د. خالد عباس الطرابيلي
ثمة ظاهرة طبيعية معروفة للباحثين والعاملين في مجالات التربة وعلوم الحياة تتمثل في ظاهرة كراهية اﻷراضي للمياه (أو طرد التربة للمياه)، ولطالما عرفت بآثارها السلبية السيئة؛ لأن تلك النوعية من الأراضي تظل جافة وغير قابلة للبلل وغير قادرة على امتصاص واختزان الماء مدة طويلة على الرغم من توافر المياه أثناء الري وبعده، وخلال تساقط مياه الأمطار وبعده، إذ تظل المياه متجمعة على سطح التربة دون أن تنفذ إلى الأرض، ومن ثم تقلل من امتصاص النباتات للماء (الشكلان 1 و2). وثمة دراسة حديثة في الإمارات أجراها الباحث أظهرت نجاح طريقة جديدة في التعامل مع هذه الظاهرة والحد من آثارها.
وهذه الظاهرة السلبية منتشرة في العديد من الأراضي بمناطق متفرقة من العالم ، منها كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية ، ولاسيما بعد مدد الجفاف الطويلة مسببة خسائر اقتصادية كبيرة؛ بسبب عدم صلاحية تلك الأراضي الكارهة للماء للزراعة.
هناك ثلاثة أنواع من القوى تؤثر وتتحكم في نفاذية الماء إلى التربة:
1 – قوة الجاذبية الأرضية: وهي القوة التي تقوم بجذب الماء إلى الأسفل.
2 – قوة التماسك: وهي التي تعمل على تماسك جزيئات الماء بعضها مع بعض.
3 – قوة الالتصاق وهي التي تعمل على التصاق جزيئات الماء بالسطوح الأخرى مثل حبيبات التربة.
ويمكن توضيح تأثير هذه القوى على ظاهرة كراهية التربة للماء، وذلك بوضع قطره ماء على ورقة ترشيح عادية وقطرة ماء أخرى على ورقة ترشيح مغطاة بطبقة من الشمع. ففي حالة ورقة الترشيح غير المغطاة بالشمع تكون قوة الالتصاق بين جزيئات الماء وجزيئات ورقة الترشيح أكبر من قوة التماسك ، ومن ثم فإن جزيئات الماء تبلل الورقة وتنتشر من خلالها. أما في حالة ورقة الترشيح المغطاة بطبقة من الشمع فإن قطرة الماء لا تبلل سطح ورقة الترشيح وتبقى كما هي فوق السطح مكونة فقاعة أو خرزة Water Beads؛ لأن جزيئات الماء لا تنجذب إلى طبقة الشمع بل تنجذب إلى بعضها بعضا، باعتبار أن قوة تماسك جزيئات الماء مع بعضها تكون أكبر من قوة التصاق جزيئات الماء مع الشمع المغطى للورقة، ومن ثم فإن سطح ورقة الترشيح المغطاة بالشمع يطرد الماء، ويقال عنه إنه وسط كاره للماء.
إن للتربة الطاردة أو الكارهة للماء زاوية تماس منفرجة مع الماء تساوي أو تكون أكبر من º90 ، مما يؤدي إلى حدوث نقصان في الخاصية الشعرية، ومن ثمّ إلى منع نفاذ الماء إلى التربة. هذا بعكس التربة المحبة للماء Soils Hydrophilic أو التربة القابلة للبلل التي لها زاوية تماس حادة مع الماء أقل من º90 ، مما يؤدي إلى نفاذ الماء خلال التربة.
تعتمد ظاهرة كراهية التربة للماء أيضاً على مساحة سطح حبيبات الرمال ، إذ تتناسب هذة الظاهرة عكسيا مع مساحة سطح حبيبات التربة؛ أي إنه كلما قلت مساحة سطح حبيبات التربة زادت قابلية الأراضي لأن تكون كارهة للماء.
