د. محمد ظافر الوفائي
د. محمد حسان الطيان
يشكل الطبيب العربي ابن النفيس الدمشقي حلقة مهمة في سلسلة ذهبية كانت لها إسهامات جليلة في علم الطب على مدار القرون الماضية، واكتشافات مهمة غيرت مجرى المفاهيم السائدة عن عدد من المسلمات، وإبداعات في أدوات الجراحة وأساليبها، وطرق الوصف والتشخيص، واستعمال الأدوية.
وإذا كان علم الطب هو الميدان الذي برع فيه ابن النفيس واشتهر، فإنه كان عالما موسوعيا في الوقت نفسه، فقد درس في صباه العلوم السائدة في عصره من تفسير ولغو، وفقه، وسيرة.. وغيرها، وبرع فيها. وله في بعضها عدد من المصنفات. لكنه تفرغ بعد ذلك لدراسة الطب في البيمارستان النوري بدمشق – وهو واحد من كبار المعاهد الطبية في الحضارة العربية الإسلامية – وبلغ شغفه بالتعلم والتعليم درجة جعلته يعزف عن الزواج ليتفرغ للتأليف والتدريس.
مكتشف الدورة الدموية
لم يعرف عن ابن النفيس أنه كان كحَّالاً، ولم يدَّع هو ذلك قطُّ، ولم يُذكر أنه مارس طب العيون أو جراحتها، بل اقتصرت شهرته على أنه كان طبيبا مولعاً بالتشريح والتشريح المقارن. وقد ذاع صيته كثيرا عندما عُرِفَ أنه سبق الإنكليزي وليام هارفي إلى اكتشاف الدورة الدموية الصغرى (دوران الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين ثم إلى البطين الأيسر)، وذلك بعد أن قدم الدكتور المصري محي الدين التطاوي (1896-1947) أطروحته لنيل الدكتوراه في الطب في جامعة برلين بعنوان ( الدورة الدموية تبعاً للقَرَشي) التي اعتمد فيها على مخطوطة عثر عليها في مكتبة الجامعة بعنوان: (شرح تشريح القانون) لعلاء الدين علي بن أبي الحزم القَرَشي (المعروف بان النفيس). وكان أبرز ما فيها رفض النظرية التي كانت سائدة منذ أبقراط وجالينوس وابن سينا والرازي، وهي التي تقول «بوجود فتحات غير مرئية بين البطينين يمر عبرها الدم الفاسد إلى البطين الأيسر حيث تتم تصفيته ثم يتفرع في كافة أنحاء الجسم عبر العروق الضوارب، أي الشرايين». إذ إنه أنكر هذا الكلام وردَّ تلك النظرية ردًّا قاطعا بقوله: «وهذا كلام لا يصحُّ، فإن القلب له بطينان فقط، أحدهما مملوء من الروح وهو الأيسر، ولا منفذ بين البطينين البتة، وإلا كان الدم ينفذ إلى موضع الروح فيفسد جوهرها، والتشريح يكذب ما قالوه».
وللتأكد من صحة نسبة هذا القول لابن النفيس، فقد راجع المخطوطة المستشرق والطبيب الكحال المقيم في القاهرة الدكتور ماكس مايرهوف الذي أثبت بدوره وبخبرته صحة ما قاله ابن النفيس، ثم قام بدوره بإبلاغ الدكتور جورج سارتون رئيس قسم تاريخ العلوم في جامعة هارفارد بهذا الاكتشاف العظيم، فأثبته في موسوعته الشهيرة (المدخل إلى تاريخ العلوم).
ولم يكن هذا هو الاكتشاف الوحيد لابن النفيس، بل إنه نقض في الكتاب ذاته ما كان سائدا قبله من أن (عضلة القلب تتغذى من الدم الموجود في البطين الأيمن) فقال: «ولا يصح البتة، فإن غذاء القلب إنما هو من الدم المار في العروق المارة في جرمه». والحق أن هذا الاكتشاف لا يقل أهميةً عن اكتشاف الدورة الدموية الرئوية.
نبوغ في طب العيون
يظهر نبوغ ابن النفيس في طب العيون وجراحتها في كتابه (المهذب في الكحل المجرب) الذي جمع فيه معظم آراء سابقيه في مجال (الكحالة)، أي طب العيون وجراحتها، وصنفها، وبوَّبها على نحو علمي يفوق ما وجد في مؤلفاتهم، على الرغم من أنه لم يذكر أياً منهم ولم يُــحــِل إليه، ولم يذكر أي مرجع اقتبس منه أيَّ معلومة!.
ويتضمن هذا الكتاب الموسوعي إضافاتٍ رائدةً أصيلةً لم يُسبَق إليها ابنُ النفيس – سواء كانت في التشخيص أو المعالجة- نسوق فيما يأتي أمثلة منها على سبيل الذكر لا الحصر.
فقد حذر من تخريش الأنسجة السرطانية خشية تهييجها وحدوث انتقالات موضعية أو بعيدة، وأشار إلى تعثر المريض في مشيته إذا كان مصابا بارتفاع إحدى العينين، وذكر أن الحول الخلقي لا شفاء له إلا إذا عولج في فترة الطفولة المبكرة، وقال إنه إذا أصاب الرأسَ ضربةٌ شديدة فجحظت العين على أثرها ثم غارت (كأنه يصف ما يحدث في حالة انقطاع العصب البصري الرضِّيِّ المنشأ Retro Bulbar Hematoma) خلف المقلة ينجم عنه من ورم دموي، وبعد أن يُــرتَشَف الدمُ تغور المقلة لفقدان التروية الدموية.
