د. علي أسعد وطفة
أكاديمي وباحث، كلية التربية، جامعة الكويت
عندما يقرأ الإنسان في صفحات الأنثروبولوجيا، ويتجول في رحابها الواسعة وفضائها الفسيح، يسيطر عليه فضول علمي غامر يأخذه في رحلة البحث عن الدلالات والمعاني الكبرى للوجود الإنساني. وعندما يستزيد من القراءة تمتلكه رغبة جامحة تشده إلى الترحال على مراكب هذا العلم بحثا عن المعرفة والحقيقة استكشافا للجمال المكتنز في عالم الإنسان والحياة الإنسانية. فالأنثروبولوجيا حالة من الترحال في الجوانب الخفية الغامضة من الحياة الإنسانية تأخذ الإنسان إلى عوالم غريبة وبعيدة ليستكشف معانيها، ويفكّ رموزها، وينهل من معينها.
ولطالما كانت الرحلة على مركب الأنثروبولوجيا أشبه برحلة سحرية في عالم من الأسرار يفيض بالغامض والصامت والمكتنز والرمزي والخيالي والمدهش والأسطوري والواقعي والحقيقي في آن واحد، ويقينا أن الترحال في هضاب هذه الأنثروبولوجيا أشبه برحلة في قارب يتهادى في مجرى واد جميل عميق تحيط به أسرار الطبيعة وجمالها، حيث تحمل كل انسيابة على صفحات الماء استكشافا متجددا لسحر الطبيعة وجمالها وألقها، فلا يأمنن المسافر على نفسه من الإصابة بخدر ودوار افتتانا بجمال الطبيعة ودهشة بأسرارها.
وكما هي الأنثروبولوجيا بديعة ومتميزة بأي نوع تجلت، فإن الأنثروبولوجيا التربوية تأخذ بشغاف القلب والعقل معا، وتضع القارئ في صورة التجليات الكبرى للحياة التربوية عند الأمم والشعوب، فتلقي بأنوارها الذكية على المظلم في الحياة التربوية المعاصرة، وتكشف عن عمق التحديات الإنسانية في الحياة التربوية المعاصرة.
والأنثروبولوجيا التربوية فرع ناشئ من الأنثروبولوجيا الثقافية، وهي فرع علمي يوظف المناهج الأنثروبولوجية في دراسة الظواهر التربوية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية على نحو شمولي وكلي. ويمكن القول في هذا السياق إن الأنثروبولوجيا التربوية نشأت وتطورت تحت مظلة الأنثروبولوجيا الثقافية التي غالبا ما تركز على العلاقة الجوهرية بين الشخصية والثقافة.
محطات تاريخية
ثمة ثلاث محطات تاريخية معروفة في تطور الأنثروبولوجيا التربوية. تتمثل المحطة الأولى في عام 1955 عندما نشر سبندلر G. D. Spindler كتابه “التربية والأنثروبولوجيا” Education and Anthropology في ستانفورد؛ أما المحطة الثانية فكانت عام 1970، وهي السنة التي تأسس فيها مجلس الأنثروبولوجيا والتربية Council of Anthroplogy and Education بإشراف الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية American Anthropological Association؛ وتنتظم المحطة الثالثة مع ظهور الدورية العلمية الفصلية التي حملت اسم “الأنثروبولوجيا والتربية” Anthropology and education Quarterly في عام 1978. وقد ظهرت الأنثروبولوجيا التربوية وعملت على تحقيق استقلالها من خلال التجاوب مع الضرورة الاجتماعية والاحتياجات العلمية في نهاية عام 1960 ولاسيما في معترك الصراع مع علم النفس التربوي.
ومن أهم العوامل التي أدت إلى ظهورها:
عوامل اجتماعية سياسية: وذلك عندما استعانت الحكومة الأمريكية بعلماء الأنثروبولوجيا لمواجهة المشكلات التربوية المتعلقة بالفئات الاجتماعية العرقية والأقليات الدينية والفئات الاجتماعية الفقيرة.
