الإنسان وأبحاث الفضاء الكوني
أ. د. أحمد فؤاد باشا
ظلَّ ارتياد الفضاء حلماً يراود الإنسان منذ قديم الزمان، إلى أنْ تقدمت أبحاث الطيران وصناعة الصواريخ، وبدأ عصر الفضاء الحقيقي بإطلاق القمر الصنعي الروسي (سبوتنيك1) الذي دار حول الأرض للمرة الأولى في 4 أكتوبر عام 1957، وظل في مداره 57 يوماً. وفي عام 1961 أطلقت سفينة الفضاء الروسية (فوستوك1) في أول رحلة فضائية دار خلالها يوري غاغارين حول الأرض، وحفز بذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي حققت أكبر حلم للإنسانية في 20 يوليو 1969 من خلال رحلة (أبوللو11) التي هبطت بالإنسان للمرة الأولى على سطح القمر.
ومنذ ذلك الحين تطورت تقنيات الصواريخ الفضائية وصناعة الأقمار الصنعية، التي تدور في مدارات حول الأرض، وتعددت رحلات سفن الفضاء إلى القمر والكواكب البعيدة، وكان من بين هذه السفن ما هو مأهول برواد فضاء مدرَّبين على التكيف مع ظروف غير التي يعيشون فيها على الأرض، ومنها ما هو غير مأهول، ويعمل ذاتيّاً بطريقة آلية. وقد أسهم عدد من العلماء والفنيين العرب بقدر من العطاء في ارتياد الفضاء واكتشافه، فمنهم من كان ضمن طاقم إحدى سفن الفضاء، ومنهم من أسهم بعلمه في إطلاقها وتحديد مواقع هبوطها، ومنهم من يعكف على دراسة وتحليل الصور والرسائل التى تبثها إلى الأرض.
يعتمد عمل صواريخ الفضاء على قوانين الحركة التي صاغها العالم الإنكليزي إسحاق نيوتن، وبخاصة قانونه الثالث الذي يقضي بأن «كل فعل له ردّ فعْل مساوٍ في المقدار ومضاد في الاتجاه».
وهذا يعني أن صواريخ الفضاء تعمل بطريقة «الدفّع النفاث» التي تعمل بها أيضاً الطائرات النفاثة، حيث يمكن لصاروخ ما أن ينطلق إلى الأعلى مدوِّياً إذا سُمح للغازات الساخنة الناتجة من عملية احتراق الوقود بداخله أن تخرج بسرعة كبيرة من فتحة صغيرة في مؤخرته، ويعمل ضغطها الأمامي على دفع الصاروخ إلى التحرك قُدماً.
ويجب أن تكون قدرة المحرك الصاروخي عالية بالقدر الذي يمكّنه من حمل سفينة فضاء، أو أي جسم آخر بسرعة كبيرة تكفي للإفلات أو الفرار من نطاق الجاذبية الأرضية (تساوي 11.2 كيلومتر في الثانية)، كما يجب أن تكون حمولة الصاروخ من الأكسجين والوقــــود كافية لعمل محركاته أثناء رحلته في الفضاء الخارجي. وعندما تكون سرعة إطلاق الصاروخ أقل من سرعة الإفلات أو الهروب هذه، فإن سفينة الفضاء التي تغادر سطح الأرض ستتباطأ بسرعة أثناء ارتفاعها، ثم لا تلبث أن تعود فترتطم بالأرض مرة أخرى.
وتغلب العلماء على هذه المشكلة باستخدام صاروخ متعدد المراحل ذي قدرة كافية على الوصول إلى سرعة الهروب المطلوبة وحمل الكمية اللازمة من الوقود. وأسهمت التقنيات الحديثة في تحصين الصواريخ الفضائية بأغلفة معينة ذات صلابة عالية لكي تتحمّل التغيرات الشديدة في درجات الحرارة، وتقيها من التصادمات المحتملة مع الأجسام الكونية السابحة في الفضاء.
ويستعان بأدوات وأجهزة متطورة لتحقيق الأمان بكفاءة عالية، مثل أجهزة الرادار اللاسلكي لمعرفة معدلات ظهور الشهب وانتقاء أفضل مسار للصاروخ، بعيداً عن ممرات تيارات الشهب الشديدة.
