أبناء بلا أمهات!!
بقلم د. قاسم زكي
ربما يظن بعض الأشخاص أن عنوان هذه المقالة سيتناول رواية أو مسرحية أو قصة فيلم، لكن السطور الآتية ستتطرق إلى اكتشاف علمي جديد أزيح عنه الستار في سبتمبر عام 2016، حينما نشرت المجلة العلمية “نيتشر كوميونيكيشنز” (Nature Communications) مقالة عن نتائج بحث علمي مثير سيكون له صدى كبير جدا في الفترة المقبلة، إذ يتضمن تفسيرات جديدة لعملية الإخصاب وتكوين الأجنة في عالم الحيوان (ومنهم الإنسان بالطبع)، ونتائج تبعث بعض الأمل وتحمل كثيرا من الجدل، مع تغيير مفاهيم علمية مستقرة منذ أكثر من مئتي عام.
لطالما سبق الخيال العلمي أبحاث العلماء ونتائجهم، كما حدث مع مخططات ليوناردو دافينشي؛ إذ تم تنفيذ أفكاره بعد وفاته بأكثر من ثلاثة قرون، فصُنعت السيارة والغواصة والطائرة والدبابة. وحدث هذا بالنسبة لاستنساخ البشر الذي تناولته قصص الخيال العلمي، كما في رواية عالم بلا رجال (World Without Men) عام 1958 للكاتب البريطاني تشارلز إيريك (Charles Eric; 1981-1921)، ورواية الكوكب العذري (Virgin Planet) عام 1959م للأمريكي بول أندرسون (Poul Anderson، 1926-2001م)، ورواية انقراض الرجل عام 1990م للكاتبة الكويتية طيبة الإبراهيم. يتخيل الرواة قدوم زمان يتمكن فيه العلماء من أن يستنسخوا الأطفال من النساء من دون حاجة إلى الرجل، وكيفية عيش النساء على الأرض من دون الحاجة إلى رجال. وها هي تلك الخيالات والأفكار تأخذ طريقها إلى المختبرات، ثم لتعيش بيننا في الحياة كحقيقة ملموسة. ومن ذلك قصة النعجة (دولي).
ويحلم العلماء بالحفاظ على العبقرية الإنسانية ليس فقط من خلال المحافظة على التراث الفكري وما كتبه المتميزون، ولكن بالمحافظة عليهم هم بالذات في كامل تركيبهم البيولوجي. ويدعو الخيال لتحقيق الرغبة في الحصول على ذرية منتقاة بعناية قبل أو بعد فحص الخلية الملقحة ومعرفة تركيبها الوراثي، ثم الدخول من خلال الجراحة الجينية (هندسة الإنجاب)، لإزالة الأمراض الخلقية والعيوب الوراثية، مثل البله المنغولي، فينتج إنسان يتمتع بالخلق السوي، بل يتخيل العلماء إمكان التحكم في جنس المولود وعدد الذكور والإناث والتخلص من جينات الإجرام والحقد والإحباط وإطالة عمر الإنسان، وزراعة أعضاء جديدة حسب الطلب بدلا من كلية تلفظ أنفاسها، وقلب معلول مرتخ. فهل هذا ممكن؟
يقول العالم (توني بيري) صاحب التجربة التي ذكرت في أول المقالة إن على المجتمع الاستعداد لتقبل اليوم الذي سيستطيع فيه الوالدان اختيار مواصفات الأبناء حسب الطلب، دون أن يكون هنالك تعارض مع المعتقدات الدينية.
والتعرف إلى خلق الأجنة ومحاولة فهمها على المستوى الخلوي والجزيئي خطوة على طريق “هندسة الإنجاب”، فدعونا نخُطْ إليها.
قدرة الخلية على تكوين كائن
منذ الأزل ربما لم يكن هناك من الكائنات سوى فرد أو زوج واحد فقط خلقه الله، ثم حدث له تكاثر حتى ملأ الكون. وحين خُلق الانسان، بدأ يُعمل فِكره في انتقاء واستئناس وإكثار وتربية الكائنات الحية، مما يحتاج إليها في معيشته، فحاكى الطبيعة ولاحظ أن بعض النباتات تتكاثر خضريا، أي بجزء ولو صغير من جسمها كورقة أو عقلة تعيد تكوين كائن كامل منها مثل الأصل، ولاحظ أن هناك نباتات تكون بذورا وتنثرها فتعيد تكوين نباتات مماثلة، فقام بتكرار ذلك وحصل على تلك النباتات وزرعها وحصدها وخزن محصولها. وفي عالم الحيوان كان ينتظر المولود فقط، وأحيانا كان يزاوج بين حيوانات معينة للحصول على أفراد مرغوبة.