عوامل إبيستيمولوجية: تمثلت في الخلاف بين الأنثروبولوجيين وعلماء النفس التربويين حول مفهوم الحرمان الثقافي Cultural deprivation. وجوهر هذا الخلاف يكمن في تجاهل علم النفس التربوي للظروف الاجتماعية اللغوية والإثنية والثقافية التي تشكل مبدأ العطالة المدرسية من وجهة نظر الأنثروبولوجيين في حين كان علماء النفس التربوي يأخذون بالطابع السيكولوجي لهذه المسألة دون اهتمام كبير بالأوضاع الاجتماعية.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى مجموعة من العوامل التي تفسر لنا السبب الذي لم تصبح وفقه الأنثروبولوجيا التربوية علما مستقلا قبل عام 1970. ومن هذه العوامل أن المدارس في المجتمعات التي خضعت للدراسة من قبل الأنثروبولوجيا التربوية لم تأخذ طابعا مؤسساتيا، وأن الدراسات التي أجريت في المستعمرات حول المدرسة كمؤسسة للتغيير الاجتماعي تتعارض مع التوجهات البنيوية الوظيفية للأنثروبولوجيا، وأن الأنثروبولوجيين في موطنهم أو في بلدانهم أدوا دور المحامي في الدفاع عن الأوضاع التربوية للأقليات العرقية والفئات الاجتماعية المهيضة، إضافة إلى أن معظم الدراسات التي أجريت كانت دراسات أمبيريقية، وهذا يعني افتقار هذا الفرع العلمي الوليد إلى الطاقة الفكرية التي تتعلق بالمفاهيم والنظرية والفلسفة العلمية التي تعطي للعلم طاقته الفكرية وتمنحه طابع الاستقلال.
ثلاثة مسارات
تأثرت الأنثروبولوجيا التربوية في البدايات بمناهج العلوم الاجتماعية ونظرياتها واستندت إليها في تناول المشكلات والقضايا التربوية. واستطاعت تدريجيا أن تطور مناهجها ونظرياتها الخاصة بها بمرور الزمن. وشكلت عملية تحديد الأهداف المحور الأساسي لنشاط الباحثين الأنثروبولوجيين في مجال التربية. وحدد بعض الباحثين ثلاثة مسارات أساسية للأنثروبولوجيا التربوية يتطرق الأول إلى إجراء الدراسات التاريخية المقارنة حول الأنظمة التربوية وقضاياها المتنوعة، وإجراء الدراسات النظرية وبناء المفاهيم الأساسية الحيوية في مجال الاختصاص، وإجراء الدراسات الأنثروبولوجية التطبيقية في المجال التربوي. أما المسار الثاني فيتعلق بدراسة المضامين التربوية في داخل المؤسسات التربوية وفقا لمنهج الملاحظة الأمبيريقية والإثنوغرافية، ودراسة السياق العام للعملية التربوية في المدارس والمؤسسات التربوية. ويتمثل المسار الثالث في الاستفادة من آراء ووجهات نظر الباحثين القائمين على تفسير وتحليل صيرورات الحياة التربوية في المؤسسات التعليمية.
والمهم في هذا السياق أن الأنثروبولوجيين عملوا في السبعينيات من القرن العشرين على بناء مناهجهم ومفاهيمهم الخاصة لدراسة الظواهر التربوية على نحو أنثروبولوجي. وتمركزت مناهجهم هذه على المناهج الحية التي تعتمد على الوصف المباشر الشخصي الإثنولوجي لأوضاع المدرسة وما تنطوي عليه من عناصر إشكالية. وقد تبنت هذه الأنثروبولوجيا المعطيات الجديدة للبحوث الإثنوغرافية في مجال دراسة الأسرة واللغة والثقافة والمعرفة والهوية والطقوس والضبط الاجتماعي.
وبصورة عامة اعتمدت المناهج الجديدة لعلم الأنثروبولوجيا التربوية على الدراسات الوصفية الإثنولوجية، وارتكزت على السياق العام للظواهر المدروسة، وعلى منهج دراسة الحالة المقارن. ومع ذلك فإن الجانب التفسيري لهذا العلم بقي في حدوده الدنيا حتى تلك المرحلة. والمهم في هذا المستوى أن الأنثروبولوجيا التربوية كثفت جهودها من أجل بناء معرفة جديدة ورؤى وتصورات متجددة حول الظاهرة التربوية، وعملت في الوقت نفسه على توظيف هذه المعرفة الجديدة في دراسة الظواهر المدرسية والتربوية.