آثار سلبية
تؤدي ظاهرة كراهية التربة للماء إلى الآثار السلبية الآتية:
> الإقلال من نفاذية المياه اللازمة للزراعة، مما يؤدي إلى عدم وصول الماء إلى جذور النباتات، ومن ثم عدم صلاحية التربة للزراعة. وهذا يؤدي إلى خسائر كبيرة في الإنتاج الزراعي نتيجة اﻹقلال من إنبات البذور ومن نمو البادرات.
> الأمطار الغزيرة قد تؤدي إلى حدوث تعرية شديدة في تلك الأراضي نتيجة جريان المياه دون اختراقها للتربة، مما يؤدي إلى تكوين الشقوق واﻷخاديد في الأراضي، بمعنى وجود أمكنة فيها مياه وأمكنة أخرى جافة. وهذا يؤثر على توافر الماء وإنبات البذور ويؤدي إلى فقدان كميات كبيرة من الطمي الذي يساعد على خصوبة التربة.
> من الناحية الجيولوجية تؤدي وجود هذه الأراضي إلى زيادة معدل تعرية التربة، ومن ثم فقدان كميات كبيرة من طبقات التربة السطحية، مما يؤثر كذلك على الطبقات الأرضية السطحية وتحت السطحية وعلى استقرار تركيب الأراضي.
> تزداد فرصة تعرية الأراضي الكارهة للماء بسبب الرياح، وبالذات عندما يكون الإنتاج الزراعي ضعيفاً.
> تلوث المياه الجوفية بالمبيدات والأسمدة المستخدمة فى الزراعة نتيجة ذوبان هذه المركبات في الشقوق التي تتكون نتيجة جريان الماء فوق سطح التربة، ومن ثم تسّرع من هروب الأسمدة والمبيدات إلى أعماق التربة وإلى المياه الجوفية بدلاً من أن تصل إلى جذور النباتات مسببة تلوثاً بيئياً.
> عدم توافر المياه بالتساوي في تلك الأراضي يؤدي إلى زيادة الإنبات غير المتساوي في العمر؛ لأن البذور لا يحدث لها إنبات في وقت واحد ويحدث الإنبات في مناطق وأوقات متفرقة مما يؤدي إلى عدم تساوي نمو البادرات. وهذا قد يؤثر على الأراضي الزراعية وإنتاجية المحاصيل أثناء الحصاد وعلى جودة أراضي المراعي.
أسباب الظاهرة
تنشأ هذه الظاهرة نتيجة تغطية حبيبات التربة بمواد عضوية كارهة للماء، تتمثل في مواد شمعية وهيدروكربونات عديدة السلاسل وأحماض دهنية وألكانات وبارافنيات. وهذه المواد الشمعية تنتشر في التربة بسهولة ومن مكان إلى آخر خلال موسمي الصيف والشتاء. وتذوب تلك المواد نتيجة حرارة فصل الصيف، ومن ثم تخترق حبيبات التربة، ثم تتجمد في الشتاء مكونة غطاء حول حبيبات التربة.
ويمكن تلخيص مصدر هذه المواد الكارهة للماء في المصادر الآتية:
> تفرز الفطريات إنزيمات تقوم بتحليل نثار وركام الأوراق والأغصان الميتة التي تكسو أراضي الغابات خلال فصل الخريف والشتاء، مما يؤدي إلى خروج كميات كبيرة من المواد الدهنية والشمعية إلى التربة.
> تكوين كميات كبيرة من حامض الهيوميك والفولفيك على حبيبات التربة.
> المواد الدهنية والشمعية التي تنشأ نتيجة حرائق الغابات، إذ إن هذه الحرائق تؤدي إلى تطاير المواد الدهنية العضوية بما فيها الشموع من أوراق النباتات بعد حرقها. وهذه المواد الشمعية تخترق التربة في صورة غازية بعد الحرارة العالية الناجمة عن الحرائق، ثم تتجمد عندما تبرد مكونة طبقة شمعية كارهة للماء تحيط بحبيبات التربة .
