د. عبد الرحمن النمر
من أعجب ما يتميز به خَلْقُ الإنسان «التفرد»، فكل إنسان «فريد» بين سائر أفراد جنسه، وله خصائصه التي تميزه دون سواه. وقد يتشابه اثنان من البشر في ملامح الوجه، أو شكل الجسم، لكن يبقى كل منهما متميزا عن الآخر بخصائص لا تشابه فيها.
ومن المعروف أن بصمات أصابع اليدين هي من الخصائص التي يتميز بها الإنسان، وأنها لا تتطابق – وإنْ تشابهت – بين اثنين من البشر.
وهناك خصائص كثيرة تفيد في تمييز الإنسان، وتؤكد تفرده. من ذلك بصمة العين، والحمض النووي. وأضيفت الأسنان إلى القائمة باعتبارها منجم معلومات لاسيما حينما تكون هي المتبقية منه فقط.
حلُّ المعـضلة
عندما يكون المطلوب التعرف على جثة إنسان، وليس على شخص حي، وتكون الجثة مشوهة إلى حد لا يسمح بتطبيق وسائل التعرف التقليدية، تصبح الأسنان كافية للاستدلال على هوية صاحبها.
ونظرًا لأن القوانين المعمول بها في معـظم بلدان العالم تحول دون دفن أي جثة قبل التعرف على هوية صاحبها، فربما يستحيل الاعتماد على وسائل التعـرف التقليدية لتقــنين دفن جثة ما. إضافة إلى أن مسألة الميراث وتقسيم التركة لا يمكن التصرف فيها على نحو قانوني إلا بعد إثبات وفاة صاحب الملكية. وهذا يستلزم التعرف على جثته، مهما كان فيها من تشويه.
ووجد الطب الشرعي حلَّ هذه المعـضلة في الأسنان. وهذه الأسنان تعتبر جزءًا من الهيكل العـظمي للإنسان، بيد أنها تنفرد عن باقي عـظام الجسم بخصائص مميزة، تؤهلها لأن تكون وسيلة فريدة من وسائل التعرف عـلى الإنسان، مثلها في ذلك مثل بصمات الأصابع. فالأسنان تقدم معـلومات دقيقة عن عـمر الإنسان وجنسه وفصيلة دمه وعرقه، وغير ذلك.
تحديد العمر
تتبع الأسنان نظاما معينا ثابتا في النمو. وهي بذلك تختلف عن باقي عـظام الجسم التي تتعرض لما يسمى «الهدم والبناء» طوال عـمر الإنسان. وعملية الهدم والبناء عملية حيوية يقوم بها الجسم بصورة دائمة لتجديد نسيج العـظام.
ذلك أن نمو الأسنان يكون على هيئة شرائح، أو طبقات، يختلف عددها وسُمْكُها باختلاف عمر الإنسان. وبفحص قطاع من الأسنان تحت المجهر تبدو هذه الطبقات في صورة مماثلة للطبقات التي توجد في جذع شجرة مقطوع. وكما يمكن تحديد عـمر شجرة من عدد الطبقات التي تظهر في جذعها، فكذلك يمكن تحديد عمر الإنسان من الطبقات الموجودة في أسنانه.
خصائص مميزة
للتعرف على جنس الإنسان من أسنانه، تؤخذ عـينةُ خلايا من لُبِّ Pulp الأسنان. ولب السن هو تجويف خَلَوي في وسطها يسمح بمرور الأوعية الدموية والأعصاب إليها. وبفحص عينة الخلايا تحت المجهر، باستخدام ضوء فلورسنت، يمكن إظهار نوع كروموسوم الجنس في الخلايا، ومن ثم تحديد جنس الإنسان من حيث الذكورة والأنوثة.
ومن خلايا لب الأسنان يمكن معرفة فصيلة الدم، والحمض النووي، أيْ إن الأسنان تقدم معلومات قيمة عن الخصائص المميزة لصاحبها، إذا لم يبق منه سوى أسنانه!
كذلك يمكن الكشف عن انتماء الإنسان إلى جنس بشري من أسنانه. فالمعـروف أن الزنوج لهم عـظام فك ناتـئة، وهذا يجعل أسنانهم بارزة إلى الأمام. ويتميز الأنغلوساكسون بأسنان صغيرة حادة، قـلما توجد بينها فراغات. وتتوفر لدى الأطباء الشرعيين قوائمُ بالصفات المميزة لكل جنس بشري.
ويشير الباحثون في الطب الشرعي إلى أن هذه الخصائص التي تكشف عنها الأسنان، والتي تفيد في التعرف على صاحبها، تبقى موجودة في الأسنان سنوات كثيرة، إذْ تقاوم الأسنانُ التعـفنَ والتحللَ ودرجاتِ الحرارة العالية.
في حقل الجريمة
تمتد الدلائل التي تقدمها الأسنان على هوية إنسان بعـينه إلى حقل الجريمة. وكثيرا ما كانت آثار عـضة مجرم على جســـم ضحيته دليل الإدانة الوحيد؛ ذلك أن كل إنسان له بصمة أسنان تميزه عن غيره.
وفي أحيان أخرى، تكشـف أسنان شخص ميت عن وقوع جريمة أودت بحياته. فمثلا حين يتعلق الأمر بطفل حديث الولادة، ربما تكون الأسنان هي الفيصل الوحيد بين وقوع جريمة من عـدمه. ذلك أن الطفل بمجرد ولادته، تظهر على أسنانه وهي ما تزال داخل اللثة، خطوط عَرْضية تسمى خطوط النمو. فإذا وضعت امرأة مولودا، ثم قتلته بعد مولده، وزعمت أنه ولد ميتا، فإن خطوط النمو تحمل دليل الإدانة!
أما حوادث التسمم بمواد مثل الزئبق والرصاص والزرنيخ، فإنها تؤدي إلى ظهور علامات معينة في أماكن كثيرة من الجســم، ومنها الأســنان. وتظهر علامات التسمم على الأسنان نتيجة ترسب السموم في جذورها، فيمكن الكشف عنها حتى بعد مرور عشرات السنين.
وعلى ذلك، فإن اعتماد الأسنان في حقل الطب الشرعي، كواحدة من أهم وسائل التعـرف على إنسان بعـينه، والاستدلال على وقوع جريمة من عـدمه، يعـتبر بحق إضافة عـلمية كبيرة، وخطوة مهمة يقطعها الطب الشرعي، في كشف النقاب عن سبب الوفاة، وإماطة اللثام عن جرائم القتل.