تكنولوجيا

الموصلية الفائقة في خدمة الطاقة والبيئة

م. خالد العنانزة

أصبحت ظاهرة الموصلية الفائقة في السنوات الأخيرة من التعبيرات السحرية المستخدمة في ميادين العلوم والتقانة، ولم يعد الاهتمام بها مقتصراً على الباحثين والعلماء فحسب، بل امتد ليشمل وسائل الإعلام وعامة الناس.
وبعد أن بقيت هذه الظاهرة حبيسة المختبرات ويكتنفها الغموض لعشرات السنين؛ تكشفت حديثا بعض فوائدها وتطبيقاتها في ميادين الطب والنقل والطاقة والبيئة والمواصلات والصناعة. ويصنف بعض الباحثين الموصلية الفائقة بأنها واحد من أعظم اكتشافات القرن العشرين. وتوقع تقرير حديث لهيئة أبحاث التكنولوجيا العالمية في لندن أن ينمو السوق العالمي لتجارة الموصلات الفائقة في الفترة من (2015 – 2019) بمعدل %3.46.

الموصلية الفائقة هي ظاهرة في الفيزياء تحدث في بعض المواد عند تبريدها إلى درجات حرارة منخفضة جداً تقترب من الصفر المطلق (صفر كلفن)، حيث تسمح بمرور الكهرباء خلالها دون أي مقاومة كهربائية تقريباً.
وتنخفض المقاومة الكهربائية للموصلات المعدنية عادة بشكل تدريجي مع انخفاض درجة الحرارة، وفي حالة الموصلات العادية كالنحاس أو الفضة فإن الشوائب الموجودة في المادة تمنع الوصول إلى حد أدنى من المقاومة في درجات الحرارة المنخفضة. ولذلك فعند الاقتراب إلى درجة حرارة تقارب درجة الصفر المطلق فإن عينة من النحاس مثلاً لا يمكن أن توصل لدرجة مقاومة تساوي الصفر. أمَّا في حالة الموصلات الفائقة فإنَّ المقاومة تنخفض على نحو مفاجئ إلى الصفر عندما يتم تبريد المادة إلى درجة حرارة أقل من الدرجة الحرجة لهذه المادة، غالباً 20 كلفن أو أقل. وتحدث حالة التوصيل الفائق في تشكيلة واسعة من المواد مثل: المعادن الخفيفة كالقصدير والألمنيوم، والسيراميك والسبائك الثقيلة، وبعض أشباه الموصلات، لكن لا يمكن صنع موصلات فائقة من المعادن النبيلة كالذهب والفضة، ولا من معادن ذات مغنطيسية حديدية.

القصة من بدايتها
تاريخ الموصلية الفائقة شهد لحظتين تاريخيتين؛ الأولى اكتشاف الفيزيائي الهولندي كامرين أونز ظاهرة الموصلية الفائقة في المعادن عام 1911، والأخرى اكتشاف مولر وبيدنورز موصلات فائقة عند درجات الحرارة العالية عام 1987.
صادف العالم كامرين أونز ظاهرة الموصلية الفائقة أثناء دراسة له عن أثر درجات الحرارة البالغة الانخفاض على خصائص المعادن، إذ أشار إلى أنه إذا تم غمر مواد معينة في سائل الهليوم الذي تبلغ حرارته نحو 4 درجات كلفن فإن المادة المغمورة تصبح فائقة القدرة على التوصيل الكهربائي.
وشهدت العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي حركة تجريب متنامية هدفت إلى إنتاج الموصلية الفائقة عند درجات حرارة مرتفعة نسبياً، باستخدام وسائط تبريد أقل كلفة وتعقيداً. وتحققت نتائج مشجعة في هذا المضمار عام 1933 عندما تمكن العلماء من إنتاج ظاهرة الموصلية الفائقة عند درجة حرارة 10 كلفن في خليط من المواد المركبة.
وفي عام 1969 تم إنتاج موصلات فائقة عند درجة حرارة 20 كلفن. وعلى الرغم من الجهود المكثفة التي تلت هذا الإنجاز؛ فإنه لم يتم إحراز أي تقدم يذكر في هذا المجال حتى عام 1987، عندما أعلن أليكس مولر وجورج بيدنورز نجاحهما في إنتاج ظاهرة الموصلية الفائقة عند درجة حرارة 30 كلفن من تحضير خليط من الباريوم والنحاس والأكسجين واليوتيريوم، وتم منحهما جائزة نوبل في الفيزياء تقديراً لذلك الإنجاز.
وبعد ذلك توالى النجاح في هذا المضمار في أكثر من بلد، وكان من أبرزها تجربة العالم الياباني شينغ واشو في إنتاج الموصلية الفائقة عند درجة حرارة 98 كلفن. وفي عقد التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين برزت إمكانية استخدام النتروجين كوسط تبريد الذي يتحول إلى سائل عند درجة حرارة 77 كلفن، وهو أرخص من الهليوم. ووفقاً لبحث حديث نشرته دورية nature في أغسطس 2015 فقد تمكن باحثون في معهد بلانك للكيمياء بألمانيا من الحصول على ظاهره الموصلية الفائقة في مركب كبريتيد الهدروجين في درجة حرارة مرتفعة قياسياً، تبلغ 203 كلفن، ويعد هذا العمل خطوة تاريخية في اتجاه اكتشاف الناقل فائق التوصيل في درجة حرارة الغرفة الذي طال البحث عنه.