ومع تقدم العلوم ولاسيما في المئتي سنة الأخيرة، بدأ الإنسان يفحص مكونات أجسام الكائنات الحية واكتشف الخلية، بل تمعن في مكوناتها، وبدأ يهندس تلك الخلايا، فأنتج منها نباتات كثيرة وبمواصفات معينة (مثل الإكثار الدقيق للنباتات في القوارير كالنخيل والموز)، بل بدأ ينقل مكونات معينة (مواد وراثية) من خلايا كائنات حية إلى خلايا النباتات فيما يعرف بالهندسة الوراثية، ثم يستولد من تلك الخلايا نباتات كاملة بمواصفات جديدة. لكن الخلايا الجسدية للحيوانات لم تستجب لإنتاج كائن حي كامل من الخلية كما في النبات. واعتمدت تلك التقنيات على القدرة الذاتية للخلية النباتية في الاستنساخ (ظاهرة “القوة الكامنة” Totipotency) وتكوين نبات كامل من خلية أو عدة خلايا؛ فالخلية النباتية لا تفقد قدرتها على التشكل والتمايز (Differentiation) إلى أنسجة، والأنسجة إلى أعضاء، بل إن الخلايا البالغة عادة ما يكون لها قدرة على الرجوع إلى حالة الطفولة أو تكوين خلايا إنشائية يمكنها بدء التخليق من جديد. أما الخلية الحيوانية فتفقد تلك القدرة الكامنة بعد مرورها بالمراحل الجنينية.
وكان من المستقر في علم الأحياء أن الطريقة الوحيدة للثدييات، التي يقف الإنسان على قمتها في التناسل، هي التقاء خليتين (مشيجين) إحداهما ذكرية (حيوان منوي) والأخرى أنثوية (بويضة) تحمل كل منهما العدد النصفي للكروموسومات (الصبغيات). وبمجرد اندماج المشيجين وتكون اللاقحة (الزيغوت Zygote) تبدأ في الانقسام الخلوي من دون تمييز للخلايا، ثم يحدث تخصص وتمايز في الشكل والوظيفة، لتتكون مجموعات من الخلايا المتشابهة لتكوِّن النسيج، وتنضم مع غيرها من الأنسجة لتكون الأعضاء، وتتصل الأعضاء معا لتكون الأجهزة التي تتألف معا في سيمفونية الجسد الذي يصب في هارمونية موسيقية كل الألحان الفردية الموزعة (نوتتها) المشفرة على مجموعات العازفين المهرة (الغدد الصماء)، حيث يقود أداؤهم المشترك ذلك المايسترو المنضبط الذي يقبع تحت سقف الجمجمة مباشرة (الغدة النخامية).
ولقد دأب الإنسان على تحسين السلالات الحيوانية بالتهجين تارة، لإنتاج حيوانات متميزة، وبالتهجين الصناعي مختبريا، وزادت رغبته في زيادة برامج التحسين لعزل الخلايا الناتجة عن انقسام الجنين (العلقة) الناتج من التلقيح الصناعي بعد عدة انقسامات، وإعادة زراعتها كخلايا منفردة داخل أنابيب، للحصول على عدة أجنة تزرع في عدة أرحام لتنتج حيوانات متطابقة وراثيا وتشبه التوائم المتطابقة، ويعد ذلك استنساخا.
