زكريا الهلال
باحث وأكاديمي (بريطانيا)
لطالما كان الإبداع محط أنظار العالم أجمع، باعتباره يشير إلى التفكير خارج المألوف، ويتضمن تطوير أفكار أو اكتشاف طرائق جديدة للتعامل مع المشكلات والاستفادة من الفرص المتاحة. وهنالك مراحل مختلفة تتولد في طياتها الأفكار الجديدة؛ تبدأ بالإعداد الذهني والحصول على المعرفة (مثلا عن طريق المطالعة أو التجربة)، يلي ذلك فهم العناصر الأساسية المكونة للوضع الحالي وتحديد المشكلة المراد حلها. ثم الخطوة الثالثة التي تتمثل في التحول، والتي تتضمن النظر إلى العناصر المتشابهة ومحاولة الربط بينها والنظر إلى العناصر المختلفة للبناء عليها. بعدها تأتي مرحلة الكُمون، وهي مرحلة تريث وانتظار يحدث فيها تفكير عميق، ويحدث هذا عادة عندما يكون المرء بعيداً عن المشكلة (مثلاً أثناء ممارسة المشي أو عند الاستحمام!). والمرحلة الخامسة هي الإشراق وفيها تنبثق شرارة الفكرة، يتبع ذلك التحقيق وإجراء التجارب للتأكد من أن الفكرة الجديدة قابلة للتطبيق في الواقع العملي. إنها خطوات متسلسلة ننفذها أحياناً بصورة منطقية وتلقائية ولا واعية، ليس بكافٍ فيها تخيل الموظف ولا تشجيع المدير!
ولنقل مراحل الإبداع هذه من الجانب النظري إلى التطبيق، ثمة خطوات عملية يمكن اتباعها لتحقيق أي فكرة إبداعية، وهي:
التوجّه (تَحَدّ ذاتك بوضع أهداف تحفزك إلى الإبداع والتفكير):
المقصود بالتوجه هنا هو الالتفات أو الوعي بأهمية الشيء والفائدة من اكتسابه أو إجرائه، ثم العمل على تحصيله. وقد ينتج من معرفة أو تفكير أو رغبة ذاتية تقودك إلى وضع هدف. هل تعرف المجال الذي تريد أن تُبدع فيه؟ وأين تركز طاقتك؟ ومن أين تبدأ؟. إن توجه الشخص الذي ينتج عن قناعة شخصية وتفكير بفائدة عمله سيكون مقدمة مهمة تقود في النهاية إلى الفكرة الإبداعية.
ومن دون التوجه ستمر الأحداث من حولك دون أن تتعلم منها الكثير، فالتوجه هو ما يجعلك يقظاً تربط بين الأفكار والأشياء والفرص وتبحث عن المعلومة التي تحقق لك الهدف الذي تريد؛ إنه باختصار يولّد التركيز ويوقظ الذهن. وعندما يلتقي التوجه بالاستعداد المعرفي تبدأ الخطوة الأولى عملياً في طريق الإبداع. يجب ألا تبحث عن أفكار لبراءة اختراع، لكن توجه إلى الأمور التي تجد لديك استعدادا ذهنيا نحوها، فإذا كنت مديراً يمكنك مثلاً أن تبعث برسالة إلى موظفيك بشكل سنوي تخبرهم بالأطر العامة للتحديات التي تواجهها الإدارة التي يُتوقع أن يساهموا في إيجاد حل لها. أما إذا كنت موظفاً في مهنة فنية فقد تفكر في تطوير التقنية الحالية التي تؤدي بها الشركة أعمالها.