آليّة إطلاق المركبات الفضائية
يبدأ إطلاق الصاروخ بطريقة آلية بعد إتمام كل التحضيرات، واختيار كل الأجهزة المطلوبة وتركيبها في القمر الصنعي أو سفينة الفضاء عند رأس الصاروخ. ويقع العبء الأكبر في عملية الإطلاق على عاتق الحواسيب والمعدات الإلكترونية واللاسلكية. ويكون الجزء الأول من الصاروخ المتعدد المراحل هو أكبر الأجزاء؛ لأنه سيحمل كل جسم الصاروخ حتى نهاية الطبقة الكثيفة من الغلاف الجوي، ثم ينفصل آلياً عند انتهاء الوقود منه، ويبدأ محرك المرحلة الثانية في العمل على الفور ليواصل عملية الارتفاع.
وعندما ينتهي احتراق وقود المرحلة النهائية من الصاروخ بكامله، يكون القمر الصنعي قد وصل إلى المدار المحدد له مسبقاً، وأصبح جسماً كونياً خاضعاً لقوانين الحركة والجاذبية الكونية، شأنه شأن الكواكب والأقمار الطبيعية التي تدور في أفلاك محددة.
وتطورت أبحاث الفضاء كثيراً منذ أصبح بالإمكان إنتاج مركبات فضائية قابلة للعمل أكثر من مرة. ويطلق على سفينة الفضاء التي تنطلق كصاروخ وتهبط كطائرة، ولا ينتهي عملها بانتهاء الرحلة الفضائية، ولكنها تكون جاهزة لرحلة أخرى خلال أيام قليلة، وتكون قابلة للعمل أكثر من مرة، والتنقل بين الفضاء والأرض أو الكواكب الأخرى اسم (المتنقل) أو (المكوك الفضائي) Space Shuttle، وهو يجمع في تركيبه بين الطائرة والصاروخ.
وكان إطلاق المكوك الفضائي (كولومبيا) عام 1981 إيذاناً ببدء نوع جديد من السفر في الفضاء، حيث يمكن للمكوك أن يعود إلى الأرض بعد انتهاء مهمته، ويهبط هبوطاً دقيقاً على مدرج عادي مثل أي طائرة.
ارتياد الفضاء على متن المكوك
إن ارتياد الفضاء الخارجي على متن المكوك الفضائي يتيح للإنسان أن يطلّ على أعماق الكون ليكشف عما فيه من أسرار، كما يتيح له فرصة أكبر لدراسة الأرض من بُعد، والتعرف إلى ما تحويه من موارد وثروات، فلا يزال هناك الكثير الذي نحتاج إلى معرفته عن الأرض والكون.
وليس هناك ما يحدّ من إمكان إرسال أي شيء على متن مكوك الفضاء، فباطنه عبارة عن تجويف واسع يمكن أن يوضع به الكثير من الأجهزة العلمية أو الأقمار الصنعية. وتسهم عدة دول أوروبية في إعداد مختبرات (معامل) أبحاث فضائية يتم إرسالها على متن المكوك الفضائي، ويتولّى متخصصون إجراء تجاربهم داخل هذه المختبرات.
وقد أفاد مكوك الفضاء كثيراً بالنسبة لمختبرات الفضاء، وكانت وكالة الفضاء الأوروبية قامت بإنشاء مختبر فضائي في عام 1983 سمته (سبيس لاب) Space Lab لينتقل بواسطة مكوك فضاء، ويظل في حالة دوران على متنه، ثم يعود إلى الأرض كلما لزم الأمر.
كذلك أفاد مكوك الفضاء في إقامة محطات فضائية دائمة في مدارات حول الكواكب والأقمار. وقد نشطت مع بدايات الألفية الثالثة السياحة الفضائية، باعتبارها صناعة واعدة في المستقبل. وكان رجل الأعمال الأمريكي دينيس تيتو أول سائح فضائي في العالم يصل إلى المحطة الفضائية الدولية على متن صاروخ (سيوز) الروسي في 30 إبريل عام 2001. أمَّا أول سائحة فضائية فهي أنوشيه أنصاري التي وصلت إلى المحطة الفضائية الدولية في 18 سبتمبر عام 2006.
تطور الرحلات
كانت العين البشرية هي الأداة الأولى التي استعان بها الإنسان لرصد الكون وما فيه من أجرام وأقمار ومجرات، ثم ظهرت أجهزة المقراب (التلسكوبات) لتعزيز قدرات العين البشرية على رصد الأجسام البعيدة، وكان أولها المقراب الذي استخدمه (جاليليو) عام 1609، تلا ذلك تطور تدريجي في كفاءة المقاريب، إلى أن أُطلق مقراب (هَبل) عام 1990 لدراسة الفلك من الفضاء، وسُمّي كذلك نسبة إلى عالم الفلك الأمريكي إدوين هبل. وقد كان مقرراً لهذا المقراب أن يُرسل إلى الفضاء عام 1986، إلا أن كارثة انفجار مكوك الفضاء الأمريكي (تشالنجر) بروّاده أخرت الإطلاق. ويتسع مجال رؤية هذا المقراب إلى نحو 14 مليار سنة ضوئية، وهذا يعني إمكانية رصد بعض الأجرام السماوية بحالتها التي كانت عليها منذ مدة، تبلغ أكثر من ثلثي العمر المقدر للكون علميّاً على وجه التقريب.
