يعمل الدكتور طلال العازمي، الأستاذ المساعد في قسم الكيمياء بجامعة الكويت، على بناء مجموعة أدوات كيميائية ربما تستخدم قريبا للتعرف على الجزيئات الصغيرة والتقاطها، سواء كانت ملوثات في الماء أم معادن في الدم.
وأوضح العازمي، الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة جنوب فلوريدا University of South Florida، أن لأبحاثه تطبيقات في صناعة النفط، فقد طور طريقة تساعد على تنقية مياه البحر المستخدمة في آبار النفط، بالتقاط أيونات الكبريتات Sulfate ions التي قد تعيق عملية الاستخراج.
يعمل اختصاصي الكيمياء التركيبية على إنشاء بنية تحتية جزيئية تجعل من الممكن إنشاء هذه المُستقبِلات وتخصيصها. وقال العازمي: “إذا استطعنا صنع مُستقبِلات ترتبط على وجه التحديد بهدف محدد أو أيون معين، فسيكون لها تطبيقات محتملة في الطب والصناعة والعلوم البيئية”.
يعتمد العازمي على نهج يُعرف باسم كيمياء المضيف-الضيف Host-guest chemistry. يتضمن ذلك جُزيئاً مؤلفاً من مضيف وضيف يشكلان بنية ’فوق جزيئية Supramolecular ‘ تُجمع معاً بواسطة روابط غير تساهمية Non-covalent bonds. على عكس الروابط التساهمية، لا تشترك الروابط غير التساهمية في زوج من الإلكترونات، الأمر الذي يجعل عملية تكوينها وكسرها أسهل، ومن ثم يمكن للمُستقبِل أن يرتبط بهدفه بطريقة تمكننا من عكس العملية فيما بعد.
تساعد الروابط غير التساهمية على تكوين بنى الجزيئات البيولوجية الكبيرة – وكذلك على الحفاظ عليها- مثل البروتينات، وهي ضرورية لها في تفاعلها مع الجزيئات الأخرى. وقال العازمي: “تصنع الطبيعة هذه الهياكل والوظائف الرائعة باستخدام التفاعلات غير التساهمية. وهذا ما نحاول تكراره”.
تنسيق التفاعلات الجزيئية
إن العمود الفقري لعمل العازمي هو مجموعة من الجزيئات تُعرف باسم البيلاريرين Pillararenes. والبيلاريرين هو جزيئات حلقية كبيرة Macrocyclic molecules، تتكون من وحدات فرعية متكررة يرتبط بعضها ببعض لتشكيل حلقة. قد تحتوي المساحة المفتوحة في منتصف الحلقة أو التجويف على جزيء ثانٍ في مجمَّع فوق جزيئي، الأمر الذي يمكّن البيلاريرين من ربط الجزيئات المستهدفة. ويُحدَّد أي جزيء سيرتبط به بيلاريرين معين من خلال تصميم البيلاريرين، بما في ذلك حجم الفتحة والتركيبات الجزيئية حول حافتها.
يعد تخصيص سمات البيلاريرين أمرا مهما للتحكم في الأهداف التي ستتعرف عليها وترتبط بها، ويمثل لغزاً يجد فيه العازمي الكثير من التشويق. ويقول عن ذلك: “أنت ككيميائي، تصمم أشياء لا يمكنك رؤيتها، وتحاول أن تتصور الكيفية التي ستصنعها بها وتثبت أنها تعمل. هذا يشعرني بالرضا”.
يتمثل جزء من التحدي في أن الوحدات الفرعية في البيلاريرين قد تنقلب رأساً على عقب. ينقل هذا الدوران أي مكونات هيكلية متصلة من أعلى الحلقة إلى أسفلها، فيؤدي إلى تغيير الخصائص الجزيئية للبيلاريرين، ومن ثم، الأهداف التي سيتعرف عليها. يتعامل الباحثون مع هذا الأمر من خلال وضع مرفقات كبيرة وضخمة على الوحدات الفرعية لمنع انقلابها. فاستخدام العديد من المرفقات الضخمة يمنع الوحدات الفرعية من الدوران، لكنه يمنع أيضاً الجزيء المستهدف من الوصول إلى التجويف.
استنتج العازمي أن إزالة إحدى المجموعات الضخمة قد ينتج عنها جزيء قليل الدوران أو من دون دوران وتجويف يسهل الوصول إليه. وقال: “في الواقع ، نجحت هذه التقنية بشكل مثالي. لقد أحدثت نوعاً من البوابة لدخول التجويف”.