ظاهرة الرفع
لما كان الموصل الفائق هو موصل تام التوصيل ليس له مقاومة كهربائية على الإطلاق، فإننا إذا أدخلنا تياراً كهربائياً في دائرة من سلك فائق التوصيل فسيستمر هذا التيار في السريان مادام تبريد السلك مستمرا، ليظل محتفظاً بموصليته الفائقة.
ويسمى التيار الذي لا يجد مقاومة لسريانه بالتيار المداوم، حيث تحدث التيارات المداومة في دارات من الموصلات الفائقة مجالات مغنطيسية متغيرة، ينشأ عنها ظاهرة الرفع المؤثر levitation effect. إن استخدام ظاهرة الرفع في تصنيع القطارات يساهم في منع الاحتكاك ومن ثم خفض الطاقة المهدورة، لأن المغنطيسيات الكهربائية التقليدية تهدر الكثير من الطاقة الكهربائية على شكل حرارة.

تطبيقات بيئية
كيف يمكن للموصلية الفائقة أن تساهم في خفض الحمل البيئي لنشاطات الإنسان؟ ربما ينكر بعض الأشخاص وجود تطبيقات لها لتحسين البيئة، لأن الموصلات الفائقة تعمل عند درجات حرارة منخفضة ونحتاج إلى طاقة لتبريدها، لكن الحقيقة غير ذلك؛ إذ تظهر الدراسات وجود تطبيقات بيئية مثيرة، أهمها جهاز الفصل المغنطيسي magnetic separator الذي يستخدم لفصل الجسيمات اعتماداً على خصائصها المغنطيسية، لأغراض تنقية المياه ومعالجة الملوثات وتركيز الخامات المعدنية، حيث يعمل الجهاز على مزج الخليط أو المياه العادمة أو النفايات السائلة المكونة من أكثر من مادة بسائل مغنطيسي، وتحريكها داخل أنبوب بحركة دائرية سريعة، فيقوم هذا الأنبوب المصنوع من مواد فائقة التوصيل بمحاكاة عمل غربال يفصل المواد تبعا لخصائصها المغنطيسية، أما الملوثات غير المغنطيسية مثل الفيروسات، الطحالب، الفوسفات، الملوثات الذائبة، فيتم إزالتها بطريقة التخمير المغنطيسي (magnetic seeding technique) وهي عملية يتم فيها تنشيط الخصائص المغنطيسية للمواد المستهدفة.
ولا يقتصر استخدام الموصلية الفائقة في الحقل البيئي على معالجة التلوث فحسب، بل يتضمن تطبيقات أخرى مثل إزالة الكبريت من الفحم المحروق ومعالجة سوائل التبريد في محطات الطاقة النووية وخفض انبعاثات الكربون من خلال تعزيز نقل وتخزين الطاقة وتصنيع أجهزة الحاسوب الفعالة للنماذج المناخية، وتصميم مجسات لمراقبة التلوث، ووسائل نقل ذات أثر بيئي منخفض.

تطبيقات الطاقة
تظهر الدراسات أن قطاع الطاقة سيحظى بأكبر نسبة من تطبيقات الموصلية الفائقة إذ يتوقع العلماء استخدامها في منظومات توليد الطاقة ونقلها وتوزيعها. إن استخدام الموصلية الفائقة في تصنيع المولدات والمحولات والكابلات الكهربائية يؤدي إلى زيادة الكفاءة وتقليل الهدر في الطاقة وخفض الوزن وخفض الانبعاثات البيئية، فمثلاً يمكن للكابلات المصنوعة من المواد الفائقة حمل تيارات كهربائية تصل إلى خمسة أضعاف ما يتحمله كابل من النحاس بالمواصفات نفسها.
أما المولدات الكهربائية التقليدية فيتم تصنيعها من سبائك النحاس والفضة، في حين تصنع المولدات الكهربائية الحديثة من موصلات فائقة، وغالباً ما تكون هذه المولدات أخف وزناً وأصغر حجماً وأكثر كفاءة من المحولات التقليدية. ويعمل مركز أبحاث القوات الجوية الأمريكية على الاستفادة من ظاهرة الموصلية الفائقة في توفير طاقة من الكهرباء للقاذفات في حزم صغيرة وخفيفة الوزن وأكثر كفاءة من الأجهزة الموصلة العادية، بحيث توفر لها الطاقة أطول فتره ممكنة وهي محلقة في الجو.
كما يعمل العلماء على توليد الطاقة الكهربائية من خلال تأثير الكهرباء والمغنطيسية على الغازات المتأينة، وتسمى هذه الطريقة بديناميات مغنطيسية الموائع Magneto-Hydro-Dynamics، وتقوم على أساس المبدأ الفيزيائي الذي ينص على أنه تتولد فولتية في موصل إذا تحرك في مجال مغنطيسي، ويستخدم الفحم لرفع درجة حرارة الغازات المتأينة، وستبقى هذه الطريقة ذات إنتاجية محدودة، إذا لم يتم إدخال الموصلات الفائقة في موادها عندها ستصبح ذات كفاءة أعلى ولا يصدر عنها انبعاثات للبيئة.
ويتوقع أن تساهم الموصلية الفائقة في ميدان الطاقة المتجددة، لعل من أبرزها الطريقة المعروفة باسم تخزين الطاقة المغنطيسية باستخدام الموصلات الفائقة superconducting magnetic energy storage (SMES). وهناك تجارب كثيرة لاختبار هذه الطريقة.
ويعمل العلماء حالياً على استخدام مواد فائقة التوصيل في شبكات توزيع الطاقة لتقليل الهدر في الطاقة. وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة التي تحققت في هذا المجال فإن عدداً من العقبات ما زالت قائمة، وهي صعوبة تصنيع السبائك التي تتحقق فيها الموصلية الفائقة عند درجات حرارة مرتفعة نسبياً إضافة إلى صعوبة تشكيل الموصلات الفائقة في صورة أسلاك وكابلات والحاجة إلى منظومات تبريد مناسبة.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى