د. علي أسعد وطفة
تتشـكل شـخصية الفـرد عـلى منـوال التربية التي يتلقاها في وسطه الاجتماعي، والإنسان كما يؤكد فلاسفة التربية – هو الكائن الوحيد في مملكة الكائنات الحية الذي يغدو إنساناً بالتربية؛ فنحن ما نحن عليه بفضل التربية. فالسمات الشخصية كالثقة بالنفس واللامبالاة والاتكالية والقدرة على الإنجاز والشعور بالنقص أو تأكيد الذات والفردية والميل إلى التعاون، وغيرها من السمات الشخصية تعود؛ إلى أسلوب ونمط التنشئة الاجتماعية السائدة في مجتمع ما.
وقد يتصور بعض الأشخاص أن التربية عملية بسيطة وسهلة ، لكنها في واقع الأمر من أصعب الفنون وأخطرها على تنشئة الأطفال وحياتهم. وقد أجمعت تجارب العلماء وتأملاتهم على خطورة التربية ولاسيما عندما يرتكب الآباء والأمهات أخطاء تربوية قد تكون بالغة الضرر على حياة الأطفال ومستقبلهم.
ومن المعروف أن جميع العقد النفسية والانحرافات السلوكية تعود إلى أسباب تربوية. ومن هنا نجد أن الأطباء النفسيين يبحثون عن الأسباب التربوية لمختلف الأمراض النفسية والانحرافات السلوكية، ولاسيما تلك التي عاشها الأفراد في مرحلة الطفولة والطفولة المبكرة منها. ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى أهمية ما يسمى بالمراحل الحرجة للتطور مثل: مرحلة المرآة عند لاكان، المرحلة الأوديبية عند فرويد، مرحلة الرضاعة عند ميداني كلاين، ومرحلة تشكل الهوية عند أريكسون، ومرحلة إرضاء الحاجات عند ماسلو. وهي المراحل التي تولي أهمية خاصة لعملية التطور، وتتمحور في مرحلة ما دون الخامسة من عمر الأطفال. ولا بد لنا في هذا السياق من الإشارة إلى مصداقية الأقوال المأثورة التي تقول: إن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، ومن شب على شيء شاب عليه.
ويرى الباحثون والمربون في مجال التربية أن على الأبوين تجنب مجموعة من الأخطاء الكبيرة التي يمكن أن تقود الطفل إلى الانحراف في المستقبل. ونستعرض فيما يأتي أهم الأخطاء التربوية المدمرة لشخصية الطفل، وهي أخطاء يجب تفاديها لحماية الطفل من الانحراف:
1 – العنف والتسلط:
يقوم هذا الأسلوب التربوي على مبدأ الإلزام والإكراه والإفراط في استخدام السلطة الأبوية، وعلى مبدأ العلاقات العمودية، والعلاقات بين السيد والمسود، بين الكبير والصغير، بين القوي والضعيف، بين التابع والمتبوع. ويمارس العنف هنا بأشكاله النفسية والفيزيائية ويقوم على:
1 – اللجوء إلى العنف بأشكاله.
2 – المجافاة الانفعالية والعاطفية بين الآباء والأبناء.
3 – وجود حواجز نفسية وتربوية بين الآباء والأبناء.
ويتم اللجوء هنا إلى أساليب القمع والازدراء والاحتقار والتهكم والامتهان والتبخيس، وأحكام الدونية والتخويف والحرمان والعقاب الجسدي، وهناك غياب كامل لعلاقات الحب والحنان والتساند والتعاطف.
ويكمن أسلوب التسلط هذا في أصل العقد والأمراض النفسية مثل: عقدة النقص، عقدة الخصاء والخصاء الظني، عقدة أوديب، عقدة الإهمال، عقدة المنافسة الأخوية, عقدة الذنب، وعقدة فقدان الأمن. والاتجاه التسلطي في التربية يمكنه أن يفسر مختلف مظاهر الاضطرابات والأمراض النفسية.
2 – الترك والإهمال في تربية الطفل:
وقوامه ترك الطفل دون تشجيع على السلوك المرغوب عنه؛ فالأم لا تستجيب لبكاء طفلها الرضيع مثلاً، ومن أسباب هذا الأسلوب عدم التوافق الأسري، وعدم الرغبة في الطفل. ومن نتائجه بناء شخصية هامشية قلقة متوترة وفقدان الثقة بالنفس، وفقدان الإحساس بالأمن وعقدة الإهمال.
