محمد حسن
لطالما أرهبت الأمراض المعدية والوبائية البشرية، وأدت إلى أخطار كبيرة كان لها وقع الكوارث على العديد من الأمم، وتسببت في مآس لا حد لها لعدد كبير من الشعوب على مدار التاريخ، وأدت إلى إبادة تجمعات بشرية صغيرة في العديد من بلدان العالم.
وعلى الرغم من التطور الهائل في ميدان الصحة والرعاية والوقاية الطبية، والاكتشافات المذهلة في الأدوية واللقاحات، ووجود منظمة الصحة العالمية التي تعد منبرا جامعا لكل وزارات الصحة في العالم، يستهدف توحيد الجهود واستئصال الأمراض، فإن الأمراض الوبائية ما زالت تشهد انتشارا في هذه الأيام، وتودي بحياة الآلاف كل مدة، وتتسبب في خسائر وأضرار مادية كبيرة.
ولطالما استبشر العالم بالمحاولات المتعددة لاسئتصال مثل هذه الأمراض. ولقد تحقق للمرة الأولى الاستئصال المستمر لعامل الأمراض المعدية، الذي كان البشر مضيفه الأوحد في عام 1980، عندما أعلنت مجموعة الصحة العالمية (World Health Assembly) أن العالم أصبح خالياً من مرض الجدري، وذلك بعد انتهاء الحملة ضده التي بدأت في 1959 ودامت نحو 20 عاماً. لقد أدى النجاح في استئصال الجدري (Smallpox) في جميع أنحاء العالم إلى تزايد الاختبار المكثف للمفاهيم والتعاريف المتعلقة باستئصال الأمراض، وتطوير معايير عامة وخاصة كبشائر للنجاح بالنسبة إلى أمراض معينة جرت تسميتها.
تكاتف دولي
ويتطرق كتاب (استئصال الأمراض في القرن الواحد والعشرين) الذي ألفه كل من ستيفن كوشي و والتر دودل، وترجمه محمد فاضل طباخ، وصدر عن (مؤسسة الكويت للتقدم العلمي) و(المنظمة العربية للترجمة) إلى المبادرات الصحية التي استهدفت استئصال الأمراض، وتكاتف المنظومات الصحية المحلية والعالمية في رفع المعاناة عن البشر في كل أنحاء العالم بمكافحتها سائر الأمراض التي قد تصيب البشر.
ويرى مترجم الكتاب أن مادته هي أحد المظاهر الإيجابية لتكاتف المجتمع الدولي، والتعاون المثمر بين شعوب هذا العالم، ليس فقط لجيلنا المعاصر، بل للبشرية جمعاء وعلى مدار تعاقب الأجيال في المستقبل. فمنذ تنبه البشر إلى وجودهم جميعاً، وعلى اختلاف أجناسهم وأعراقهم وأديانهم وتقاليدهم على ظهر هذا الكوكب، وخضوعهم لبيئة وظروف متماثلة، أخذت مبادرات التعاون والمشاركة تظهر وتتوسع باستمرار. وكان على رأس أولويات هذا التعاون العناية بصحة الإنسان وتجنيبه المعاناة والعجز وحتى المآسي التي تسببها له الأمراض، فأنشئت المؤسسات الصحية العالمية، مثل منظمة الصحة العالمية، التي تأخذ بالنظرة العالمية الشاملة إلى موضوع الصحة. ومن الواضح أن أقطار العالم وأقاليمه يختلف بعضها عن بعض من حيث التطور التقني والاقتصادي والاجتماعي. وهذا يملي على الأقطار المتطورة واجباً أخلاقياً وإنسانياً لمساعدة الأقاليم والأقطار الآخذة بالتطور في مجال مكافحة الأمراض والحد من انتشارها.
مبادرات عالمية
ويقول مؤلفا الكتاب في مقال افتتحا به فصول الكتاب إنه مضى أكثر من عقد من الزمن منذ أن توجه الإنسان إلى المعالجة المنتظمة للمفاهيم والموضوعات الأساسية لاستئصال الأمراض، فاكتُسبت خلال هذه الفترة خبرات وفيرة من خلال المبادرات لاستئصال مرض شلل الأطفال (Polio) والتنينات (Dracunculiasis) والدودة الغينية (Guinea Worm)، وفي الجهود التي بذلت للتخلص من أمراض مثل الحصبة (Measles) وكزاز الأم والوليد (Maternal and Neonatal Tetanus)، كما استمرت مفاهيم استئصال الأمراض في الظهور، يدفعها إلى ذلك الإنجازات العلمية، والخبرات الميدانية، والنواحي الاجتماعية والأخلاقية والأحوال الاقتصادية.
ولقد طالب المجلس التنفيذي لجمعية الصحة العالمية في اجتماع عقده في مايو 2008 بأن تختبر منظمة الصحة العالمية إمكانية استئصال الحصبة في العالم، وأن تقدم تقريرها إلى المجلس في عام 2010، وكذلك دعت كل من منظمة الصحة العالمية ومؤسسة بيل ومليندا غيتس إلى تطوير برنامج عمل لإنجاز استئصال الملاريا في المدى الأبعد (30 سنة). فهذه الأمثلة تبين بوضوح الإعجاب المستمر بفكرة الاستئصال. وعلى كل حال فهي تبين أيضاً الحاجة الدائمة للتأكد من أن مثل هذه المبادرات يجري دراستها بعناية، استناداً إلى الاستيعاب الكامل للتعقيدات البيولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتعلق ببرنامج الاستئصال الناجح. ومع الاهتمام المتزايد بتحديد أمراض يقترح استئصالها، فإن هذه التعقيدات يجدر مواجهتها، وذلك لصالح أصحاب القرار بشأن الصحة العامة، والسياسيين والعلماء والعالم أجمع. إضافة إلى أن التراكم المتسارع للمعرفة منذ تسعينيات القرن العشرين والتحولات الجذرية في المشهد العالمي تستدعي إعادة تقييم منهجي متعمق، وإعادة اختبار استئصال الأمراض في نطاق الصحة العالمية في القرن الواحد والعشرين.