> المواد الدهنية التي تخرج من إفرازات جذور النباتات.
> خيوط الفطريات وبقايا التفاعلات الميكروبية في التربة التي تنشأ عن تحلل بقايا النباتات والمواد العضوية في التربة، والتي تؤدي إلى تكوين أحماض عضوية وعدائد السكريات ذات الأصل الميكروبي.
> بقايا الجذور المتحللة في التربة.
> تلوث الأراضي بالهيدروكربونات السائلة والمواد البترولية.
> الزراعة المستمرة للبقوليات مثل الترمس والبرسيم وبعض أنواع الحشائش في أراضي المراعي.
الكشف عن هذه الظاهرة
يتم الكشف عن هذه الظاهرة عن طريق تجربة اختبار اختراق قطرة الماء للتربة ، وهي تتم باختيار الأنواع المختلفة من الأراضي المراد الكشف عنها أو اختيار أعماق مختلفة من نفس نوع الأرض.
هناك العديد من الطرق المستخدمة للحد من هذه الظاهرة، ومن ثم تحسين خصائص التربة عن طريق زيادة نفاذية وانتشار الماء إلى داخل التربة الكارهة للماء. وهذه الطرق تتضمن اﻷساليب الآتية:
1 – استخدام هيدروكسيد الصوديوم.
2 – استخدام خليط من الأمونيا والإيزوبروبانول.
3 – استخدام المواد ذات النشاط السطحي غير المتأينة أو المواد المبللة مثل المنظفات الصناعية، والتي تقوم بالإقلال من التوتر السطحي، ومن ثم تزيد من معدل قابلية الماء للنفاذ إلى داخل التربة الكارهة للماء.
4 – استخدام كربونات الكالسيوم والجبس الزراعي.
5 – استخدام الطمي أو الطفل Clay الذي يزيد من المساحة السطحية للتربة ويقلل من وجود المواد الشمعية الكارهة للماء.
6 – خلط التربة الكارهة للماء بتربة أخرى محبة للماء منقولة من مكان آخر.
7 – إضافة الأسمدة الزراعية للتربة ، مما قد يزيد من أعداد ونمو الكائنات الحية المحللة للدهنيات والشموع والتي تعيش طبيعياً في التربة.
8 – الإقلال من زراعة الأراضي لفترات زمنية طويلة بالبقوليات مثل الترمس والبرسيم.
9 – استخدام طرق زراعية حديثة للري تعتمد على إيصال الماء إلى أعماق التربة بواسطة أجهزة خاصة.
وتعتبر طريقة إضافة الطمي من أكثر الطرق المستخدمة لعلاج هذه الظاهرة، وهي تتم عن طريق إضافة كميات من الطمي (تراوح بين 200-100 طن للهكتار) وخلطها مع الأراضي الكارهة للماء لكنها طريقة مكلفة جداً مادياً.
دراسة جديدة
إن الجديد في الدراسة الحالية التي تم إجراء تجاربها في مختبرات قسم علوم الحياة بكلية العلوم في جامعة الإمارات هو الاعتماد على الطرق الميكروبيولوجية عن طريق استخدام البكتريا المحللة للدهنيات والمواد الشمعية، والتي تفرز الإنزيمات المحللة للدهنيات مثل Lipase.
في هذه الدراسة تم تحضير بيئة جديدة اسمها Beeswax Mineral Salts وهي تحتوي على شمع النحل كمصدر طبيعي للكربون، إضافة إلى بعض الأملاح مثل نترات البوتاسيوم، وسلفات المغنسيوم، وكلوريد الصوديوم، وكربونات الكالسيوم، وفوسفات البوتاسيوم الثنائي. لتحضير هذه البيئة تم غلي شمع النحل على النار في حمام مائي، ثم غسله بالماء أربع مرات لإزالة أي أثر لمواد سكرية ثم تركه يبرد. تمت بعد ذلك إضافة محلول الأملاح إلى شمع النحل في لتر من الماء المقطر وإضافة الآجار إليها.