3 – التذبذب في معاملة الطفل:
يعد اتجاه التذبذب في المعاملة من أخطر الأساليب التربوية في التأثير على سلامة الشخصية الإنسانية وأمنها. وبتمثل هذا الاتجاه في عدم استقرار الأب أو الأم من حيث استخدام أساليب الثواب والعقاب، وهذا يعني أن الطفل قد يثاب في موقف ما ثم يعاقب مرة أخرى للموقف عينه. وهناك أمثلة كثيرة لأساليب المعاملة الوالدية. وقد يكون هذا التذبذب نتيجة اختلاف الأب والأم في معاملة الطفل، ويكون ذلك عندما تعامل الأم طفلها بحنان وحب في حين يعامله الأب بخشونة وعنف. فالأب كما هو سائد في تربيتنا يجرح والأم تداوي، الأب يكسر والأم تصلح.
وغالباً ما يترتب على هذا الاتجاه شخصية متقلبة ازدواجية منقسمة على نفسها، وهي موجودة في حياتنا اليومية، فالطفل الذي عانى التذبذب في معاملته غالباً ما يعاني ازدواجية الشخصية وصراعات داخلية لا حدود لها، ويمكن للإفراط في استخدام هذا الأسلوب أن يؤدي إلى اضطرابات نفسية بالغة الأثر.
ويتفق المربون على أن أسلوب التربية الثابت في معاملة الأطفال يؤدي إلى نتائج تربوية إيجابية. حيث يجب على الأب ألا يكون قاسيا والأم عطوفة أو بالعكس، وذلك ليجنبا الأطفال الصراع الناشئ عن تناقض المعاملة، والذي له أسوأ الآثار في نفوسهم؛ لأن ذلك يؤدي بهم إلى الاضطراب النفسي وعدم الثقة بالنفس والانحراف في السلوك.
4 – الحماية الزائدة:
يتمثل هــــذا الاتجاه في قيام أحد الوالدين أو كليهما بتوفير أجواء حماية مبالغ فيها، حيث يقومان بالواجبات التي يفترض أن يقوم بها الطفل. وهناك أسباب لمثل هذه الأسلوب؛ مثل الطفل الوحيد الذي تخاف عليه الأم، وتبالغ في حمايته، أو الــولد الذكر بين مجموعات إناث. ومثل هذا الأسلوب يقتل في الطفــل روح الاستقلال والنزعة إلى المبادرة، فينشأ ضعيفاً واهناً اتكالياً، ويترتــــب على ذلـك عدم قدرة الطفل على التكيف في إطار حياته الاجتماعية اللاحقة. وترتبط مظاهر فقدان الثقة بالنفس والاتكالية المفرطة بنمط هذا الأسلـــوب المتبع في التربية.
والأم التي تدلل وليدها تقوم هي نفسها نيابة عنه بأداء كل الواجبات التي يترتب عليه القيام بها, حيث تحدد له جهة صرف نقوده واختيار ملابسه نيابة عنه دون إشراك له في هذه الأمور التي تعتبر من أموره الخاصة، فهي تختار له أصدقاءه، وإذا ما اعتدى أحدهم عليه قامت بالدفاع عنه. ومن المظاهر الأخرى للإفراط في الرعاية أن يوجد من الآباء من يساوره القلق لدرجة الفزع حول سلامة أبنائه من الخطر أو المرض فيفرض عليهم نظاما معيناً من الطعام خوفاً على صحتهم، ويشرف على لعبهم حتى في المنزل وسط رفاقهم، ويتابع كل حركات أطفاله وسكناتهم خوفا من تعرضهم للخطر.. إلى غير ذلك من مظاهر الإفراط في الرعاية.
ومثل هذا الطفل الذي يعاني الحماية الزائدة ينمو بشخصية ضعيفة، خانعة، غير مستقلة تعتمد على الآخرين في قيادتها وتوجيهها، وغالباً ما يسهل استثارتها واستمالتها للفساد حتى ضد الوطن والعمل في الجاسوسية أو جرها إلى أوجه الفساد نتيجة ضعفها وعدم تحملها للمسؤولية، وسرعان ما تصطدم بالواقع والقوانين بعد فوات الفرصة. وتظهر على صاحبها الكثير من استجابات الانسحاب وفقدان التحكم الانفعالي، ورفض المسؤولية. ويبدو على هذه الشخصية أيضاً الخوف من تحمل المسؤولية. ومثل هذه الشخصية غالباً ما تكون حساسة بشكل مفرط للنقد.