وتطورت مراقبة السماء بعد ذلك بالذهاب إلى أجرامها مباشرة باستخدام صواريخ متطورة تحمل المركبات الفضائية إلى خارج حدود الأرض للقيام بمهام متنوعة. ولما كانت تلك المهام تستغرق وقتاً طويلاً، وتتطلب استعدادات خاصة، فإن العلماء والفنيين قاموا بصنع سفن فضاء سموها مسابير Probes ليس على متنها بشر، وزوّدوها بـ(إنسالات) Robots، وبآلات رصد وتصوير مناسبة، وغير ذلك من الأجهزة المعقدة التي تجمع المعلومات وتبعث بها إلى الأرض.
أوّل تجربة علمية على سطح القمر
بدأ تنفيذ هذه التجربة في 20 يوليو عام 1969، مع أولى خطوات الإنسان على سطح القمر في رحلة السفينة الفضائية أبوللو11؛ وذلك لمتابعة التغير في بُعد القمر عن الأرض، وتُعرف باسم (تجربة لوري) Lunar Laser Ranging Experiment (LURE).
فقد قام رواد الفضاء على هذه السفينة بوضع جهاز يحوي مئة مرآة صغيرة لكي تعكس نبضات أشعة الليزر الموجهة إليها من محطات أرضية في أمكنة مختلفة فوق قارات الأرض. ودون الدخول في التفاصيل الفنية لهذه التجربة يمكن القول بتبسيط شديد إن حساب بُعد القمر عن الأرض يتم بتوجيه نبضة ليزر مكثفة التركيز من الأرض إلى المرايا العاكسة على سطح القمر؛ ولأن الليزر من نوع الموجات الكهرمغنطيسية التي تتحرك في الفضاء بسرعة الضوء المساوية لمقدار ثلاثمئة ألف كيلومتر في الثانية، فإنه يمكن حساب بُعد القمر عن الأرض بعد قياس الزمن الذي تستغرقه نبضة الليزر ذهاباً وإياباً.
إن الأهمية البالغة لهذه التجربة الفضائية لا تكمن فقط في مجرد تحديد هذه المسافة، ولكن أيضاً في تحليل ودراسة مدى التغير الذي يحدث في قياس البعد عن الأرض والقمر مع مرور الشهور والأعوام، فهذا من شأنه أن يساعد على حلّ عدد من القضايا العلمية المهمة المتعلقة بحركة كل من الأرض والقمر، وبنظرية تزحزح القارات، وبنظريات الجاذبية، وغيرها. ويترتب على هذا كله بطبيعة الحال إعادة النظر في القيم والثوابت الفيزيائية المعروفة حاليّاً، مثل ثابت الاختلاف المركزي المداري للقمر، وثابت الجذب العام، وغيرهما.
من ناحية أخرى، أضافت بعثات (أبوللو) معلومات مهمة عن قمر الأرض. ففي ديسمبر عام 1972 تمكن رائدا الفضاء الأمريكيان في رحلة (أبوللو17) من قيادة مركبة قمرية لمسافة 80 كيلومتراً فوق سطح القمر، وجمع عينات من الصخور والأتربة القمرية بلغ وزنها 151 كيلوغراماً، كما سجلت أجهزة القياس التي حملاها معهما على هذه المركبة معلومات مفيدة عن تساقط النيازك والشهب، ونشاط الإشعاع الشمسي، وقياس الأشعة الكونية، وغيرها.
أطول الرحلات
إن المسافات بيننا وبين النجوم تقاس بالسنوات الضوئية. وعندما انطلقت سفينة الفضاء (أبوللو) متحررة من أسر الجاذبية الأرضية ومتجهة نحو القمر، كانت سرعتها نحو 40 ألف كيلومتر في الساعة، وهي أقصى سرعة سافر بها بشر حتى الآن. وإذا انطلقت سفينة فضاء بهذه السرعة، فإنها تستغرق ما يزيد على 150 ألف عام حتى تقطع مسافة 43 مليون مليون كيلومتر لكي تصل إلى أقرب النجوم إلينا، وهو (ألفا قنطورس)؛ لهذا فإن المسابير الفضائية المزودة بالإنسالات، والتي لا يديرها بشر، هي التي يرسلها علماء الفضاء لاستكشاف أجرام المجموعة الشمسية والسفر إلى النجوم.
