زهير محمود حموي
عرف العرب بعضا من علوم الطّبّ، وكان فيهم أطبّاء معروفون، كالحارث بن كلدة، الذي اشتهر بلقب «طبيب العرب». إلا أنه يمكن القول: إن عناية العرب والمسلمين بالعلوم الطبية بدأت مع دعوة الدين الحنيف لحفظ الكليات الخمس، ومنها حق الحياة. وقد تمثلت هذه العناية بالعديد من الأحكام والجهود، من ذلك الترجمة والاقتباس عن الأمم السابقة، من اليونان والفرس والهنود، فاستقدموا الكثير من أطباء تلك الأمم ليطببوا الخلفاء، ونقلوا لهم الكتب، فساهم مجموع ذلك في تطور العلوم الطبية.
ومن أبرز تلك الجهود ما قام به الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية، الملقَّب بحكيم آل مروان (ت: 82 أو 90 هـ)، إذ كان أول من ترجم كتب اليونان إلى اللغة العربية.
وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز نُشر أول كتاب في الطب من السريانية إلى العربية، يقال له (كناش أهرن) ترجمه طبيب اسمه ماسرجويه في عهد مروان بن الحكم، ولم تنشر الترجمة إلا في زمن عمر بن عبد العزيز الذي أمر بإخراجها لينتفع الناس بها. ثم جاء الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (ت: 158 هـ) فأمر بترجمة كتب الطب، ولعل السبب المباشر في ذلك حاجته إلى التداوي.
وكان من مظاهر عناية العرب بالعلوم الطبية أن مدارس التعليم الشرعي، التي هي بمنزلة كليات جامعية حاليا، كانت تدرّس مادة الطب إلى جانب العلوم الشرعية والعربية. وقد ذكر المؤرخ ابن كثير أنه في سنة 631 هـ افتتحت المدرسة المستنصرية ببغداد، وعين لها مدرسون، ومُعيدون، وشيخ حديث، وقارئان، وشيخ طبٍّ، وعشرة يشتغلون بعلم الطب.
مظاهر مختلفة
كما كان من مظاهر عناية العرب بالعلوم الطبية أن وقفوا كتب الطب على دُور الكتب العامة والمساجد والمدارس، والبيمارستانات التي كانت مستشفيات وكليات للطب، فوقف مثلاً ـ نور الدين محمود بن زنكي (ت: 569 هـ) عددا كبيرا من الكتب الطبية، وكان جماعة الأطباء يأتون إليه ويجلسون بين يديه، ثم تدور مناقشات طبية بين الجميع.
من مشاهير الأطباء
وفي ضوء عناية واهتمام العرب والمسلمين بالعلوم الطبية اشتهر الكثير من العلماء بتميزهم وتفوقهم في العلوم الطبية، ويكفي أن يطالع المرء مثلاً كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة الخزرجي الدمشقي، أحمد بن القاسم (ت: 668هـ)، الذي رتبه على الأقاليم التي هم منها؛ أي ترتيباً جغرافياً، وذكر فيه معلومات عن مراتب المتميزين من الأطباء المتقدمين والمحدثين، وأودعه نبذاً من أقوالهم وحكاياتهم ونوادرهم، وذكر شيئاً من أسماء كتبهم.
ومن مشاهير الأطباء ابن رشد الأندلسي محمد بن أحمد (ت: 595 هـ) الذي كان فقيهاً مالكياً وطبيباً يُفزع إلى فتاواه في الطب كما يفزع إلى فتاواه في الفقه، وابن سينا الحسين بن عبد الله (ت: 429 هـ) صاحب كتاب القانون.
ويقول د. ج. هرشبورغ: «يعـتبر كتاب القانون في نظرنا عملاً متكاملاً ومميزاً عما سواه، من حيث التنظيم والدقة في الطب، بما يحويه من علم الجراحة، بحيث يمكن القول بأنه لا مثيل له في الوقت الذي لَم تكن لدينا إلا بعض البيانات الطبية والمجموعات المصنفة الإغريقية فقط، على سبيل المقارنة، ويعتبر القانون إنتاجاً ضخماً يحتاج لعمل مثله في يومنا هذا إلى مجلس استشاري طبي متكامل».
ومن الأطباء أيضا ابن الهيثم البصري محمد بن الحسن (ت:430 هـ)، الذي لخص كثيراً من كتب أرسطوطاليس وجالينوس، وكان خبيراً بأصول صناعة الطب وقوانينها وأمورها الكلية، إلا أنه لم يباشر أعمالها، ولَم تكن له دربة بالمداواة.
وهنالك أيضا ابن ربن الطبري صاحب كتاب (فردوس الحكمة)، والرازي صاحب كتاب (الحاوي)، و أبو القاسم الزهراوي صاحب كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف).