جرت تربية جميع البكتريا التي تم عزلها من التربة على هذه البيئة الصلبة مدة 3 أسابيع عند درجة حرارة º28م. بعد انتهاء فترة الحضانة تم اختيار أفضل أنواع البكتريا التي استطاعت أن تنمو بسهولة وبكثافة شديدة على الشمع مؤكدة قدرتها على تحليل الشمع كمصدر للكربون (الشكل 5).
ثم جرت تنمية هذه الأنواع القوية على بيئات سائلة عبارة عن مستخلص الشوفان، مضافاً إليه مستخلص الخميرة في مخمرات خاصة مدة أسبوع عند درجة حرارة º28م، وذلك للحصول على كميات كبيرة من البكتريا تحتوي على تركيزات عالية من الخلايا (810 لكل 1 مل من المحلول). ثم خلطت هذه البكتريا السائلة في التربة الكارهة للماء لاختبار قدرة البكتريا على الحد من هذه الظاهرة. تركت التربة مدة شهر في داخل البيوت الزجاجية في اﻷصص الزراعية، وجرى بعدها قياس درجة كراهية التربة للماء باستخدام اختبار اختراق قطرة الماء للتربة.
وجرى أيضاً اختبار عدة أنواع من البكتريا غير المحللة للشمع ، وذلك كدليل في هذه التجارب. وبعد مرور شهر وعند قياس خاصية كراهية التربة للماء لوحظ أن البكتريا المحللة للشمع قامت – بشكل معنوي – بالحد من كراهية التربة للماء مقارنة بالتربة التي تم فيها إضافة البكتريا غير المحللة للشمع أوالتربة غير المعاملة، مما يؤكد أن إضافة البكتريا المحللة للشمع كان لها تأثير معنوي وإيجابي في الحد من هذه الظاهرة.
إن استخدام هذه الطريقة البيولوجية أفضل بكثير من الطرق الكيميائية؛ وذلك لقدرة البكتريا المفرزة لهذه الإنزيمات والمعزولة أصلاً من الأراضي الكارهة للماء والموجودة طبيعيا ولكن بكميات قليلة على تحليل المواد الدهنية والشمعية، وذلك عند إعادة خلطها في التربة بكميات كبيرة وبتركيزات عالية بعد تربيتها في مخمرات خاصة.
أثبتت الدراسة أيضا أن إضافة البكتريا المحللة للشمع إلى التربة تؤدي إلى الإقلال – بشكل كبير- من ظاهرة كراهية التربة للماء ، وأنه يمكن استخدامها للحد من هذه المشكلة بدلاً من الطرق الكيميائية المكلفة مادياً. وتعتبر هذه الدراسة على حد علمنا هي الدراسة الأولى التي تشتمل على استخدام بكتريا محللة للمواد الدهنية والشمعية في معالجة الأراضي الكارهة للماء عن طريق تربيتها في المختبرات، وإعادة خلطها مع التربة واستخدامها مرة أخرى بكميات كبيرة وبتركيزات عالية للقضاء على الظاهرة السلبية التي تحد من الإنتاج الزراعي.
إن الطرق الكيميائية المستخدمة لعلاج هذه الظاهرة تتطلب الاستخدام المتكرر حتى يكون لهذه المواد تأثير إيجابي، وذلك بعكس استخدام البكتريا التي يمكن الاعتماد عليها مرة واحدة؛ لقدرة البكتريا على التكاثر في التربة طبيعيا وفي مدد قصيرة ، ولاسيما عندما توجد المواد الدهنية والشمعية التي يمكن أن تستخدمها البكتريا كغذاء لها، مما يجعل هذه الطريقة مجدية اقتصاديا أيضا.