سياق إنساني حي
تكمن الأصالة العلمية للأنثربولوجيا التربوية في قدرتها الهائلة على استكشاف العمق والروح والدلالة والمعنى الكامنة في قلب العمليات التربوية، بطريقة تفوق حدود وإمكانات الفروع العلمية الأخرى التي تبحث في قضايا التربية ومشكلاتها وتحدياتها. فمع الأنثروبولوجيا التربوية نجد أنفسنا في مشهد حيّ كلي شمولي مضمخ بدلالته الإنسانية مفعم بزخم الحياة ودفعها، لأن الأنثروبولوجيا تتناول القضايا التربوية في سياقها الإنساني الحي، وكأنك في مشهد خلاق خلاب تتفاعل فيه كل اللحظات والجزئيات والمواقف والمعاني والدلالات التي تشترك جميعا في بناء المشهد التربوي في حركته ونقلته وتكونه وانبساطه، فتقف مذهولا مسحورا أمام هذا الفعل الإنساني الذي يجمع بأطراف الواقع والعقل والرمز والوجدان في نبضة واحدة. وتأتيك اللحظات التالية للمشهد حيث يتم استخدام الرموز والدلالات والمعاني والكلمات والإشارات والإيماءات جميعا في عملية توصيف الفعل التربوي واستخراج الحقائق الكامن فيها جلية واضحة تخاطب العقل والوجدان وتمنحهما القدرة على الفهم والتمثل.
وتستجيب الأنثروبولوجيا التربوية لتساؤلات وجودية حيوية جديدة في الحياة التربوية، تتمثل في أمور عدة كالعنف التربوي، والتمييز الاجتماعي، والتعصب، وتراجع القيم، وأزمة الهوية. وهذه الظواهر تأخذ حضورها الكبير في مجال سلوكنا وحياتنا اليومية والتربوية. ومن الواضح أن هذه القضايا تؤطر في تصورات أيديولوجية وديماغوجية وفي أوهام إعلامية، وهنا يبرز دور الأنثروبولوجيا التربوية في إحالة هذه القضايا إلى مسار التوجهات العقلانية فهما لأسبابها واستكشافا لماهياتها الغامضة. وفي هذا المسار تعمل الأنثروبولوجيا على تنظيم هذه القضايا في سياقها الثقافي والاجتماعي، والانتقال بها من صورة التعقيد التي هي عليه إلى الوضوح الأنثروبولوجي في أسمى معانيه.
لقد حان الزمن التربوي الذي يجب فيه تحليل الطقوس والكشف عن دلالاتها في دوامة التفاعل التربوي بين العام والخاص، بين الكلي والجزئي، بين الأنا والآخر، وجاء الزمن الأكاديمي الذي يجب فيه اكتناه المعاني والدلالات والرموز على نحو أكثر عمقا وشمولا في مدار الممارسات التربوية المعاصرة. هذه القضايا والتحديات الجديدة تشكل حاليا الموضوعات الأساسية للأنثروبولوجيا التربوية.
وقد وقع في اعتقاد المربين أن الأنثروبولوجيا التربوية ليست بريقا فرضته صرعات الموضة العلمية، بل هي استجابة حقيقية لمشكلات وتحديات تربوية كبرى فرضتها وقائع الحياة المعاصرة في مختلف مستوياتها الاجتماعية والإبيستيمولوجية. وهذا النمو الكبير والاتساع المظفر للأنثروبولوجيا التربوية لا يشكل تطفلا أو تهديدا للعلوم التربوية التقليدية (علم الاجتماع التربوي، علم النفس التربوي، وغيرهما) بل إنه – على خلاف ذلك – يعزز مسار هذه العلوم، ويستفيد منها ويعمل على تحقيق التقارب فيما بينها، والتلاقي بين معطياتها وتوحيد اتجاهاتها في مسار اكتناه الحقيقة الإنسانية في تجلياتها التربوية.