منتدى إرنست سترونغمان
ويضيف المؤلفان إن الاجتماع المركزي لمنتدى (إرنست سترونغمان) حول استئصال الأمراض في نطاق الصحة العالمية في القرن الواحد والعشرين الذي عقد في فرانكفورت بألمانيا، في عام 2010، ضم مجموعة متنوعة من الخبراء والأكاديميين والمسؤولين الحكوميين ومراكز بحوث، ومنظمات دولية وأطراف متعددة، ومنظمات تنمية ومؤسسات غير حكومية، وأرباب الصناعة الصيدلانية، والقطاع الخاص. وقد استدعي المشاركون من بلدان العالم أجمع، ومن مختلف الاختصاصات العلمية التي تمس الصحة العالمية، بما فيها الأمراض المعدية وعلم الأوبئة والصحة العامة والطب الوقائي، وعلم الاقتصاد والسياسة في شؤون الصحة والإدارة والبحوث في الأنظمة الصحية وأخلاقيات العناية الطبية.
وكان المشاركون يدركون جيداً أنهم يتابعون القيام بأعباء تراث من سبقوهم الذين درسوا وناقشوا مفاهيم استئصال الأمراض وتعاطوا مع تعقيداتها. وكما كتب توماس جفرسون في أوائل القرن التاسع عشر إلى إدوارد جينر، الذي ابتكر أول لقاح ضد الجدري: إن لقاحك هو نتيجة التفكير الطويل الذي قدم الراحة للبشر الذين لن ينسوا أنك وجدت في حياتهم. وستعرف أمم العالم في المستقبل من قراءة التاريخ فقط أن الجدري الكريه قد وجد أيضاً».
وتحددت أهداف (منتدى سترونغمان) بما يأتي:
> تقييم مدى انطباق استئصال الأمراض وإزالتها في الحاضر والمستقبل القريب كعناصر في مشهد الصحة العالمي.
> استكشاف المجالات والإمكانات والتحديات في مبادرات استئصال الأمراض وإزالتها.
> تطوير إطار لمنهج يضع أفضليات، ويمكّن من تحديد الأهداف الأكثر تلاؤماً من أجل استئصال الأمراض والعوامل الحاسمة في نجاحه.
استيعاب الدروس وتعميق الخبرة
ويتكون الكتاب من 19 فصلا كتب كلا منها باحث أو أكثر من المتخصصين. وكان أولها استئصال الأمراض المعدية من حيث استيعاب الدروس وتعميق الخبرة، فيما تطرق الفصل الثاني إلى الدروس المستفادة من المراحل المتأخرة من مبادرة استئصال شلل الأطفال في العالم، والفصل الثالث إلى موضوع استئصال الحصبة والحصبة الألمانية الحمراء في الأمريكتين.
وناقش الفصل الرابع موضوع (داء كلابية الذئب: من السيطرة عليه إلى إمكانية استئصاله)، والخامس (العوامل السياسية والاجتماعية لاستئصال الأمراض)، والسادس ( دور البحث العلمي في استئصال الأمراض)، والسابع تقريرا عن تقدير إمكانية نجاح مبادرة الاستئصال، والثامن موضوع (الواقع الأخلاقي للاستئصال)، والتاسع (التقييم الاقتصادي لمنافع ونفقات مبادرات إزالة الأمراض واستئصالها)، والعاشر تقريرا عن تطوير حالة استثمار في الاستئصال كوسيلة لدعم عملية لدعم اتخاذ القرار المتعلق بعملية إطلاق مبادرة الاستئصال.
وتطرق الفصل الحادي عشر إلى موضوع الخطوط الإرشادية لإعداد حالة استثمار للاستئصال، والثاني عشر إلى موضوع (نماذج إدارية لمبادرات الاستئصال)، والثالث عشر إلى موضوع إدارة شراكات الأمراض الاستوائية المهملة، والرابع عشر إلى تقرير عن عناصر الإدارة الجيدة في مبادرات استئصال الأمراض، في حين بحث الفصل الخامس عشر في موضوع تضافر مبادرات الاستئصال مع النظم الصحية، وأجاب الفصل السادس عشر عن سؤال مفاده : كيف يمكن لمبادرة الإزالة والاستئصال أن تساهم بصورة مثالية في تقوية النظم الصحية؟
وناقش الفصل السابع عشر موضوع تأثيرات نشاطات إزالة الحصبة على خدمات المناعة والنظم الصحية في ست دول هي بنغلاديش والبرازيل والكاميرون وإثيوبيا وطاجكستان وفيتنام، في حين تطرق الفصل الثامن عشر إلى موضوع استئصال الأمراض كمنطلق لاتصالات صحة عامة أوسع، والفصل التاسع عشر إلى تقرير عن تصميم مبادرات الإزالة أو الاستئصال ذات الموقع الفعّال مع النظم الصحية.