شيخ الأطباء
ومن الأطباء المشهورين ابن النفيس الدمشقي، شيخ الأطباء في عصره، الذي حظيت شخصيته باهتمام الباحثين والمؤرخين والأطباء في القديم والحديث، لما له من أثر في العلوم الطبية، إذ كان ابن النفيس يتمتع بذكاء مفرط، وذهن خارق، وكان في العلاج أعظم من ابن سينا، وكان أعجوبة دهره كما وصفه ابن العماد، في حين وصفه فضل الله العمري بأنه «ابن سينا الثاني«.
وابن النفيس هو علاء الدين علي بن أبي الحَزْم القَرْشي، طبيب وفقيه وفيلسوف، ولد في دمشق وتعلم الطب فيها، في البيمارستان النوري الكبير، ثم نزل مصر في شبابه، وعمل طبيبًا خاصًا لحاكم مصر حينذاك الظاهر بيبرس، وهو الذي عينه (رئيساً للأطباء)، فأصبح شيخ الطب في الديار المصرية. وإضافة إلى تفوقه في الطب وعمله فيه، فقد برع في علوم اللغة والمنطق والفلسفة، وقبيل اعتزاله العمل، لتقدمه في السن، أوقف منـزله ومكتبته الخاصة على دار الشفاء (بيمارستان قلاوون)، وترك مجموعة كبيرة من المؤلفات في مجالات الطب والصيدلة والنحو واللغة والمنطق والفلسفة والفقه والحديث.
واللافت أن المؤرخ ابن أبي أصيبعة لم يترجم ابن النفيس في مؤلفه المشهور (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) وهو من معاصريه. ويقال: إن سبب هذا التجاهل هو خلاف حصل بينهما.
مؤلفات ابن النفيس وآراؤه
كان ابن النفيس واثقاً من أهمية مؤلفاته الطبية، حيث قال مشيداً بتصانيفه: “لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها”. فترك ابن النفيس مصنفات عديدة في الطب، اتصف فيها بالجرأة وحرية الرأي.
فمن مؤلفاته المهمة كتاب: (شرح تشريح قانون ابن سينا) الذي درس فيه آراء جالينوس وابن سينا دراسة واعية، فانتقد آراء جالينوس في التشريح، وأظهر أخطاءه فيما يختص بتركيب الرئتين ووظيفتهما، وكذلك وظائف الأوعية الشعرية. و يعود الفضل لابن النفيس في اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، التي تصف مرور الدّم من الشريان الرئوي إلى القلب؛ فهو أول من وصفها، وأول من أشار إلى الحويصلات الرئوية والشرايين التاجية، كما توصل إلى معرفة عدد الأغشية القلبية ووظيفتها واتجاه فتحاتها لمرور الدم، وذلك قبل الطبيب البريطاني وليام هارفي بخمسة قرون.
قال الدكتور أمين أسعد خير الله: «إذا درسنا كتاب شرح تشريح القانون لابن النفيس درساً مدققاً نجد أن المؤلف كان أول من وصف الدورة الدموية الرئوية، وأول من أشار إلى الحويصلات الرئوية والشرايين التاجية».
وقال د. يوسف زيدان: «إن ابن النفيس اكتشف هذه الدورة، متحدياً آراء جالينوس نفسه»، فقد وجدت هذه الدورة في كتابه (شرح تشريح القانون لابن سينا)، كما أثبت أن بعض الأطباء العرب قبلوا هذه الدورة، فوجدتها مذكورة في كتاب (شرح القانون) لسديد الدين محمد بن مسعود الكازروني الذي أتم مؤلفه في سنة 745هـ- 1344م ، ثم بعد ذلك بسنوات قليلة في كتاب (شرح القانون) لعلي بن عبد الله زين العرب المصري الذي أتم كتابه في سنة751هـ – 1350م.
وقد وثق الباحث المصري د. محيي الدين التَّطاوي هذه الحقيقة في أطروحة دكتوراه قدمها في ألمانيا سنة 1924، بعنوان (الدورة الدموية الرئوية وَفقاً للقَرْشي)، أي ابن النفيس.
وابن النفيس هو أول من أشار إلى الاعتدال في تناول الملح، وقدم أدق الأوصاف لأخطار الملح وأثره في ارتفاع ضغط الدم، وأبدع في تشريح الحنجرة وجهاز التنفس والشرايين ووظائفها.
وتعرض ابن النفيس للحديث عن التشريح العام، وهو يشمل تشريح العظام والمفاصل والعضلات والأعصاب والأوردة والشرايين، كما تعرض إلى الحديث عن التشريح الخاص، وقد عنى به تشريح الأعضاء الداخلية في جسم الإنسان، ومنها القلب.