ولعل أطول المسابير الفضائية التي أرسلها الإنسان إلى المجموعة الشمسية الخارجية والنجوم هما (فويجير1)، و (فويجير2)، اللذان تم إطلاقهما من الأرض في عام 1977، بسرعة أكبر قليلاً من 40 ألف كيلومتر في الساعة. ولقد اعتمدت فكرة الرحلة على الاستفادة من جاذبية كل كوكب تمر به السفينة في رحلتها لتقذف بها أسرع وأسرع من كوكب إلى آخر.
وفي التاسع من يوليو عام 1979 وصلت (فويجير2) إلى المشتري، واكتشفت ضمن ما اكتشفت أن له ثلاثة أقمار إضافية غير التي كانت معروفة من قبل. أمَّا المسبار الفضائي (فويجير1) فقد مرّ بكوكب المشتري في 1979، ووصل في عام 1980 إلى (تيتان) أكبر أقمار زحل، وتعرف إلى وجود مواد كيميائية عليه كتلك التي على الأرض، في حين مرّ المسبار الفضائي (فويجير2) بكوكب زحل عام 1981 بسرعة 54 ألف كيلومتر في الساعة بعد أن قذفه المشتري لينحرف متجهاً نحوه، واكتشف أنَّ له سبعة أقمار جديدة، بعد ذلك قذف بالسفينة إلى كوكب (أورانوس) ووصلت إليه في 24 يناير عام 1986، واكتشفت أن له عشرة أقمار جديدة لم يتم رصدها من قبل، كما كشفت عن وجود تسع حلقات تحيط به، مثل تلك التي تحيط بكوكبي المشتري وزحل، واتضح أن حلقة (إبسلون) أشدها سطوعاً.
وفي 25 من أغسطس عام 1989 عبر (فويجير2) مسافة 4800 كيلومتر خلال سحابة تغلف الكوكب (نبتون)، واكتشف وجود ستة أقمار صغيرة تدور حوله غير القمرين العجيبين المعروفين من قبل: (نيريد) Nereid و(ترايتون) Triton.
وكان الكوكب وقتها يبعد عن الكرة الأرضية نحو 5000 مليون كيلومتر. وكانت الرسائل اللاسلكية تستغرق نحو أربع ساعات كاملة لتنتقل من السفينة إلى الأرض.
عند هذا الحد كانت رحلة المسبارين (فويجير1 وفويجير2) قد زادت على 12 عاماً، وأصبحت الأجهزة الموجودة عليهما قديمة، وظهر بدلاً منها برامج وحواسيب أكثر دقة؛ مما دفع العلماء إلى إجراء تحديث وتطوير لأجهزة الرصد والبحث وهم على الأرض في مراكز التوجيه والتحكم من بُعد.
والآن، بعد مرور أكثر من 36 عاماً على إطلاقهما من الأرض، يتوغل المجسّان إلى خارج حدود مجموعتنا الشمسية، ويدوران في الطبقة الأكثر بُعداً في الدرع الشمسي Heliosheath، حيث الرياح الشمسية (وهي تيار من الجسيمات المشحونة المنبعثة من الشمس) مازالت واضحة، ولكن ضغط الغاز النجمي يحدّ من سرعتها. ولا يزال المجسان غير قريبين من الحد الفاصل للغلاف الشمسي Heliopause، وهو النقطة النظرية التي يبطئ عندها التيار الشمسي مسيره إلى أن يتوقف.
ويتوقع العلماء أن تتجه السفينة (فويجير1) نحو نجم قزم يحمل الترقيم AC+793888، وتصل إليه بعد نحو 40 ألف سنة، في حين تيمم (فويجير2) شطر النجم (سيريوس) وسوف تمر بالقرب منه بعد 360 ألف سنة!
ولما كان العلماء يتوقعون مبلغ طول هذه الرحلة الفضائية للمسبارين بعد أن ينطلقا في أعماق الفضاء السحيق، بعيداً عن مراقبة الإنسان الذي أطلقهما، فقد حمّلوهما رسائل خاصة إلى أي كائن عاقل قد يصادفهما بعد آلاف – وربما ملايين – السنين من الآن. شملت هذه الرسائل تسجيلات لصور الحياة على الأرض، وتحيات بستين لغة لشعوب الأرض، ونماذج من الموسيقا من جميع أنحاء العالم، وضمّنوها أسطوانة مطلية بالذهب وتعليمات عن كيفية تشغيلها.