الأسقف والحوائط الخرسانية الخارجية للهيكل الخرساني لمحطات الطاقة النووية، لذا يجب أخذها في الاعتبار في مرحلة التصميم. وتعتمد الأجيال الجديدة من المفاعلات النووية على تصميم وتنفيذ هيكلين خرسانيين أحدهما داخل الآخر (Double Containment) لاحتواء أي حادث قد يقع خلال مراحل التشغيل.
محطات الطاقة وإشكالية الزلازل
يستخدم المهندسون الإنشائيون عادة استراتيجية معينة لحماية منشآت المحطات النووية من الآثار الضارة للزلازل. وتعتمد تلك الاستراتيجية على تصميم نظام لمقاومة القوى الجانبية الناشئة عن الزلالزل ليكون المنشأ قاسيًا جدا، حيث ينتج هيكلًا ذا تردد طبيعي عال مما يتيح للهيكل الإنشائي حماية المكونات الأساسية الحساسة له من الانهيار مثل جدران البناء، لكنها قد تلحق الضرر بالمكونات الحساسة للتسارع (بما في ذلك المعدات الميكانيكية والحواسيب والأنظمة الكهربائية).
تاريخياً، استخدم مهندسو المنشآت النووية استراتيجية التصميم هذه للتأكد من أن التشوهات أو الشروخ الأفقية في محطات الطاقة النووية تكون صغيرة جدًا، فصممت الهياكل الإنشائية لمحطات الطاقة النووية من الخرسانة المسلحة باستخدام أنظمة هيكلية صلبة، مثل جدران قص الخرسانة المسلحة أو الإطارات المدعمة بالفولاذ التي تظل مرنة بشكل أساسي في حالة اهتزاز الزلازل التصميمي، لكنها تكون مصممة للاستجابة المرنة للتعامل مع الاهتزازات الأكثر كثافة من أساس التصميم.
ويعتمد أسلوب التصميم الإنشائي المرن للأساسات المنفصلة لمقاومة الزلازل على التحكم في استجابة الهيكل الإنشائي لحركة الأرض الأفقية التي تحدث أثناء الزلازل، من خلال تركيب طبقة أفقية مرنة وقاسية رأسياً من أجهزة العزل الإنشائي بين البنية الفوقية والبنية التحتية للمفاعل. وهكذا يتم تغيير ديناميكيات الهيكل بحيث تكون فترة الاهتزاز الأساسية للنظام الهيكلي المعزول أطول بكثير من الهيكل الأصلي غير المعزول، مما يؤدي إلى انخفاض كبير في التسارع والقوى المنقولة إلى الهيكل المعزول، ومن ثم لا يسبب ذلك أي تلف أو تشوه بالهيكل الإنشائي.
أما ما يتعلق بنقل القوى الرأسية من دون تأثير، فتصمم الهياكل الإنشائية لدعم القوى الرأسية باستخدام أنظمة المثبط الزنبركي. ويلاحظ أنه في هذه الأنظمة يجب أن يتضمن تصميم النظام توفير مساحة كافية للوصول إلى فحص واستبدال أنظمة الحماية من الزلازل.
وطبِّق النظام الإنشائي لعزل الأساسات في جنوب إفريقيا وفرنسا، وحتى الآن هناك ست محطات طاقة نووية تستخدم هذا النظام. وتوشك اليابان والولايات المتحدة على الانتهاء من معايير وأكواد هذا النظام لاستخدامه في المحطات النووية المستقبلية.