وفي ذلك الكتاب يصف ابن النفيس لأول مرة حادثة انطباع الصورة في مخيلة الناظر إليها إثر تحديق فيها، ويذكر نصائح لمعالجة الغطش (كسل العين) بتغطية العين السليمة، ويؤكد فيه أن: “العين آلةٌ للإبصار وليست مبصرةً بذاتها، وإنما تتم منفعة هذه الآلة بروحٍ مُــدرِكٍ يأتي من الدماغ”.
علاج الساد
أسهم ابن النفيس إسهامات رائدة في وصف وعلاج الساد، أي الماء النازل في العين (وهو المعروف عند العامة بالماء الأبيض أوالأزرق)، فقد أشار في كتابه إلى تبديل شكل الـمِـقْـدَح المجوَّف Hollow couching needle، إذ جعله رقيقاً كالسيف بدلا من المثلث، وذلك ليسهل دخوله في المقلة أثناء القدح. وكان أول من شرح فكرة البعد الثالث أي عمق الأجسام المرئية أمام الناظر، ووصف بدقة متناهية التشخيص التفريقي بين تمزُّقِ القَــرْنــيَّــة والسَّحْجَة القَــرْنــيَّــة، وكان أول من عزا الكِــمْــنَــة Hypopion (وهي القيح في البيت الأمامي) إلى التهاب القُزَحية والجسم الـهدبي، ونصح بمصِّها من البيت الأمامي باستعمال المقدح المجوَّف.
ولعله أول من ذكر أن الساد يقع خلف القزحية وليس أمامها، وهو أمر تأخر اكتشافه إلى القرن الثامن عشر. وكان أول من ذكر ونصح بمصِّ الرطوبة البيضيَّــة (الخلط المائي) بواسطة الــمِـهَـتِّ المجوَّف لردِّ تفتُّــق القزحية، وأول من وصف تفاوت التشبُّــح…. Anisokonia (وهو رؤية الأشياء أصغر مما هي عليه في المرضى المتسعة حدقاتهم)، ووصف توسع الحدقة وعدم تفاعلها للنور في حالات هجمة الزَّرَق الحادة، ووصف تسطح القرنية الناجم عن نقص الضغط داخل العين الذي قد يشاهد في حالات التجفف الشديد (الحاد أو المزمن) كما في حالات الإسهالات المديدة أو الإقياء المزمنة أو السبات السكري.
ونصح ابن النفيس بمعالجة هجمة الزرق الحادة بالاستفراغ، ويعدُّ بذلك رائداً في هذا الأسلوب بالمعالجة قبل استعمال الأدوية الحديثة لطرح كمية كبيرة من السوائل لتخفيض ضغط العين. وكان أول من وصف الساد الجزئي (أي تكثف جزء من العدسة) كما في حالة الساد الرضي البسيط، كما وصف انخلاع العدسة الجزئي وما ينجم عنه من ازدواج الرؤية في عين واحدة. كما كان أول من وصف حسر البصر الناجم عن الساد غير الناضج. وأصر على ضرورة رؤية العين – الــمُقرر إجراء عملية القدح فيها – للشمس أو السراج قبل القدح. وأكد ضرورة ارتكاس حدقة العين الثانية للمريض للتفريق بين فقد البصر عن آفة في العصب البصري قبل التقاطع الصليبي أو بعده.
وكان ابن النفيس أول من نصح باستعمال الريشة كدليل قبل إدخال المقدح إلى العين وذلك تحاشيا لإدخال الأدوات الجراحية مراراً إلى العين واحتمال حدوث تلوث جرثومي. ووصف لأول مرة طريقة استخراج الساد بالضغط والشطف، وحذر من ضياع السائل المائي كاملا مما قد يؤدي إلى انخساف العين ومن ثم ضمورها، وكان أول من وصف وذمة القرنية وكثافتها الناجمة عن رضِّ الطبقة البطانية للقرنية أثناء عملية القدح. وحذر من انخفاض ضغط العين المزمن الناجم عن عدم التئام الجرح مما قد يؤدي إلى ضمور العين، كما حذر من إجراء عملية الساد في العينين بآنٍ واحد خشية التلوث الجرثومي.
وعلى الرغم من أهمية الكتاب، لكننا لمسنا بعض المآخذ عليه. ولعل أهمها خلوّه من أي رسومٍ توضيحية تشريحية كانت أو أدوات جراحية أو هندسية لشرح آلية الإبصار، اللهم إلا من رسمٍ هندسي صغير واحد حاول فيه شرح تأثير بعد الجسم المرئي على حجم الشبح الذي يقع على العين.
لعل أهم ما يميز أسلوب ابن النفيس في المعالجة عمومًا وفي الكحالة خصوصًا أنه لا يصف دواءً ما أمكنه وصف غذاء، ولا يصف دواءً مركباً ما أمكنه الاستغناء عنه بدواء مفرد. وهي قضية ذات أهمية ولها صداها في عالم الطب حاليا.