5 – التفرقة والمحاباة:
يقوم هذا الأسلوب على التمييز بين الأطفال: بين الذكور والإناث، بين الكبار والصغار، وهذا الأسلوب يولد إحساس العقدة الأخوية وفقدان الثقة بالنفس والاضطرابات النفسية. ونعني بالمحاباة عدم المساواة بين الأبناء جميعا والتفضيل بينهم وفقا للجنس أو ترتيب المولد أو السن أو أي سبب آخر.
فالوالدان اللذان يجريان المقارنة بين أطفالهما باستمرار بصورة علنية ينميان في أبنائهما عقدة النقص وعدم الثقة بالنفس. ولا بد لنا هنا من ضرورة الحذر من عقد المقارنات بين الأطفال عندما تكون الظروف غير متساوية.
فالآباء على سبيل المثال قد يسمحون للأبناء الذكور بمقابلة أصدقائهم في المنزل في حين لا يسمحون لبناتهم بذلك، وهم قد يحابون الذكور فيما يتعلق بنفقاتهم وملابسهم. ويضاف إلى ذلك أن الأخوات الإناث مطالبات في هذا السياق بإعداد الطعام لإخوتهن الذكور، وتقديم الخدمات الضرورية مثل الشاي والقهوة، وإعداد وترتيب غرف النوم، حتى لو كان ذلك على حساب الدراسة.
ويؤدي مثل هذا التوجه التبايني إلى بناء شخصية أنانية اتكالية تعتاد على أن تأخذ دون أن تعطي، وتميل إلى العيش على حساب الآخرين مدركة لحقوقها، جاهلة بواجباتها.
6 – التدليل الزائد:
ويتمثل هذا الخطأ في تشجيع الطفل على تحقيق معظم رغباته بالشكل الذي يحلو له، وعدم توجيهه لتحمل أي مسؤولية تتناسب مع مرحلة النمو التي يمر بها، وقد يتضمن هذا الاتجاه تشجيع الطفل على القيام بألوان من السلوك غير المرغوب فيها اجتماعياً، ودفاع الوالدين عن هذه الأنماط السلوكية غير المرغوب فيها ضد أي توجيه أو نقد يصدر عن الطفل إلى الخارج.
وغالباً ما يكون هذا الاتجاه نتيجة لوجود الطفل الذكر مع إخوة له من البنات أو ميلاده بعد طول انتظار. وتظهر ألوان التدليل في صور متعددة؛ فمثلاً عندما يبدأ تعلم الكلام ويسب أمه وأباه غالباً ما نجدهما يضحكان، وإذا أخذته أمه في زيارة لإحدى صديقاتها قد يشد منضدة فتسقط مزهرية ثمينة مثلاً، وتكتفي الأم بالاعتذار دون إعادة تقييم لأسلوبها التربوي الخاطئ مع ابنهــا، ودون إشعــار للطفــل بخطئــه.
ويترتب على هذا الاتجاه في التربية شخصية قلقة مترددة تتخبط في سلوكها بلا قواعد أو حدود، وربما تكون شخصية متسيبة كثيراً ما تفقد ضوابط السلوك المتعارف عليها. ومثل هذا الطفل عندما يكبر نجده غالباً غير محافظ على مواعيده ولا يستطيع تحمل مسؤولية يعهد بها إليه، وغالباً ما يكون غير منضبط في سلوكه أو في عمله، بل يعتمد دائما على الآخرين من ذوي المراكز من الأقارب أو المعارف (المحسوبية) في الوصول إلى أهداف محددة أو مناصب معينة.
7 – تخويف الطفل:
يعتبر غرس الخوف في نفوس الأطفال خلال فترة الطفولة من الوسائل التي يستخدمها الأبوان لردع أطفالهما وجعلهم مطيعين. ويتمثل هذا الأسلوب في تخويف الطفل من الجن والشياطين والطيور والوحوش والغيلان والحشرات مثل الأفاعي والعقارب وتهديدهم بذلك. وقد يلجأ الأبوان إلى تخويف الطفل وتهديده برميه من الأمكنة العالية.
ولهذا الأسلوب نتائج وخيمة جداً على شخصية الطفل؛ فقد يؤدي إلى توليد مختلف الرهابات والمخاوف غير الطبيعية عندما يكبر، مثل الخوف الشديد من الحشرات أو رهاب الأمكنة العالية والخوف من الطيور أو الأشياء الطبيعية. وهذه المخاوف تؤدي في نهاية المطاف إلى عقد وأمراض وضعف في الشخصية لا يستطيع الفرد أن يعالجها في المستقبل.