إعادة برمجة الحياة
حمل عنوان الدراسة الجديدة (إنتاج فئران عن طريق إعادة برمجة الانقسام الميتوزي للحيوانات المنوية وحقنها في خلايا التوالد العذري الأحادية). وتُظهر نتائج هذه التجارب المثيرة إمكانية إنتاج أجنة بشرية دون الحاجة لبويضات الأم (أبناء بلا أمهات)، فيكفي أي خلية من جسم الفرد ليتم إخصابها بحيوان منوي لينتج الجنين البشري. فيمكن أن تؤخذ خلية من جلد رجل ما وتخصب بحيوان منوي منه لينتج جنينا يُزرع في رحم امرأة لينتج فردا جديدا يتشابه مع ذات الشخص. بل ذكر علماء الأجنة إمكانية قيام اثنين من الرجال المثليين المتزوجين (Gay Men) بإنتاج طفل منهما، حيث يقدم أحدهما الحيوان المنوي والآخر أي خلية جسدية منه ليتم إخصابها ثم يتكون الجنين لينمو في رحم امرأة ليولد طفل لهما (أيضا، أبناء بلا أمهات).
وعلى الرغم من غرابة تلك الاستنتاجات وطرافتها، واشمئزاز بعض الأشخاص منها ولاسيما كارهو المثلية الجنسية، فإن لها بعض الفوائد العلمية والتطبيقية. وتقتضي الأمانة منا أن نذكر أن فريق البحث الذي أجرى هذه التجربة الفريدة، والذي يقوده العالم (بيري) كان غرضه الأساسي هو فهم الآلية الدقيقة لعملية الإخصاب؛ نظرا لأن ما يحدث عندما يندمج حيوان منوي مع بويضة مازال يكتنفه بعض الغموض. فمنذ عام 1827 حين شاهد علماء الأجنة البويضات الأنثوية للمرة الأولى، وبعدها ب 50 عاما عرفوا كيفية عملية الإخصاب، لم تزد معلوماتهم عن أنه بلقاء واندماج المشيجين يكتمل تكوين المادة الوراثية وينتج فرد عادي لهذا النوع الحيواني.
تجربة حديثة
لكن العوامل الدقيقة التي تتحكم في سير تلك المعجزة الإلهية لم تكن معروفة بالضبط، وبخاصة العمليات التي يبدأ فيها تكوين الجنين ومراحل الانقسام الخلوي ودور المادة الوراثية لكلا المشيجين في إتمام تكوين الجنين. وهكذا استقرت تلك الحقيقة التي مفادها بأنه لتكوين الجنين لابد من وجود بويضة أنثوية تحمل نصف المادة الوراثية وتخصب بحيوان منوي. وجاءت التجربة الحديثة لتغير هذا المفهوم؛ إذ قام فريق البحث المكون من سبعة علماء في مختبر علم أجنة الثدييات الجزيئي بقسم علم الأحياء والكيمياء الحيوية في جامعة باث البريطانية، بالتعاون مع فريقين من ألمانيا باستخلاص بويضات فئران برية، ثم معاملتها بمواد كيميائية معينة وتحت ظروف نمو محددة مع التحكم في عمليات الانقسام الخلوي لها. وهذه الظروف أدخلتها في حالة شبيهة بالإخصاب، ثم أتي بالحيوانات المنوية التي تم معاملتها أيضا، وجرى حقنها مجهريا داخل البويضات المعاملة (التي دخلت مسبقا في طور التشكل الجنيني)، ثم جرى الدمج بين نواتي الحيوان المنوي والبويضة تحت ظروف تحكم كامل وفي مراحل انقسام خلوي معين، ورصد الخطوات وتصويرها، ثم تم وضع الأجنة المتكونة في أرحام إناث بالغة، وقد ولدت أفرادا طبيعية تماما وذات صحة جيدة، وكبرت تلك الأَدْراص (صغار الفئران) وأنجبت أَدْراصا، بل كبرت صغارها أيضا وأنجبت أحفادا لتكتمل ثلاثة أجيال متعاقبة. وقد تمتع هذا النسل من الفئران بصحة جيدة، وكان متوسط عمرها المتوقع طبيعيا، كما أنها تمكنت من الإنجاب العادي.
ولاحظ الفريق البحثي أن البويضات يمكن “خداعها” ودفعها إلى الدخول في مراحل التطوير إلى الجنين من دون الإخصاب، لكن الأجنة الناتجة عن ذلك (التي تسمى Parthenogenotes)، تموت بعد بضعة أيام بسبب توقف عمليات النمو الرئيسية التي تتطلب مُدخلات من الحيوانات المنوية. لذا، طور هؤلاء العلماء طريقة لحقن تلك اللاقحات (الزيغوتات) الأحادية بحيوانات منوية تسمح لها بأن تصبح فئرانا صغارا سليمة وطبيعية.