التركيز (حدد مجالا لأفكارك):
لا إبداع بلا تركيز. الآن بعد أن حددت الإطار العام لموضوع الفكرة (على سبيل المثال تطوير منتج أو عملية) يتم الانتقال إلى نطاق أضيق، وهو البحث عن مشكلة والعمل على إيجاد حل لها، أو البحث عن فرصة تطوير أو تحسين. إذا لم تضع لك إدارتك إطاراً للمشكلة أو الفرصة فقد تجد صعوبة في تحديد مجال تركيزك. إن مطالبة الإدارة للموظفين بأفكار إبداعية تحت أطر عامة وفضفاضة، كالمطالبة بتحسين العمليات أو استخدام التكنولوجيا، غير كافٍ لتركيز الجهد نحو هدف محدد. فأهداف الشركات تنبع عادة من الرؤى التي تُصاغ بعبارات تحمل معاني واسعة تشكل الإطار العام لما تريد الشركة تحقيقه لكنها لا تمنحك التركيز، فهي كُتبت لتَسْترشد بها الإدارات في أعمالها.
إن فهم العناصر الأساسية المكونة للوضع الحالي وتحديد المشكلة المراد حلها هو العنصر الثاني من عملية الإبداع. وإذا لم تجد من يحدد لك أين تصب جهودك فبإمكانك العمل على تحديد بعض المشكلات الرئيسية القائمة ومناقشتها مع رئيسك، ثم المساعدة على إيجاد حلول مبتكرة لها. لكل عمل أو وظيفة نوع من التركيز الخاص به. اسأل نفسك: “ما المنتج الخاص بمهنتي أو المتوقع مني؟”، اطلع على آخر التطورات في مجالك، اقرأ مخرجات العمل الحالية والكيفية التي تُدار بها في الشركات الأخرى، ثم حدّد مشكلة أوفرصة تمكنك من إضافة قيمة. إن تحديد المشكلة أو الفرصة ربما لا يكون يسيراً، وفي كثير من الأحيان يتطلب البحث والتفكير والربط بين معطيات مختلفة، وهو ما يوصلك إلى المرحلة الثالثة التي تتمثل في التحول، والتي تُحدد فيها العناصر المتشابهة وتلك المختلفة للبناء عليها. في الواقع، يتطلب التركيز وقتاً وجهداً ولن يكون كل الأشخاص مستعدين لفعل ذلك.
ابحث عن زاوية للإبداع (ارتق و اصعد بعملك من المستوى التقليدي على الأقل درجتين):
يمكنك إخراج عملك بطريقة خارجة عن المألوف إذا فكرت في إضافة شيئين (أو أكثر) ذوي قيمة إلى الفكرة الأساسية. إن مناقشة أفكارك مع الآخرين والاستماع إلى اقتراحاتهم هي إحدى الطرائق السهلة للحصول على أفكار إضافية تمنح أفكارك أفقاً أوسع. مثلاً يقدم أحمد دورات تدريبية، ولِجَعل محاضراته متميزة عن غيرها قرر إقامة رحلة ميدانية للمشاركين، ناقش الأمر مع زميله سامي الذي اقترح عليه دعوة أحد الخبراء للحديث عن تجاربه في موضوع المحاضرة، و اقترح عليه عليٌّ مساعدته من خلال دعوة إحدى الشركات المتخصصة لعرض أحدث الحلول التكنولوجية المرتبطة بالموضوع. اعتبر زملاء أحمد عمله إبداعا في تقديم المادة فاق توقعات العملاء ومَيّزه عن بقية المحاضِرين. ربما يفكر بعض الأشخاص عادة بإيجاد فكرة يحسِّن بها منتجاً أو عملية، لكن البحث عن زاوية للإبداع بإضافة فكرتين أو ثلاث بحيث تكون غير متوقعة و أيضاً محببة لدى العميل سيضيف عنصري الدهشة والإثارة، ويجعل ما تفعله إبداعاً عند الآخرين.
اقتف طريق الخبراء:
إن النظر في الطرائق التي يتبعها الخبراء للإتيان بأفكار جديدة قد يجعل مشوار الحصول على “الفكرة” أقصر مما تتصور. مثلاً حصل أحمد على أول فكرة براءة اختراع له عندما جمع وحلل براءات اختراع لاستشاري يعمل معه كان مشهورا بكثرة إنتاجه العلمي. عمل أحمد على البحث عن الرابط بين الأفكار التي يطرحها الخبير محاولاً معرفة الطريقة التي يتبعها. لم يكن ذلك واضحاً، ثم ناقش تحليله وملاحظاته مع أحد الزملاء لكن لم يتوصلا إلى شيء. بعد بضع ساعات من “الكمون” –المرحلة الثالة في الإبداع- عاد أحمد وفي ذهنه فكرة سجلها كبراءة اختراع، وارتبطت بشكل غير مباشر بأعمال الخبير الذي اقتفى أثره. استغرق الأمر فقط عدة ساعات من القراءة والتحليل وربط الأفكار لولادة الفكرة. أسلوب التحليل هذا مشابه لأسلوب تريز (TRIZ) الذي يعتبر طريقة علمية منظمة اعتُمد في تطويرها على دراسة المئات من أكثر براءات الاختراع إبداعاً في العالم، والنتيجة التي خرج بها الباحثون هي أن الأفكار تتبع نمطاً معيناً، وهنا يمكن النظر إلى النمط الذي يستخدمه الخبراء في مجالك.
سرعة الإنجاز تزيد من الإبداع:
كمال الفكرة وقيمتها هما في القدرة على إخراجها إلى أرض الواقع (تحويلها إلى ابتكار). يمكن للمرء الربط بين عدد لا متناهٍ من الأشياء من أجل الإتيان بأفكار جديدة، لكن ليس من السهل الخروج من بين هذه الروابط بفكرة ذات قيمة. أنت تحتاج إلى تقييم الأفكار بحسب احتمال نجاحها والنتيجة المرجوة منها، بعدها تعمل على إنجاز هذه الأفكار. كلما أنجزت في وقت أسرع وبالجودة المطلوبة (مع مخاطرة محسوبة) زادت قدرتك على الإتيان بمشروعات وأفكار جديدة لتنفذها. وكلما انتقلت من مستوى تحدٍ إلى آخر أعلى منه ازدادت خبرتك ومعرفتك بنوعية الأفكار القابلة للنجاح ومقومات ذلك النجاح، وازدادت أيضاً ثقتك بنفسك. إن نجاحاتك المبكرة تمكنك من الحصول على دعم الآخرين والموارد اللازمة لمشروعاتك المستقبلية.
التقطها، فحولك منها الكثير:
ليس من الضروري أن تجهد ذهنك من أجل الإتيان بفكرة جديدة لتطوير أعمالك، فليس هناك ندرة في الأفكار. فقط تَعرَّف على بعض الطرق الفعالة التي يمكن جمع الأفكار المتميزة من خلالها. مثلاً في الاجتماعات تطرح العديد من المشكلات التي تتكرر لكن لا يوجد من يأخذ زمام المبادرة لإيجاد حل لها. ويركز معظمنا على الأهداف قصيرة المدى لما يكون لها من قِطاف يظهر أثره سريعاً، لكن الكثير من الأفكار ذات القيمة الحقيقية يزهد فيها كثيرون لأن فعلها يتضمن عناء و مشقة، أو يتطلب انتظارا طويلا حتى قطاف الثمرة.
في الختام، تظهر الأبحاث أن كل إنسان يمتلك قدراً من الإبداع، لكن الأمر يرتبط باستخدام الإنسان لطاقاته وتوفر الفرص والبيئة الملائمة. فعلى الفرد أن يفهم العوامل المساعدة والأدوات المستخدمة للحصول على أفكار أفضل، وعلى الشركات توفير الظروف الملائمة والداعمة للعملية الإبداعية. و يبقى المقياس النهائي للنجاح هو القدرة على تحويل الإبداع إلى قيمة على أرض الواقع (منتجات، خدمات، تطوير عمليات … الخ) بما يعزز نمو أعمال الشركة ويعود بالنفع على المجتمع.