8 – الكذب على الأطفال:
بعض الآباء يعدون الأطفال بأشياء ثم لا يفون بوعودهم ويماطلون ويكذبون. وهذا الأسلوب يؤدي إلى انحراف سلوكي عند الطفل، فالطفل الذي يعاني بسبب كذب والديه سيجعل من هذه الطريقة منهجه في الحياة والعمل، وسيصبح الكذب سمة من سماته وخاصة من خواصه الأخلاقية. ومن هنا يجب تجنب أي سلوك كاذب أو خاطئ؛ لأن الطفل ينشأ على صورة أبويه. وفي هذا يقول الشاعر:
مشى الطاووس يوماً باختيال
فقلد شكل مشيته بنوه
فقـــــال عــــلام تختالون قالـــــــوا
بدأت به ونحن مقلدوه
وينشــــــأ ناشـــئ الفتيــــــــــان منا
عــلــى مـــــا كــــان عـــــــوده أبـــــــوه
وضمن هذا التصور فإن أي فعل خاطئ وغير صحيح يقوم به أحد الأبوين أو كلاهما يشكل نموذجا تربوياً للأطفال في المستقبل، ومن هنا ينشأ الكذب والسرقة والخصال السيئة للأطفال عندما يكبرون.
9 – تعليم الطفل قبل الأوان:
غالباً ما يلجأ الآباء إلى تعليم الطفل أشياء كثيرة قبل الأوان، كالمشي، والكلام، وحفظ النصوص، وحفظ جدول الضرب، والنظافة. والآباء هنا يريدون أن يصبح الطفل راشداً قبل أوانه. وهذا خطأ تربوي كبير؛ لأن تعليم الطفل قبل أوانه يؤدي إلى ضعف في شخصيته، وإلى نفور من القضايا التي يتعلمها. والقاعدة الصحيحة هي أنه يجب علينا أن ننتظر النضج النفسي والجسدي والعقلي لتعليم الأطفال. فالطفل ليس راشداً صغيراً بل هو صغير راشد، ومن هنا يجب العناية به وحمايته من كل أشكال التسلط والقهر. فالحفظ المبكر والتعليم المبكر لهما أضرار وخيمة على عقل الطفل ونفسه. وهذا ما تؤكده النظريات التربوية الحديثة.
10 – تبخيس الطفل وتحقيره:
يلجأ بعض الآباء إلى تبخيس الطفل وتحقيره، ويوجهون له إهانات مستمرة ويستخدمون ألقابا يعايرونه بها مثل: يا غبي، يا بليد، يا قليل الفهم، يا عديم الذكاء. وهناك عدد كبير من الكلمات التي يستخدمها الآباء تعمل على تبخيس الطفل وإهانته وتحقيره.
وهذا الأسلوب مدمر للطفل ويؤدي إلى إضعاف شخصيته بصـــورة مستمرة ودائمة. فهوية الطفل تتشكل بناء على نظرة أبويه إليـــــه، وإذا كانــــت هذه النظــــرة سلبية فإن الطفــــل سيتمثلها ويأخذها على محمل الجد وسيرى نفسه من خلالها؛ فالطفل الذي ينظر إليــــه والداه على أنه غبي سيصبح غبـــــياً في المستقبل، والطفل الذي نحقــــره سيضع نفسه في دائرة التحقير ولا يحترم ذاته. ومن الأفضل على الأبوين ضمه ومكافأته واستخدام كلمات التشجيع والتعزيز، واستثمار كل السمات والخصائص الإيجابية التي تعلي من شأن الطفل؛ لأن ذلك يؤدي إلى اكتسابه شخصية متوازنة متكاملة، وتعزيز ثقته بنفسه ووجوده.
إن هذه الأخطاء العشرة منتخبة؛ فهناك أخطاء كثيرة يمكن أن ترتكب تربوياً، لكن هذه الأخطاء هي أكثرها أهمية وخطورة وشيوعاً في ميدان تربية الأطفال. فالتربية تحتاج اليوم إلى ثقافة عالية ومعرفة علمية واسعة بالأسس النفسيـــــــة والاجتماعية والنظريات التربوية. وحبذا سعي الآباء إلى تجنب هذه الأخطاء لحماية أطفالهم من مختلف ضروب الانحراف والضعف والأمراض النفسية المحتملة مع تزامن هذه الأخطاء التربوية وتراكمها.