ذكرى (دولي) وتجربة الاستنساخ
هنا تعود بنا الذاكرة إلى عقدين من الزمان حينما أعلن العالم البريطاني أيان ويلموت في 27 فبراير 1997 نجاح فريقه في استنساخ النعجة (دولي) من غير طريق التكاثر الجنسي الطبيعي، وذلك بزراعة نواة خلية جسدية مأخوذة من ضرع نعجة يراد استنساخها، وغرسها في بويضة نعجة أخرى منزوعة النواة، ثم زرع اللاقحة (الزيغوت) هذا في رحم نعجة ثالثة، فولدت الحَمل (دولي). ولكن في تجربة (دولي) تلك لم تنجح أي خلية جسدية في التشكل لتصبح جنينا، لذا جرت الاستعانة بخلية البويضة الأنثوية، وكانت نسبة النجاح تراوح بين %1 و%2، في حين أنه في تجربة (بيري) لم يكن ضروريا استخدام البويضات. وعلى الرغم من استعمالهم إياها فقد عُوملت لتصبح لاقحة من دون إخصاب، وكانت نسبة النجاح %24 (حيث نتج جنين بين كل أربع حالات إخصاب).
ما بعد تجربة بيري
انطلاقا من تلك التجربة قال علماء الأجنة إنه إذا كان حقن حيوانات منوية في أشباه لاقحات الفئران ينتج عنه صغار أصحاء، فيمكن في يوم ما تحقيق النتائج نفسها لدى الإنسان باستخدام خلايا ليست من البويضات (هندسة الإنجاب).
ولعل هناك بعض الفوائد في حال نجاح تلك التجارب على البشر، وبخاصة بعد تطبيقها على خلايا الجلد بدلا من البويضات وإخصابها بحيوانات منوية. فمثلا تستطيع الأمهات اللاتي فقدن خصوبتهن نتيجة عقاقير علاج السرطان أو استعمال الأشعة، استعمال خلايا جسدية أخرى لهن كالجلد بدلا من البويضات، وحتى في حال كبر سن الأمهات يمكن استعمال تلك الطريقة لتعويض ما فاتهن واللحاق بالسيدات المنجبات للأطفال.
ولقد صدقت نبوءة (بيري) فيما بعد، والتي حذر فيها من أن “على المجتمع الاستعداد لتقبل اليوم الذي سيستطيع فيه الوالدان اختيار مواصفات الأبناء حسب الطلب”؛ فقد أشارت مجلة “نيو ساينتست” (New Scientist) العلمية في 24 سبتمبر الماضي إلى نجاح ولادة أول طفل في العالم (وهو أردني) باستخدام تقنية خصوبة جديدة تسمى (تبرع الميتوكوندريا) ويتمتع بصحة جيدة. ويحمل الطفل (المولود في إبريل 2016) الحمض النووي الطبيعي لأمه وأبيه، إضافة إلى قدر قليل (%1) من الشفرة الوراثية لإحدى المتبرعات، لضمان ألا يكون للطفل الحالة الوراثية نفسها التي تحملها والدته الأردنية في جيناتها، والتي كانت تعاني خللا يطلق عليه “متلازمة لي-فراوميني” (Li-Fraumeni syndrome)، وهو مرض وراثي نادر يتسبب بخطر متزايد للإصابة بالعديد من أنواع السرطان، أدى إلى فقدها ابنين وإجهاضها 4 مرات.
وأخذ الفريق الذي أجرى العملية نواة بويضة الأم وزرعها في بويضة الأم المتبرعة (بعد التخلص من نواتها، مع بقاء الميتوكوندريا في السيتوبلازما) لتكوين بويضة جديدة سليمة أمكن إخصابها بالحيوانات المنوية للأب. والميتوكوندريا هي أجزاء صغيرة توجد داخل كل خلية حيوانية (وبشرية) وتعمل كمكان لإنتاج الطاقة، وتحمل قدرا قليلا من المادة الوراثية مسؤولة عن بعض الصفات مثل «متلازمة لي-فراوميني».