كما كان له اهتمام بطب العيون والعلاج بالغذاء والدواء والعلاج بالجراحة، وله كتاب في طب العيون بعنوان (المهذّب في الكحل)، وفي التغذية (المختار في الأغذية)، وله كتاب (شرح فصول أبقراط) علق فيه على بعض آراء أبقراط وانتقدها، وله أيضا كتاب (بغية الفِطن من علم البدن)، وكتاب (الشامل في الطب) وهو أكبر وأهم كتبه الطبية.
ويقول د. يوسف زيدان منوهاً بأهمية الكتاب الأخير: «هو أكبر موسوعة علمية في التاريخ الإنساني يكتبها شخص واحد، عكف ابن النفيس على تدوين موسوعته سنوات طويلة.. وكان يريد أن يصوغ علوم الطب والصيدلة صياغةً أخيرة، مكتملة، بعد سبعة قرون من تطور العلم العربي في المجالات الطبيعية والصيدلانية، القائمة على دعائم راسخة من التأسيس الفلسفي والتفكير العلمي، والناطقة باللغة العربية، بعد قرون من استقرار العلوم في بنية الثقافة العربية، منذ تسلَّم العربُ المسلمون مشعل الحضارة من اليونان والحضارات الشرقية القديمة».
المنهج والأسلوب
يحتوي كتاب (الشامل في الطب) على ثلاثة فنون:
الفن الأول: في قواعد الجزء النظري من الطب، ويقع في أربعة أجزاء: الجزء الأول في علم الأمور الطبيعية، ويشتمل على مقدمة وسبعة كتب هي: كتاب الأركان، وكتاب الأمزجة، وكتاب الرطوبات، وكتاب الأعضاء، وكتاب الأرواح، وكتاب القوى، وكتاب الأفعال. والجزء الثاني في علم الأمراض. والثالث في علم الأسباب. والرابع في علم الدلائل، ويشتمل على ثلاثة كتب: الأول في الوجع. والثاني في النبض: ماهيته وأجناسه وأسبابه. والأخير في البول.
الفن الثاني: في الجراحة، ويشتمل على (الجراحة) أو عمل اليد، والأصول الكلية، والثاني في الآلات، والثالث في أجناس العمل باليد. ومعظم أجزاء هذا الفن الثاني مفقودة، وإن كانت هناك إشارات في ثنايا الأجزاء الموجودة تفيد بأن ابن النفيس كتبها بالفعل.
الفن الثالث: في الأدوية المفردة (بعضه مفقود)، وفيه يوضح ابن النفيس طريقته في كتابه، بقوله: «وقد رأينا أن نجعل لكل دواء تحققناه مقالة على حدة، وأن نرتب كل مقالة على فصول مشتملة على فنون أحكام ذلك الدواء. فيكون كلامنا في ماهيته وجوهره المختار منه كل ذلك في فصل واحد».
ويشير في فصول مختلفة إلى: أعضاء الصدر، و أعضاء الغذاء، و التعفن، والأحوال التي لا اختصاص لها بعضو، إضافة إلى الأدوية.
ويقول: «جمعنا جميع المقالات التي مبتدأ أسماء أدويتها بحرف معين، كالهمزة مثلاً والباء، في كتاب على حدة، بذلك يكون الكتاب الأول في الأدوية التي أولها حرف الهمزة. والكتاب الثاني في الأدوية التي أول أسمائها حرف الباء، والكتاب الثالث في الأدوية التي أول أسمائها حرف التاء، وعلى هذا الترتيب إلى آخر الحروف. ثم جعلنا لكل كتاب خاتمة نذكر فيها أحكام الأدوية المشهورة التي لم نتحقق معرفتها على الوجه العلمي، من الأدوية التي أول أسمائها الحرف الذي لذلك الكتاب».
في حانوت الطبيب
ويقتبس ابن النفيس بعض المادة من كتاب أبقراط المعروف باسم (في حانوت الطبيب) ثم يوضحها بالشرح الوافي، ويعزو ابن النفيس نجاح العمليات الجراحية إلى العناية التامة بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى ويسميها (وقت الإعطاء)، وفيها يتعرف الجراح إلى موضع العلة، وتسمى بهذا الاسم لأنَّ المريض يعطي الجراح، أي يسلمه بدنه، للتصرف فيه كيف يشاء. وأما المرحلة الثانية: فيسميها (وقت العمل)، وفيها يقوم الجراح بإصلاح ما فسد من أعضاء البدن.
والمرحلة الثالثة (وقت الحفظ)، وتشير إلى الوقت الذي يعقب الجراحة.
ويسجل ابن النفيس في كل من هذه المراحل الثلاث وصفاً دقيقاً لكل من واجبات الجراح والمريض والممرضين. كما يسجل طرق استخدام وحفظ الآلات الجراحية وغيرها مما تستلزمه الجراحة والعلاج. وقد قام د. يوسف زيدان بتحقيق هذه الموسوعة الضخمة ونشرها في ثلاثين مجلداً ضمن إصدارات المجمع الثقافي في أبي ظبي. >