وليد الفاضل
الشعاب المرجانية كانت وستظل مهداً للتنوع البيولوجي على الكوكب الأزرق. ويمثل التنوع البيولوجي في الشعاب المرجانية في حقب الحياة القديمة الممتدة ملايين السنين ذروة احتضان المرجان للحياة. ويُعتقد أن الشعاب المرجانية في تلك الحقب ساهمت في نشر بذور الحياة إلى البيئات الأخرى مع أنواع جديدة. ويقدر العلماء اليوم أن التنوع البيولوجي للحياة على الشعاب المرجانية ربما يكون أكبر من ذلك المرصود في الغابات المطيرة. فالشعاب المرجانية هي موطن %25 من جميع أشكال الحياة البحرية على هذا الكوكب. وهذا التنوع البيولوجي يترجم مباشرة في الأمن الغذائي؛ إذ تحتضن الشعاب المرجانية نحو ربع أنواع الأسماك في البحار والمحيطات، بما في ذلك الأنواع ذات الأهمية التجارية التي يمكن في نهاية المطاف أن تنتهي على موائدنا.
وعلى الرغم من أن المرجان استمر في البقاء ملايين السنين، فإن الكثير من أنواعه ربما لا تكون قادرة على البقاء على قيد الحياة بفعل الدمار الذي يحدثه البشر. فهذه الكائنات الجميلة قد تختفي، بصورة أسرع مما يتصوره البشر. ومن المتوقع أن نرى انخفاضاً في معدلات نمو المرجان وموته تدريجياً في غضون 50 إلى 100 عام؛ إذ يتعرض نحو ربع الشعاب المرجانية في جميع أنحاء العالم لأضرار لا يمكن إصلاحها بفعل تهديدات رئيسية ناجمة عن النشاطات البشرية بصورة مباشرة.
فهناك مثلاً التلوث بالنفايات الحضرية والصناعية والصرف الصحي والمواد الكيميائية، والتلوث النفطي، وهناك أيضا ممارسات الصيد المدمرة كالصيد بشباك الجر القاعي أو بالشباك الجرافة، وكذلك إهمال القوارب وسقوط المراسي على الشعاب، وعدم اتباع الإجراءات السليمة عند الغوص حينما يقوم الناس بلمس الشعاب، وإثارة الرواسب.
ومع خفوت الضوء الواصل للمرجان، بفعل كل العوامل المعكرة لدرجة صفاء الماء، لا يتمكن المرجان من إنتاج غذائه بطريقة البناء (التركيب) الضوئي، وتتدهور صحته سريعاً، ويبدأ في الاندثار.
ومضة وطنية
نشط فريق الغوص الكويتي منذ ما يزيد على عقدين في ملاحظة واقع حالة الشعاب المرجانية المنتشرة في جنوب الكويت، وتابع تأثير كثافة المرتادين فيها، إضافة إلى إهمال وتجاوز بعض صيادي الأسماك للقوانين والنظم. وتمكن الفريق من رصد الحجم الهائل من المخلفات على قيعان الشعاب المرجانية ومحيطها، وما تسببه من ضرر دائم على تلك الشعاب المرجانية، ومن عوائق خطيرة على مرتادي هذه المواقع.
ونظراً للحاجة الماسة إلى بذل كل الجهود اللازمة لرفع الضرر المستمر عن الشعاب المرجانية، وتهيئة البيئة المناسبة لنموها وتكاثر الكائنات البحرية الملازمة لها وإزالة العوائق الموجودة عليها، انطلق فريق الغوص الكويتي في (المشروع الوطني للمحافظة على البيئة البحرية)، بخطوات ثابتة وبرؤية مباشرة تحاكي الواقع وتستشرف المستقبل، ضمن شراكة مجتمعية رائدة، وبقالب تطوعي.
وسعى فريق الغوص الكويتي لتسخير هوايته للغوص وحبه للبيئة البحرية، وبدأ بحملة تطوعية كبرى على أيدي الشباب الكويتي لرفع هذه الأضرار بطريقة علمية ومتطورة من خلال إنجازه مشروعات بيئية جادة. وإضافة إلى برنامج توثيق البيئة البحرية الكويتية، وبرنامج التواصل العالمي، والبرنامج التوعوي البيئي، يطبق الفريق عدة برامج لرصد حالة المرجان وإعادة تأهيل موائله.