تسمح الفجوة للجزيء المستهدف بدخول التجويف، وعلى الرغم من أن الوحدات الفرعية ما زالت تنقلب، فإن دورانها بطيء بما يكفي لفريق العازمي ليكون قادراً على تصميم بيلاريرينات قادرة على أن تميز حتى الجزيئات المتشابهة جداً.
هذا النجاح ليس سوى الخطوة الأولى نحو استخدام البيلاريرينات كمُستقبِلات وظيفية. قال العازمي: “تعمل هذه المركَّبات كمنصة”. وتتمثل الفكرة في إتقان تقنيات بناء البيلاريرينات والتحكم فيها ثم تخصيصها للتعرف على جزيئات معينة. وأضاف: “بمجرد حصولك على النظام الأساسي، كل ما عليك فعله هو اختيار المُستقبِل الصحيح، وبعد ذلك لا حدود لما يمكن أن تفعله”. وقال: “يمكنك بعد ذلك استخدامها لفصل ]الجزيئات[ والتعرف ]عليها[ في جميع أنواع المجالات، من الطب إلى البيئة”.
النهوض بالعلوم والصناعة الكويتية
حصل العازمي بفضل منحة من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي على جهاز قياس معايرة حراري متساوي الحرارة Isothermal titration calorimetry (اختصاراً: جهاز ITC) يستخدمه فريقه لتوصيف الجزيئات. وكانوا قبل ذلك يستخدمون تقنية تُعرف باسم مطيافية الرنين المغناطيسي النووي NMR، لكن العازمي أوضح أنها كانت أبطأ وتتضمن استدلالات من النمذجات، وهو أمر قد يؤدي إلى حدوث أخطاء. وباستخدام الجهاز ITC يمكنهم أن يقيسوا مباشرة الديناميكا الحرارية للارتباطات والتفاعلات في أنظمة البيلاريرينات فوق الجزيئية.
قال العازمي “لقد أتاح لنا ذلك المجال لفعل أمور كثيرة…حالياً يمكننا الحصول على البيانات بطريقة سريعة وموثوقة وملاحظة أي الطرائق أفضل بالفعل”.
يعرب العازمي عن الفخر لجلب هذه المعدات والخبرة إلى الكويت. وقال عن ذلك: “بالنسبة لي، لا تقتصر الأبحاث على صنع مركَّب جديد، بل يتعلق الأمر أيضاً بتدريب طلبة جدد وبناء الخبرات هنا وجلب تقنيات جديدة. العملية بكاملها مهمة”.
وأضاف إن هناك باحثين في مجال البيلاريرينات في الولايات المتحدة والصين يمكنهم المساهمة في مجال البحث، لكنه يفضل العمل على المستوى المحلي. وقال موضحاً: “أريد للعلم والتكنولوجيا التي نطورها والأشياء التي نفعلها أن تُجرى هنا في الكويت. هذا أحد أهدافي”.
قد تقطف الكويت قريباً ثمار أبحاث العازمي الذي اتصل مؤخراً بشركة نفط الكويت لتطوير البيلاريرينات التي ستساعد على عمليات استخراج النفط. فأحياناً تُضخ مياه البحر في آبار النفط لزيادة الضغط أثناء الاستخراج. لكن مياه البحر تحتوي على أيونات الكبريتات التي قد تتفاعل مع الباريوم في الأرض لتكوين كبريتات الباريوم التي ربما تسد الصخور المسامية الحاوية على النفط وتقلل الاستخراج. يعمل العازمي على تطوير بيلاريرينات يمكنها الارتباط بالكبريتات وإزالتها بشكل انتقائي، وقد اختبرها بالفعل. وهو يتوقع تحديد البيلاريرين الأمثل لهذا الغرض في الأشهر المقبلة، ثم سيستخدم فريقه ذلك لبناء مُستقبِل يساعد على الحد من مشكلة وجود الكبريتات أثناء استخراج النفط.
وللبيلاريرينات أيضاً تطبيقات محتملة في مجالات أخرى. فمن خلال التصميم الصحيح، يمكن استخدام مستقبلات البيلاريرين للكشف عن الأيونات في مجرى دم مرضى يعانون خللا في وظائف الكلى، الأمر الذي يمكِّن الأطباء من تتبع تركيزها. ويمكن أيضاً دمجها في آلات غسل الكلى للمساعدة على إزالة الأيونات الزائدة. ويمكن استخدام بيلاريرينات أخرى للكشف عن الملوثات في الماء. وقال العازمي إن بحثه قد يحدث تأثيراً في المستوى الدولي، موضحاً أن “هذه الأنواع من التطبيقات مهمة في كل مكان، وليس في الكويت فقط”.