برنامج تثبيت المرابط البحرية
أطلق فريق الغوص الكويتي برنامجاً متميزاً للحد من التدهور البيئي الحاصل في الشعاب المرجانية سماه (برنامج تثبيت وصيانة المرابط البحرية في أماكن الشعاب المرجانية). وتعتبر المرابط البحرية وسيلة صديقة للبيئة تسهل عملية رسو القوارب واليخوت بطريقة آمنة، وتحافظ على الثروة الوطنية من الحياة الفطرية المائية، وتوافر متطلبات أصحاب القوارب من الرسو الآمن في الأمكنة المناسبة، والثبات في الموقع للقوارب في حالات الأمواج العالية، إذا ما ربطت بها؛ نظرا لمواصفاتها من حيث متانة وميكانيكية امتصاص ارتفاع وهبوط الموج، وتقليل شدة حركة القوارب.
ويرمي البرنامج إلى وقاية الشعاب المرجانية ومنع تدمير قيعان وشعاب مواقع الرسو، وذلك من خلال تثبيت الأوتاد في الأمكنة المحيطة بالشعاب المرجانية حول الجزر والسواحل الكويتية، وتركيب عوامات (بويات) عائمة تربط بها القوارب واليخوت، ويستعاض بها بدلاً من رمي المخاطيف (الباورة والسن)، وذلك حفاظاً على سلامة الشعاب المرجانية المحيطة بهذه الجزر وغيرها، وعدم التعرض لها من قبل مرتاديها من الكسر والدمار الذي يلحق بها وكائناتها من الأذى بسبب المخاطيف.
وقام الفريق – حتى الآن – بتبديل وصيانة 76 مربطاً بحرياً وعوامة موزعة على المواقع المرجانية المشهورة؛ مثل الجزر الجنوبية والقطع البحرية. ويعتمد عدد المرابط في الموقع على درجة كثافة ارتياده. ويقوم الفريق سنوياً بدراسة المواقع لمعرفة حاجتها إلى زيادة أو تقليل عدد المرابط.
استزراع الشعاب
يقوم (برنامج زراعة المرجان) بتثبيت الشعاب المرجانية المكسورة أو أخذ شتلات من المرجان الأم، وتثبيتها بوسائل وطرائق علمية صحيحة في مواقع أخرى مناسبة وملائمة لطبيعة كل نوع من أنواع المرجان، مع توفير وتهيئة المواقع الملائمة لتثبيتها، ومن ثم دراسة النتائج المترتبة على ذلك وأطوار النمو.
ويهدف البرنامج إلى المحافظة على الأنواع النادرة من المرجان، وإنشاء وتكوين مخازن طبيعية لأنواع المرجان بعيدة نسبياً عن المواقع المعروفة. كما يقوم بتوفير مقومات البنى التحتية للشعاب المرجانية، وتوسيع رقعة ومساحات نمو الشعاب المرجانية، من خلال توفير ظروف مناسبة لبعض أنواع المرجان التي تفتقر إلى بيئتنا أو التي تم تدميرها. وعند ازدهار هذه الشعاب فإنه ستساهم في زيادة الثروة السمكية والتنوع الإحيائي.
وكان الفريق قد بدأ بعملية زراعة المرجان عام 1999 في جزيرة أم المرادم في أثناء رفع المخلفات من شعابها المرجانية، وبإشراف وتوجيه من الدكتور شاكر الهزيم المتخصص في المرجان. واستمر الفريق بعدها في عمليات زراعة المرجان، إلا أنها كانت تنحصر في نقل المستعمرات المرجانية من المواقع التي قد تتضرر فيها لوجود مخلفات ضارة، أو نقل المستعمرات المكسورة – نتيجة ما تسببه شباك الصيد أو أدوات رسو القوارب – إلى مواقع آمنة وصالحة لنموها.
الوضع الحالي
إن رصد الشعاب المرجانية على الأمد الطويل أمر ضروري لمعرفة الضغوط المتزايدة على هذه النظم الإيكولوجية الفريدة والهشة. وقد أطلق فريق الغوص الكويتي عدة برامج لرصد حالة الشعاب المرجانية، بما في ذلك مجموعة أعمال تتمثل في نقل واقع البيئة البحرية بما تضمه من شعاب مرجانية وأحياء مائية.
وينجز الفريق عدداً كبيراً من «الطلعات الجوية» باستخدام الطيران العمودي لتوثيق مواقع الشعاب المرجانية والقوارب والقطع البحرية الغارقة. وشمل المسح الذي أجراه الفريق أمكنة رئيسية للشعاب المرجانية بطول 50 كيلومتراً بحرية و بامتداد 70 كيلومتراً من الحدود الجنوبية لساحل الكويت، ومن أعماق تراوح بين متر و13 متراً، بدءاً من جزيرة أم المرادم، ثم الخيران ورأس الزور وجزيرة قاروه وأم ديره وتيلر وجزيرة كبر وانتهاء بعريفجان.
ومن أهم أعمال الفريق (برنامج رصد حالة الشعاب المرجانية)، الذي يتمثل في زيارات دورية لمواقع الشعاب المرجانية ورصد حالة الشعاب بشكل علمي، ورفع التقارير المستخلصة من هذه المراقبة للجهات الدولية المعنية. ويستهدف البرنامج أن يكون إنذاراً مبكراً لأي عارض يطرأ على البيئة البحرية، ويساهم في نشر الوعي اللازم بـأهمية المحافظة على الشعاب المرجانية ودورها في عالم الحياة البحرية، ويساهم في مساعدة الخبراء والباحثين على معرفة أحوال الشعاب المرجانية.
ابيضاض شعاب أم المرادم
إن من أكبر الأخطار التي تهدد الشعاب المرجانية تغير المناخ. فالشعاب المرجانية لا يمكنها البقاء على قيد الحياة إذا كانت درجة حرارة الماء عالية جداً. وقد أدى الاحترار العالمي إلى زيادة مستويات ابيضاض المرجان، ويتوقع ازدياد ذلك في العقود المقبلة. وقد تكون مثل هذه الأحداث المسمار الأخير في نعش الشعاب المرجانية.
وتنتج ظاهرة ابيضاض المرجان من مغادرة أو انفصال الطحالب المتلازمة مع المرجان والتي تعطي الشعاب المرجانية ألوانها المميزة، والتي تساعدها أيضاً على التغذية من خلال عملية البناء الضوئي. وعند انفصال الطحالب عن أنسجة المرجان تبدأ الشعاب بفقدان لونها، ومن ثم تضعف وتموت في نهاية الأمر.
ومن الأسباب الرئيسية لظاهرة الابيضاض تدهور البيئة المحيطة بالشعاب المرجانية بفعل اختلاف درجات الحرارة بشكل كبير، أو التغيرات الحاصلة في دورة البحار والمحيطات، أو زيادة الأشعة فوق البنفسجية نتيجة لترقق طبقة الأوزون الواقية، أو بسبب التلوث البحري مثل الصرف الصحي أو النفطي في بعض الحالات. ويمتص ابيضاض المرجان الحياة من الشعاب المرجانية، فيسلبها لونها النابض بالحياة، وغالبا ما يجعلها عديمة الفائدة في النظام الإيكولوجي البحري.
وفي الكويت، كان لفريق الغوص دور حيوي في رصد ظاهرة ابيضاض واسعة لشعاب المرجان في جزيرة (أم المرادم) الواقعة في أقصى جنوب بحر الكويت، والبعيدة عن منطقة (الخيران) بنحو 23 كيلومتراً. فقد لاحظ الفريق أثناء التفقد الدوري لمواقع الشعاب المرجانية ظاهرة ابيضاض طالت أكثر من %95 من طوق الشعاب المحيط بالجزيرة، وتعد إصابة الشعاب بهذه الكثافة الأولى من نوعها، وشملت جميع الاتجاهات التي تحيط بالجزيرة، حتى وصلت إلى الشعاب الواقعة على عمق 10 أمتار.
ورصد الفريق أيضاً وجود أعداد من الأسماك النافقة طافية على سطح الماء أو مستقرة على الشعاب المرجانية، وتم تسجيل درجة حرارة عالية للماء بلغت 34 درجة مئوية على عمق خمسة أمتار.
محميات الحياة
يتابع الفريق بصورة مستمرة جهود إقامة المستعمرات الصنعية لنمو الشعاب المرجانية. فقد أطلق عام 1995 مبادرة محميات جابر الكويت البحرية، و بلغ عددها حتى الآن 25 محمية. كما قام الفريق بتوسيع المشروع من خلال مبادرة بيئية لتعويض الدمار في الشعاب المرجانية لإعادة تأهيل مواقع الشعاب المرجانية وزراعة المرجان فيها، إضافة إلى بناء ونشر محميات الشبكة العنكبوتية بالتنسيق مع خبراء فرنسيين. ويرصد الفريق التطور البيولوجي للحياة البحرية في هذه المحميات من مرجان وأسماك وكائنات بحرية أخرى.
إضافة إلى كل ذلك، يستثمر الفريق مهارات الأعضاء المتميزين والمبدعين في مجال التصوير التلفازي والفوتوغرافي فوق الماء وتحته. فقــــد أنجز الفريق أكثر من 20 فيلماً وثائقـياً تحكي الإنجازات والمشروعات والأعمال التي نفذت، وقد عرضت هذه الأفلام في العديد من وسائل الإعلام المحلية والعالمية.
كما أعد الفريق ما يزيد على 500 مقطع عرضت على اليــــوتيوب. وكل هذه الجهود التطوعية تساهم في تعزيز الوعي البيئي وتنمية روح العمــــل التطوعي محلياً وعالمياً، وتؤدي دوراً حيــــوياً في إنقاذ وحماية البيئة البحرية وإعادة تأهيلها.